مقالات

“ربيع الإمام” حيث انحنى غصن “الأمباء” ليقبِّل ، وتساءل أبو مسلم “أترى العالم في القبر نزل”؟

—————————————
حمود بن سالم السيابي
—————————————

كان الزمن قصيراً بين حلم السناطوين المصطفَّة لدى مبيت رئيس النهضة العمانية بمسجد اليعاربة ببركة الموز واصطفاف الأنقياء الأتقياء قبالته في مسجد الشرع بتنوف.
وكان الرضي نور الدين السالمي يبتسم للحلم الذي يفسِّر نفسه بين اصطفاف واصطفاف.
وكانت اللحظة تسابق نفسها بين تغضُّن أغصان “الأمباء” شرقي “صوار” الفلج في “سبلة حارة السَّافل” بقرية بني صبح حيث الشجر يتماوج لتقبيل عمامة بيضاء تسرج الشمس ، وبين البندقية التي اشتعلت في ماسورتها كل أحقاد البشر لتغدر بأعز الرجال في خضراء بني دفّاع.
إنه “ربيع الإمام” كما اصطفاه أستاذنا محمد بن سيف الرحبي عنواناً لأحدث رواياته عن رجلٍ “جمع العالمَ في حيزومه”.
ولأن من سنن الربيع قِصَر العمر فإن “ربيع الإمام” بالقياس مع ما تلاه من الربيعيات هنا وهناك يظل أطولها.
ولو رصدنا “ربيع براغ” مع الفارق
في التشبيه سنصدم بقصر عمره وبموت عطره ، إذ سرعان ما زحفت دبابات “حلف وارسو” لتدوس زهور الربيع قبل أن تعصر رحيقها في قوارير الكريستال ، وقبل أن تأتلق ألوانها في المزهريات.
والحال ذاته مع ربيع بكِّين مع الفارق أيضاً إذ لم يُسمح لوروده أن تتضاحك (فتُفْسِدَ) بشذاها الشبيبة الشيوعية ، وتنسى نشيد “من دمنا من لحمنا سنبني سورا عظيما جديدا” لذلك سارعتْ سكاكين السلطة لقطع أوتار الجيتارات التي تتغنى بالحلم وانهالتْ الهراوت لتكسر تمثال الحرية الذي أقامه الطلاب في ساحة “تيان آن مين” فتمَّ تهشيمه وتهشيم من يصر على بقائه أو يفكر في استنساخه.
وبعثرتْ رياح الخماسين رماد نيران الربيع العربي مع الفارق كذلك ، وقبل انطفاء عيني محمد البوعزيزي ، فلا “أتى الربيع الطلق يختال ضاحكا” كما في قصيدة البحتري ولا تورَّدتْ الحقول.

وقد استقصى أبو هشام وعبر ٣٩٧ صفحة حكاية ربيع عماني سبق كل الربيعيات ، فاتكأ فيه البطل على عصاه “السوداء-البيضاء” وسلَّم هزال قدميه الدرب الطويل ، فيمشي من منابت الخطوة الأولى في الحوقين إلى خبة السويق فالرستاق فالمضيبي فبدية فالقابل فمسجد الشرع بتنوف فنزوى فسمائل فنخل فقرية بني صبح وانتهاء بتنوف.
ولأنَّ البطل في “ربيع الإمام” قد كُفَّ بصره بالمعنى التشخيصي ، واتَّقدتْ بصيرته بكل المعاني فقد أتاح غنى السيرة والمسيرة الكثير من المساحات للمخيال لأن يتلفَّع بالتشويق ويتدرَّع بالخوارق ويجنِّح بالأساطير.

ومن أمثلة ذلك ما تعرضه الرواية عن أخذ البطل بنصيحة من أشار بحرز يشرب “قاطور” جحلة الماء في “غتولة” نزوى ، فإنْ تهيَّبَتْ حشرات الأرض الحرز وتعرضتْ للأذى ففي ذلك الضوء الأخضر للتريض الروحي لرجلٍ أتعبَ المردة والشياطين.
ومن أمثلتها قراءة البطل لطالع السعد لطلابه لمجرد فرْك آذانهم كما حصل مع الطالبين سالم بن راشد الخروصي وناصر بن راشد الخروصي فاستشرف في الأول شأناً عظيما ينتظره ، ورأى أنّ الثاني سيبلغ بعلمه مرتبة لا تُدانى.
ومن أمثلتها ما تقدمه رؤى المنام من بشارات متحققة في اليقظة كما مر عندنا من حلم اصطفاف السناطوين في مسجد اليعاربة واصطفاف الهامات في مسجد الشرع.
ومنها استشرافه المبكر للدسائس التي تحاك لعمان ، وتداعيات التسابق على النفوذ بين الانجليز والفرنسيين في المنطقة.

وفي روايته الباذخة بالمشاهد والأمكنة والشخوص يحشد أستاذنا محمد بن سيف الرحبي تَعَدُّدِيَّتَهُ كقاص وروائي ومسرحي وكإعلامي كبير لنرتع معه في “ربيع الإمام” عبر تطواف آسِرْ.
ولقد وفَّر مضمون الرواية البيئة الخصبة لتعددية أستاذنا الرحبي ما جعله يحشد أدواته لتتبارى في الفصول وتتألق وتتفوق.
ولعلَّ الإعلامي في هذه التعددية هو المعني أكثر من غيره لمضمون الروابة وشخوصها ولحراكها السياسي فامتشق أستاذنا الرحبي قلم الأعلامي ودفتره وترك الكاميرا تترنح حول رقبته وساح في جنبات الجغرافيا السياسية باتساعها داخل الحدود وخارجها.
وفي “ربيع الإمام” يدخلنا الرحبي في خلوات البطل مع أقرب المقربين لتتسرب مخرجات النجوى عن نُذُرِ تشكُّل النسخة الثانية لمشروع الرضي عزان بن قيس والرباني سعيد بن خلفان الخليلي والمحتسب الحارثي.

ولكيلا نحرق المشاهد كلها لذلك نعبر الفصول سريعا لندخل مع الرحبي مسجد الشرع بتنوف فنتعرف على الوجه الذي ستدفع به النهضة العمانية إلى الواجهة ، بل ستقوده تحت حد السيف كالجمل المخشوش فإما أن يستلَّ سيفه من غمده ليحزَّ به الرقاب دفاعا عن بيضة الإسلام أو أن يُسَلَّ سيفه عليه فتُحَزّ به رقبته كخارجٍ على كلمة المسلمين فيمد الحضور أياديهم لمبايعة الإمام الرضي سالم بن راشد الخروصي ويتولى أبو زيد مراسم تقليده بمواريث الإمامة من كمة وخاتم.

ونجول مع أستاذنا الرحبي في فتوحات الإمام الرضي سالم بن راشد الخروصي فندخل بيت سليط لنسترده بحولٍ من الله وقوته.
ونشهد معه تبدُّل ألوان البيارق على سارية الشهباء وعلى سواري بقية المقابض في حواضر المسلمين.
كما نقترب في “ربيع الإمام” من حصن سمائل وديعة السيد نادر بن فيصل لدى الشيخ عبدالله بن سعيد الخليلي فنتابع “دراما” انتقاله إلى حمى البيرق الأبيض . مع تأوُّل البعض “بأن المسلمين على شروطهم” ما لم تتعارض مع المصلحة العامة للمسلمين.

وتتوالى في “ربيع الإمام” إرهاصات “دخلة مسكد” من جديد إلا أن غصن أمباء يخشع ليقبِّل عمامة كالشمس وكالغمام فأربك الكثير من الخطط ، ليتكشَّف ولأول مرة معنى أن لا يرى الإمام رغم أنه يبصر.
وتعيدنا رواية “ربيع الإمام” إلى تزلزل رضوى بانكسار العمود الفقري للعابرين التاريخيين لسفحه.
ف”من يدير الحرب عن رأي له
سعة البحر إذا ضاق المحل”

ولقد عدَّ الكثيرون حادثة السقوط ارتقاء له ، وكرامة لكفيف ليس بمقدوره أن يستلَّ سيفاً ليجاهد ، فجاءته الشهادة إلى جلسته الشامخة على سنام جمل ليخرَّ شهيداً وهو في عز مسعاه للتقريب ولتوحيد الأمة.
ويُقْسِم هلال بن سالم الصبحي أن قطرات من دم الرضي السالمي اصطبغتْ بها الأرض ذات سقوطه ظلت مهوى الأنوار.
ويُقْسِم أنه شاهد الأنوار بنفسه عدة مرات.

لقد سقط أبو شيبة على مقربة من المكان الذي عقد فيه الراية للإمام سالم ، وبعد أن تحققت له الأماني التي ما انفك يرددها وهو بحصن سمائل لقد رُدَّتْ إلينا جمعتنا وأقيمتْ الحدود:
“طبت يا موت فإن شئتَ فَزُرْ”.
وبينما شجر “الأمبا” يبكي كانت أكمات تنوف تعبق بالمسك وتكتسي الزعفران.
وكانت شجيراتها تتبادل التهاني بمقدم أعز الرجال بعد أن اتخذها قنطرة للآخرة ، فيا فوز الضجيع ويا سعد المضجع.
ونبقى مع “ربيع الإمام” فقد جاء الإمام الرضي سالم بن راشد الخروصي زائرا لرئيس النهضة وإذا بضجيع المكان يأمره بالعودة إلى الشهباء فاستجاب وعاد ، ومنها واصل جهاده إلى خضراء بني دفاع فإذا للسيح هناك شرف التوأمة مع تنوف.

وإذا لحصبائه ذات الخاتمة بالاصطباغ بدماء الشهداء.
والمتصفح لرواية “ربيع الإمام” لا بد وأن تبهره من الغلاف إلى الغلاف كملحمة تاريخية.
وسيدرك وهو يقرأ مدى الجهد المبذول فيها ، وكيف انها استنزفت الكثير من عمر أستاذنا الرحبي وسفح بها سواقي من أدمعه وهو يطوف بالأمكنة ويتقلب بين المراجع فيقرأ لكي يكتبها بما يستحق القراء وبما يليق بالأبطال.
ولأنه ليس من رأى كمن سمع ، ف”ربيع الإمام” تستحق أن يقرأها الفرد بنفسه.
وسيفوته الكثير لو اعتمد على من يعرضها له.
أو يتصفحها نيابة عنه.

———————
مسقط في السابع من ديسمبر ٢٠٢٣م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق