السياحي

زغرب حيث “الريح وحدها تدوس على حقل الألغام “

بقلم حمود بن سالم السيابي

——————

“كان الزمن ينفخ في الصمت ويطيب له أن يغرسني في الغبار” هكذا تكتب لانا ديركاك الكرواتية شهادتها شعرا عن كرواتيا المكان والزمان .

وهكذا كنت أنفخ الزمن مثلها في صمت وأنا أستحضر سبتمبر من عام ١٩٧٠حين مشيت كطالب في مسيرة من مستشفى طومس إلى نادي عمان لأبكي رجلا  لا  أعرفه إلا  من صوره في المرايا، ولا اقتربت منه إلا بالتغني به في القصائد ، كان إسمه  عبدالناصر، وكان ياسمين زمننا العربي .

وهكذا زرعتني يوغسلافيا في الغبار كما زرعت ديركاك حين جئتها في مايو من عام ١٩٨٠ كصحفي  موفد من جريدة عمان لتغطية رحيل الزعيم اليوغسلافي “جوزيب بروز تيتو” ولألقي نظرة أخيرة على رجل عانقه جمال عبد الناصر لأشم فيه بقايا الرجل وبقايا الياسمين.

وهكذا أفر في ديسمبر من عام ٢٠١٦ من هواجسي الصحية إلى كرواتيا لأنفض غبار ذاكرتي عن  كرواتيا مسقط الزعيم تيتو, ولأخترق سديم الشتاء وذكريات الكبار الذين شكلوا الأزمنة وتركونا وقضايانا مفتوحة  للأزمنة.

لم يكن الياسمين في طريقي من مطار “بليسو” الغائر في أكثر من مائة عام بل التقلبات الدراماتيكية في الجغرافيا الذبيحة كانت ترانيمي الجنائزية  بين  العصور والممالك والامبراطوريات والجمهوريات .

وكان الشوق إلى مكان ولد فيه الزعيم هو الوقود الذي يستحث السيارة لتطوي المسافة بين المطار وقلب المدينة ، حيث زفتنا الأشجار العارية إلا من ندف الثلج .

وعبر الدروب التي سلكتها سيارة الأجرة كانت الأشجار والدروب والواجهات بيضاء كقلب جوزيب بروز تيتو وناصعة كسيرته السياسية .

وبعد مسير عشرين دقيقة وصلنا فندق “ذي وستن” في قلب زغرب التي تغص بالأزمنة وبغصص الأزمنة .

ومن الدور الرابع عشر في ذي وستن بدت زغرب  متعبة والكهولة تدب في مفاصلها، وكانت “كعجوزين يمسحان دموع بعضهما أمام البيت المهدم” كما يقول الشاعر الكرواتي فلاديمير ديفيد .

وبدا القرميد المقاوم لتعاسة الشتاء كئيبا في أسطح البنايات القوطية الطراز والقادمة  من عصر الباروك الأعوج، وقد اضفت الأدخنة المنبعثة من المواقد قتامة أخرى على المشهد وهي تلتحم بغيوم السماء فتتسكب مطرا أسودا وحزنا .

كان الوقت عصرا وزغرب ككل مدن أوروبا تضيق بنهاراتها في الشتاء فتستحث الليل ليدخل سريعا ببرده وظلمته وأدخنة مواقده, فعبرنا مع زغرب نهارها القصير وتذكرنا دون أن نشعر أننا لم نتناول غداءنا بعد، فلجأنا إلى الشيخ “جوجل” ليسعفنا بمطعم لبناني, فكان عند حسن ظننا فأوصانا بمطعم على بعد عشر دقائق من ذي وستن فاستقبلنا بصوت فيروز ومباسم الشيشة الكريهة, ورغم حضور الأناقة اللبنانية في التصميم والأثاث, إلا ان لبنان المُغَيَّب لم يكن هناك, ولا حضرت في أطباقه “برمانا” ولا “عاليه” وابتعدت “زحلة وشتورا” وتوارت “الشوف والشياح” وغابت عن الكؤوس نمير “العاصي” وبرودة “نهر البارد” وعذوبة “الحاصباني” وصفاء مياه “الدامور”.

أرخى الليل سدوله فأسرجنا جَمَلَهُ نحو الساحة الرئيسية التي تحتفظ بها كرواتيا منذ أكثر من ثلاثة قرون وتتجاور فيها المباني أنماطا وعصورا منذ القرن السابع عشر وحتى الألفية الثالثة.

وكانت كل زغرب هناك ومعها الشتاء وعبق الكستناء والفرح الذي يشعله ديسمبر في الحواضر المسيحية .

احتوانا المكان وتبعثرنا في زحامه ونحن نرتعش, وكان القائد “بان جيلاسيس” يلون الأفق بتمثاله وهو على حصانه وقد سلّ سيفه كحارس لزغرب القديمة وكمعْلَمٍ لهذه الساحة التاريخية.

فررنا من البرد الى أحد المولات لنتزود ببعض الدفء, ثم نادانا الصخب من جديد فصعدنا على ربوة قادتنا إلى أعرق كاتدرائيات زغرب المطلة على ساحة بان جيلاسيس فدخلناها مع الداخلين الذين غص بهم المكان  .

جاء أكثرهم  للصلاة , وجئنا لنخشع  في محراب الفن والجمال.

وجاءوا لينشدوا , وجئنا لنستمع للترانيم الكنسية ونحن نحلق في النقوش والزخارف والأيقونات.

وكما دخل ليل كرواتيا على عجل خرج منها وهو يسابق نفسه، فسابقناه لنفطر مع تنفس صباحات زغرب .

وبعد دقائق كنا مع السائق “ماندزوكيتش” الذي يحمل اسم لاعب خط الهجوم في المنتخب الكرواتي ماريو ماندزوكيتش والمتعاقد مع يوفنتوس ليأخذنا الى محمية الحدائق الوطنية .

تركنا زغرب باتجاه الحدود مع البوسنة وكان نهر “سافا” رفيق رحلتنا وهو ينساب رماديا كعيون الكرواتيات، بينما الأشجار المثقلة بالثلج  بدت كحاملات الجحال وقد تلفعن بالبياض في زفة استثنائية لرحلتنا صوب البحيرات .

قلت لماريو مداعبا أن العالم يدين لكرواتيا بإدخال ربطات العنق في أزياء الرجال، فتحسس ماريو  رقبته الخالية من “الكرافتة” وقال: ليتنا لم  نكن السبب في إدخال الكرافتات.

واستطرد: شخصيا لا أطيق الكرافتات، ويدهشني ذاك الذي يدفع مئات الدولارات في كرافتة تحمل توقيع بيت من بيوت الأزياء, إنها البرجوازية المقيتة .

ودون أن أبدأ فضول أسئلتي تبرع ماريو من تلقاء نفسه ليغرقنا في تفاصيل أسرته: عاش والدي في “دبروفنيك” على ساحل “الأدرياتيك” والتحق بتيتو كمقاتل في جيشه إلى أن تقاعد, واستمر والدي  على ولائه لخط تيتو  ولنهج وحدة الارض اليوغسلافية إلى ان هزمه المرض فمات على فراشه .

وقال متحسرا على ايام تيتو: لقد تبعثرت أسرتي كما تبعثرت يوغسلافيا, فشقيقي الأكبر سافر إلى فرنسا وتقطعت بيننا السبل, أما شقيقتي فهي من حيث يأتي هذا النهر, وكان يشير إلى نهر “درافا” الذي استلمنا بعد ان ودعنا قبل قليل نهر “سافا” وهو يحمل تكليف نقل سلامنا الى جوزيب بروز تيتو النائم في سلام في “بلجراد”  حيث يصب سافا ويرفد الدانوب .

وكان نهر درافا الذي يعطر مشوارنا هو ثاني أهم الأنهار في كرواتيا والذي ينحدر من إيطاليا

قلت لماريو: لعل اختك هناك الموجودة في إيطاليا أوفر حظا ولعلها تقود سيارة أفخم من سيارتك هذه, ولعل على كتفها تترنح حقيبة من  “لوي فيتون” فما الذي يدفعها للمجيء لزغرب، فهز رأسه موافقا , ثم أردف: لقد كنا نحكم يوغسلافيا العظيمة فالزعيم جوزيب بروز تيتو كان كرواتيا من هذه الأرض, ولكنها ثارت عليه للأسف, وحطمت تمثاله في حرب الإستقلال من أجل رئيس وراية, فانتقلنا من حكم يوغسلافيا التي تناطح روسيا وتدير ظهرها لستالين وتشكل مع عبد الناصر ونهرو حركة عدم الإنحياز كمعسكر ثالث ينحاز لحق الشعوب في الحياة لا تابعين ولا متبوعين .

قلت لماريو: لكل شيء ضريبته فتيتو كان كبيرا ضمن المعسكر الشرقي فانشق عنه, وأسس حركة عدم الإنحياز فتعاظم دوره، ولكن بوفاة شركائه المؤسسين خفت البريق وتراجع دور الحركة باتساع عضويتها للعشرات من الدول المنحازة أساسا, فباتت حركة عدم الإنحياز تجمعا ورقيا لا لون له ولا طعم ولا رائحة,  وحين أراد تيتو العودة لحلفائه القدامى بعد وفاة ستالين كان خروشوف أبعد من أن يتقبل رجلا يصنفه بخائن للشيوعية والشيوعيين من وجهة نظره .

واصل ماريو اختزال المشوار في استدرار ذكريات والده مع تيتو وكيف كان يتابع خطبه من مذياع قديم , في ليل دبروفنيك .

قلت لماريو: إننا نتقاسم مع والدك نفس الذكريات والمرارات والأشواق فهو في دبروفنيك يساهر تيتو عبر المذياع ونحن في سطوح بلدتنا ننام مع مذياع مشابه لنستمع إلى خطب عبد الناصر, وكانت خطب الزعيمين   من مشكاة واحدة .

بدأنا نتقدم باتجاه الحدود ونستقبل مع تقدمنا نسمات البحر الأدرياتيكي التي  تهب باردة كحكايات الموتى الذين نبعث أمجادهم وهم في اللحود, بينما البيوت التي نمر عليها في طريقنا لا تزال تحتفظ بندوب الحرب وثقوب لرصاصات بنادق ودانات مدافع صوبها الصربيون باتجاه الكروات لحملهم على البقاء ضمن يوغسلافيا .

يقول ماريو: لقد فرحنا بنتائج حرب الإستقلال, وحين صحونا من سكرتنا تألمنا, فالحرب الكريهة حصرتنا في رقعة صغيرة من الأرض أسمتها جمهورية كرواتيا بمساحة لا تزيد عن خمسين ألف كيلومتر من الأرض، وبأربعة ملايين ونصف من السكان, وكانت الجائزة راية ورئيسا وحلما صغيرا.

انعطفنا إلى اليمين باتجاه الطريق المؤدي الى بحر الأدرياتيك لنتوقف في منتزه جبلي يسمى “راستوك” والذي قاربناه بالرستاق العمانية ليستقر اسمه في الاذهان .

وقد قامت في المكان مدينة “سلنج” الجبلية عند التقاء نهري “كورانا” و”سلنجيسيا” وهي مدينة لا يزيد سكانها عن ١٧٠٠ نسمة إلا أنهم  جعلوها على خارطة السياحة العالمية بقوة, واستطاعوا تأهيل  التقاء النهرين ليقيموا جنتين على اليمين والشمال، وتتوزع بيوتها على ترع الماء , فبدت كمنتجع آسر تغزله الشلالات وتقطعه الجسورالمعلقة والمطاعم الصيفية العائمة, لدرجة أن العين لا تود أن تغمض عن سحر المكان .

ثم واصلنا المشوار نحو محمية “بليتفيتش” التي تبعد قرابة 140 كيلومترا من العاصمة وهي قبلة السياحة العالمية وتغذيها بالملايين كل عام, وتتوزع على 30 ألف هكتار من السحر والجمال وتمخرها العبارات السياحية التي تنقل مرتادي الجمال من الضفاف إلى الضفاف .

وقد صانته اليونسكر ووضعت بصمتها عليه كإرث إنساني .

ورغم الشتاء الذي يلامس الصفر فإن البرودة لم تمنع عشاق بليتيفتش من أن يتجشموا عناء المشوار والبرد لتغطس عيونهم في لوحات الفيروز, وينصتون لنشيج الجبال وهي تذرف شلالات من الكريستال المعشق بنثار الجوهر والفضة وفتيت الماس .

جلست أتأمل المشهد وأستعيد صورة أبي وقصائده وكيف سيكون وصفه كأمير للحرف لهذا الفردوس الأرضي .

وكان وادي دربات حاضرا في وجداني كنهر من السماء, فاعتبرت بليتفتش توأمه وإن نأى عنه بعشرات الآلاف من الأميال .

وفي طريق العودة إلى زغرب بدا ماريو مأخوذا بسحر المكان كالذي يراه لأول مرة، وكان يتحسر على كرواتيا التي تستحق وضعا غير وضعها وتاريخا غير تاريخها .

توقفنا عند مطعم على سفح جبل في “سلنج” وحين فتحنا الستائر كانت تنقلنا إلى سفوح جبال ظفار الخضراء و إلى  سهل يتين , فتعشينا سمكا قدمته بوسنية اختار قلبها  البقاء في كرواتيا رغم أنف السياسة .

وفي المساء عدنا لصخب زغرب نتأمل الشباب والصبايا يتزلجون في أماكن مفتوحة في الهواء الطلق ويملأون ليالي ديسمبر صبابات وشقاوات على وقع الموسيقى الصاخبة .

وكان الكستناء المشوي الذي تقدمه بائعة شركسية الملامح هو دثارنا للشتاء , لنختتم ليلتنا الثانية في مقهى فندق “إسبلاندا” الذي يرفع على ساريته العلم القطري كأحد أعرق وأشهر وأفخم فنادق زغرب .

وفي الصباح كانت وجهتنا أحد أكبر مولات زغرب المجاور لستاد “أرينا” حيث تكرس زغرب استحقاقاها الأوروبي كمدينة تنفتح على الماركات والموضة, ومنه إلى مطار “بليسو” في طريق العودة إلى هامبورج.

وبعد أن ارتفعت بنا “اللافتهانزا  سيتي لاين”  فوق أجواء عاصمة الكروات ، بدت زغرب متعبة فعلا من السياسة كما قال فلاديمير ديفيد, ولكن  “الريح وحدها تدوس على حقل الألغام”  كما يقول الشاعر الكرواتي داركو بلازانين  .

زغرب في ١٢ديسمبر ٢٠١٦

نشر هذا المقال في العدد (18) من مجلة التكوين…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق