العام

الأطفال كبوصلة في عملية تحكيم النص القصصي

 عالم أدب الأطفال لا ينحصر في قصة نكتبها أو كتاب نرسمه. إنه بحر زاخر بالعديد من النفائس التي لم يتم استخراجها بعد، أولم يتم دراستها في العالم العربي حتى الآن، وبالتالي لم تأخذ حقها من النقاش والتعلم. لهذا فهناك الكثير من المعتقدات التي يعتمد عليها المهتمون في العالم العربي في هذا المجال من غير أن يخوضوا غمار البحث أو اكتشاف مدى صحتها. كما أن هناك ممارسات في الساحة الأدبية للأطفال العرب غير قائمة على دراسة أو بحث مستفيض بل جاءت على هيئة أفكار جديدة تم في أغلب الأحايين التسابق إلى تبنيها ومن ثم تنفيذها من غير تَقَصٍ أو دراسة. ومن بين الأفكار التي انتشرت مؤخرا وتم ترديدها بل تم تبنيها من قبل البعض ممن يكتبون للأطفال هي فكرة (إن الأطفال هم البوصلة السليمة لإصدار الحكم على أية قصة بالنجاح أو الفشل…). يا ترى ما مدى صحة هذه المقولة؟

د. فاطمة أنور اللواتي

في استطلاع بسيط شاركت فيه شريحة من المهتمين بأدب الأطفال في العالم العربي، حاولنا فهم المسارات المختلفة من تأييد أو رفض لفكرة جعل الطفل بوصلة في تقييم أدب الأطفال. وقد تبين أن هناك آراء تؤيد أن يكون الطفل بوصلة في الحكم على أدب الأطفال وفي المقابل هناك آراء أخرى ترى عكس ذلك. في هذا المقال سوف نطرح مختلف الآراء ونحاول التوصل إلى الممارسة الأقرب إلى الصحة فيما يخص عملية مشاركة الطفل في تحكيم قصص الأطفال.

الآراء المؤيدة
الآراء المؤيدة للفكرة تشير إلى أن الأطفال هم الأكثر قدرة على تقييم القصص الموجهة لهم. فتذكر الأستاذة سريعة «أن الأطفال هم البوصلة الحقيقية لتوجيه الحكم على القصة بالنجاح أو الفشل…». ويؤيدها في ذلك الأستاذ عباس فاضل الذي قال: «أول الناقدين للقصة الموجهة للطفل هو الطفل نفسه …» والأستاذ فهد السعيدي بقوله: «من وجهة نظري القصة الناجحة هي التي تعجب الطفل وتسليه». وتتفق ميثاء المعمري في ذلك بقولها: «اتفق.. لأن الطفل هو الهدف…».
وتضيف الأستاذة منى حسين قائلة: «فعلا القصة الناجحة هي اللي تعجب الطفل…».
وتوضح الأستاذة مها «الطفل هو الهدف أنا شخصيا اقرأ لطلابي وأرى مدى تفاعلهم…». وأخيرًا تضيف الأستاذة نيروز الطنبولي: «أنا مؤمنة إن الطفل هو الحَكَم خاصة إذا … شجع على التعليق والتعقيب فهناك كثير من عناصر الجذب لا يعيها إلا هو… وأرى أن وجود لجنة تحكيم من الأطفال أمر ايجابي ومهم ومؤثر في الطفل والعمل المقدم له».
أما حول دور الطفل في التحكيم فتقول الأستاذة ريما الكيلاني: «بما أن القصة موجهة للأطفال فيجب أن يكون لهم دور في التحكيم». وتضيف الأستاذة نجوى الدرعاوي:» لست أدري إن كانت لجان التحكيم الخاصة بمسابقات قصص الأطفال تضم محكمين أطفالا. وأنا أساند هذا تماما لأن القصة الناجحة فعلا هي التي تعجب الطفل وتشده». كما بينت الأستاذة رانيا كيلاني «بما أن القصة موجهه للأطفال فيجب أن يكون لهم دور في التحكيم». وتتفق الأستاذة روان شديد على نفس الفكرة بقولها: « وأرى أن وجود لجنة تحكيم من الأطفال أمر ايجابي ومهم ومؤثر في الطفل والعمل المقدم له».

الآراء الحذرة
في خطوة أكثر تفصيلا تقول الأستاذة صباح الكلا: «يمكن أن يكون اختيار الأطفال بنسبة معينة كمعيار لفوز القصة اضافة للجنة تحكيم مختصة…». ويتفق الأستاذ سامر الشامي مع هذه الفكرة بقوله: «لا مانع من الاستفادة من آراء الاطفال في القصص الموجهة إليهم…»، إلا أنه يضيف على ذلك قائلا: «ولكن هذا لا يعني الاعتماد على تلك الآراء بشكل قطعي، فقد يميل الطفل إلى قصص مسلية ولكنها مؤذية تربويا.» وتوضح الأستاذة آلاء البياري: «يمكن أن اوافق الراي إذا كان الطفل قد انكشف له كم من الكتب الجيدة جدا العربية والأجنبية». ويوضح الأستاذ بنمونة الحسن: «الأهم هو كيف تثير(القصة) انتباه الطفل…؛ قد تثيره الفكرة أو الطريقة التي رويت بها القصة وهل القصة الناجحة دائما هي التي يعجب بها الطفل؟ لا ننكر أن للكبار دورا في التوجيه، فهم عادة من يشترون لأطفالهم القصص، وهم من يكتبها، فهل هذا تبخيس لدور الطفل؟ كلا. الأهم أن تكتب القصة بطريقة جديدة، ولكن ينبغي لها أن تكون قصة للطفل». ويضيف الدكتور حسين محسن بقوله: «أنا أرى أن التقنيات وأسلوب طرح القصة ينبغي أن تكون جذابة ومحببة للأطفال أما المحتوى والنص فلا يمكن أن نتركه لمزاج الطفل وإلا انتفى الهدف من القصص كعامل لتنمية خيال الطفل وتصقيل فكره وتعديل سلوكه.»

الآراء غير المؤيدة
في هذا القسم نطرح الآراء التي لا تتفق مع الرأيين السابقين، فلا تؤيد اشراك الأطفال في تقييم القصص الموجهة اليه. تقول الأستاذة دنيس أسعد:«أنا لا اوفق على هذا التوجه. وتتفق مع هذه الفكرة الأستاذة ابتسام الحسن، فتقول: «معظم الأطفال ﻻ يدركون المغزى الحقيقي للقصة وهم بحاجة لمن يوضحه لهم…هدف الطفل التسلية والإحساس بالحب من خلال القصة… وليس من الضرورة أن تعجب القصة الناجحة جميع الأطفال…». واتفاقا مع نفس الفكرة تقول الأستاذة نجمة البلوشية: «أرى أن الطفل يحب القصص التي فيها نوع من التسلية والضحك، بغض النظر عن المغزى، وعندما نسرد قصص الأطفال لهدف تربوي، فالطفل لا يرى الهدف وربما لا يشعر به …، فلا نعتبر الطفل معيارا لاختيار الأفضل…». وتؤكد الدكتورة عفاف طبالة على هذا المعنى قائلة: «ما هو مؤشر الإعجاب؟ هل هو الإقبال على متابعة القصة وجاذبيتها؟ أم هو مدى ونوع تأثير القصة عليه؟ الجاذبية والإقبال ليسا هما الحكم…». ثم تضيف الدكتورة قائلة: «ويحضرني هنا ما رواه ستانسلافسكي على ما أذكر عن ذكريات طفولته. قال: «كنّا نسعد جدا ونحن صغار بالذهاب للسيرك فهو ممتع، بينما كنا نذهب للأوبرا مرغمين. لكن بعدما كبرت لم يبقَ في ذاكرتي شيء عن السيرك لكني ما زلت اذكر ما شاهدته في الأوبرا. ما يتركه العمل الفني من تأثير قد لا يدركه الطفل في السن الصغيرة، فما يجب أن نبحث عنه وهو ما يغيب عن بحوثنا للأسف».  وهناك العديد من الآراء المؤيدة أو التي لا تتفق مع الفكرة.
من أجل فهم الموضوع بشكل أعمق قمت بالبحث عن الدراسات العلمية في هذا المجال. إلا أنه ومع الأسف الشديد لم أجد أي دراسة تكشف أبعاد أهمية اشراك الأطفال في تقييم القصص أو قدرة الطفل في القيام بذلك. لكنني لحسن الحظ عثرت على مقال يتعرض إلى تجربة قامت بها إحدى المدارس في تحكيم القصص للفوز بجائزة من الجوائز المحلية في الولايات المتحدة بإشراك أطفال المدرسة في عملية التحكيم.
وتطرح الباحثة كرينكراس تجربتها في إشراك الأطفال في تقييم قصص مصورة لإحدى المسابقات في هذا المجال. اختارت الكاتبة أطفالا من عمر ثمانية إلى عشرة أعوام. اختيارها للأطفال ضمن هذه الفئة العمرية كان قائما على فكرة أنهم ما زالوا يستمتعون بسماع قصص تقرأ عليهم بجانب قدراتهم القرائية بشكل مستقل. هذه المجموعات الطلابية في تلك المدرسة تعودت على تقييم القصص سواء كبرنامج دراسي مقرر أو كجزء من فعاليات مكتبتها، وقد كانوا من صفوف متداخلة الأعمار. inter-age group. تقول الباحثة إن قدرات الطلبة على تقييم الكتب والحكم عليها كانت متطورة جدا بسبب الممارسة، إلا أنه برغم ذلك لوحظ أنه حينما تتم قراءة الكتب على مسامعهم بصوت عال، فإنهم كثيرا ما كانوا يتحاشون انتقاد الكتاب إذا لم يعجبهم لعدم إيذاء مشاعر القارئ. هذه الملاحظة التي لاحظتها الباحثة جعلتها تطور مهاراتهم من أجل الوصول إلى حكم سليم على الكتاب. فقامت الباحثة بالعمل بشكل كبير لإعداد الطلاب لعملية تقييم الكتب التي ستدخل في المسابقة. لقد استطاعت الباحثة أن تجعل الطلاب يقدمون رأيهم المستقل بجانب طرح الأسباب التي دعتهم إلى تبني ذلك الرأي، وبالتالي فقد أوصلت عملية تنمية قدرات الطفل في الانتقاد إلى مستوى اتصف بالصراحة والعلمية. تذكر الكاتبة أنها اختارت أربعة أطفال من كل فئة عمرية. ثم مناقشة الطلبة وتدريبهم على معايير اختيار الكتب والتي تم التوصل إليها بعد نقاشات عديدة مع الطلاب. هناك الكثير من التفاصيل الخاصة بالتجربة، إلا أن ما يعنينا هنا هو أن نجعل الأطفال كحكام لاختيار الكتاب الفائز، فلا بد أن يتم ذلك بطرق مدروسة ومخططة بشكل دقيق. فإذا كان اختيار الكبار كحكام لاختيار الكتب الفائزة تحتاج إلى الكثير من العناية فما بالك بالأطفال؟
الخلاصة:
إن عملية التحكيم تقوم على نقطة أساسية وهي اطلاع المحكم على معايير جنس الأدب محل التحكيم. وهذا الاطلاع لا يتأتى إلا عبر عدد من الأمور. أولها التعلم: وهذا ما أيده المقال الذي عرض التجربة التي قامت بها المدرسة. فإن عملية التحكيم بحاجة إلى فهم للعملية التحكيمية والمادة المحكمة. الأمر الثاني: الانتباه إلى أن للبيئة التي يعيشها الفرد تأثيرا كبيرا على ذائقته الأدبية والفنية والعملية. فالطفل الذي يتربى في بيئة تثمن الإبداع والفن يختلف عن الطفل الذي لم يتذوق طعم الجمال أو ذاك الذي يعيش وسط أسرة لا توجد فيها أي قيمة تعززه في حياته جماليتها.
أخيرا، للأدب معايير تُسهم في تشذيبه وتنقيحه، وهذه المعايير الأدبية بنيت وفق ذائقة أدبية إنسانية عالمية كانت موضع تقبل واستيعاب لارتكازها على أسس منطقية. يمكننا عبر تجربة بسيطة ملاحظة تغير أهواء الطفل الذي لا يملك وضوحا في عملية تحديد القصة الأفضل. وهذا التغير في الأهواء يمكن أن نجده أيضا عند الكبار بسبب تأثير البيئة (على سبيل المثال) عليهم بحيث يستهويهم أدب ما أو أسلوب معين تجعلهم ينجذبون إليه، وربما بسبب الدعاية والإعلام أو بسبب قلة التجربة أو الاعتماد على الآراء المحيطة. لهذا من الصعب أن نعتمد على ذائقة الطفل بشكل عام إلا إذا كانت العملية مقننة بشكل تحد من تأثير نمطية التفكير أو تأثير البيئة والمحيط المتمثلة في الأهل والمعلمين الأقران.
المصدر:
 Greengrass, Linda, (1994) Picking a Winner: Children as Judges and Evaluators of Picture Books.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق