السياحي

طنجة المغربية المدينة الأسطورة

       ثمة ثلاثة أنواع من المدن العربية على المستوى التاريخي.يرتبط  النوع الأول بالعصر الحديث. خاصة القرن العشرين.أما الثاني،فضارب في عمق التاريخ.فيما يتميز النوع الثالث بالصفتين معا.صفة الحداثة الممزوجة بصفة العراقة. حيث يمتزج الواقعي بالأسطوري في كل بحث عن أصولها الأولى.كل حديث عنها،يجعلنا ننطلق من العبارة الشهيرة لراوي الحكايات والأساطير العجيبة «كان يا مكان في قديم الزمان» بالساحات العمومية للمدن العتيقة. شأن ساحة جامع الفنا بمراكش.

يزج بالسامع/المتلقي على إثرها في عوالم مختلفة. يمتزج فيها الواقعي والخيالي، الحقيقي والأسطوري. إنه حال مدينة طنجة المغربية. التي يفوح التاريخ من كل شبر من أرضها (أزقتها، أسواقها، ساحاتها، مقاهيها، بحرها، …الخ). إنها من صنف المدن الأسطورية على شاكلة بابل والإسكندرية ودمشق و بيروت وعدن، وغيرها من مدن الشرق.ففي مثل هذه المدن، تجاورت الأديان واللغات والأزياء والثقافات المختلفة جنبا إلى جنب على نحو جعل من مدن هذا المشرق أكوانا صغيرة.تجمع العالم على اتساعه لغويا وثقافيا ودينيا.
طنجة،المدينة الأسطورة:
تفصل مدينة طنجة بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. مما جعلها ترتبط بأسماء عديدة من الرحالة والمغامرين والفاتحين عبر أزمنة تاريخية مختلفة. تمتد من الفاتح طارق بن زياد إلى الرحالة ابن بطوطة إلى المغامر الإسباني علي باي،وصولا إلى الرحلات الجماعية للباحثين عن حلم الهجرة السرية للأفارقة الراغبين في الوصول إلى ذلك الفردوس الأوروبي المزعوم في العصر الحديث.
تقع مدينة طنجة في أقصى نقطة من العالم المعروف قديما. حيث وصل إليها الفنيقيون والإغريق وكذا القرطاجيون والعرب المسلمون الذين اندهشوا من امتداد البحر المحيط الذي صيغت حوله العديد من الخرافات لقرون طويلة. حيث اقتنعوا بنهاية العالم المعروف قديما عند شواطئها. لتشكل بذلك بداية بحر الظلمات كما اعتقد الأولون. استمر هذا الإحساس إلى يومنا هذا. فقد كتب خورخي لويس بورخيس(أحد كبار الأدباء في القرن العشرين) في قصة «الأبدي» ضمن كتابه «الألف» الصادر للمرة الأولى سنة1949: (هوميروس وأنا نفترق في أبواب طنجة، لا أعتقد أننا نتوادع). تتعدد الأساطير التي نسجتها خيوط الذاكرة الجماعية و الفردية حول أصولها هذه المدينة. تحكي إحدى هذه الأساطير أن نوارس طنجة، هي التي أنبأت نوح عليه السلام وهو في سفينته أن اليابسة قريبة عندما لمح آثار الطين. من هنا جاء اسم طنجة منحوتا من كلمتي: «الطين جاء».
في حين تذهب أسطورة إغريقية أخرى إلى القول إن هذه المنطقة،عرفت صراع العملاقين هرقل وأنتي(أنتايوس)،وانتصار الأول على الثاني. وأثناء هذا الصراع، ضرب هرقل بسيفه اليابسة التي كانت تربط إفريقيا بأوروبا. مما تسبب في المضيق البحري الذي يسمى اليوم بمضيق جبل طارق.فتزوج هرقل زوجة أنتي وولد سوفوكس الذي أنشأ مستعمرة أسماها طنجيس. من هنا ارتبطت مدينة طنجة بمجموعة من الأسماء: طارق ابن زياد، الرحالة ابن بطوطة، الروائي محمد شكري، وغيرهم كثر.
مدينة طارق بن زياد:
تفتخر مدينة طنجة بين أقرانها من مدن العالم بتضمينها في الكتب التراثية الأولى للبحر المتوسط. وعلى رأسها الكتب الإغريقية.إنها أكثر مدن العالم ذكرا في كتب التاريخ والجغرافيا. توجد في الأوديسا إشارات إليها عبر ما يسمى أعمدة هرقل في المضيق الذي سيحمل لاحقا اسم طارق بن زياد. فمن أوائل الكتب التي وصفت هذا العالم،الكتاب الذي يعود للمؤرخ والجغرافي هيكاتيور ميليتوس من القرن السابع قبل الميلاد. حيث تحدث عنها باسم طنجيس. كما تحدث عنها أيضا هيرودوت أبو التاريخ في القرن الرابع الميلادي. كما وصفها بدقة استرابون أبو الجغرافيا و التاريخ في بداية القرن الأول الميلادي وذاع صيتها عندما منحت اسمها لمنطقة المغرب في التقسيم الروماني لشمال إفريقيا «موريتانيا الطنجية».
كما توالى ذكرها في مئات الكتب عبر كل الأزمنة. يعادل هذا الذكر، الطبقات الأركيولوجية المكونة للمدينة. فأينما يتم الحفر فيها، تطفو شواهد أثرية حول حقبة زمنية معينة عاشتها أرضها. كما تبرز تقاسيم سكانها بين مغاربة وكأنهم إسكندنافيون. وآخرين يحملون قسمات البحر المتوسط وغيرهم سمات القارة السمراء. وذلك بفعل الهجرات والاختلاط والحروب. لكن على الرغم من تعدد هذه الشخصيات التاريخية الشهيرة التي ارتبطت بطنجة، فإن سكانها يفتخرون بأمير حكم مدينتهم. الذي يعتبر من أبرز الشخصيات التاريخية. إنه طارق بن زياد. يؤكد المؤرخون على أن (طارق بن زياد كان أميرا لطنجة وهي أقصى بلاد المغرب). حيث سيخطط طارق بن زياد لفتح بلاد الأندلس، انطلاقا من هذه المدينة.
مدينة ابن بطوطة:
إن موقع طنجة الجغرافي جعل من سكانها مغامرين بالفطرة. مولعيون بالسفر في الماضي، كما الحاضر. فقد وصل بعضهم للتو، والآخر مقبل على المغادرة نحو مغامرة جديدة. حيث شكل ميناؤها نقطة رسو مختلف السفن الآتية من شتى بقاع العالم. فكان البحارة يغرون شباب المدينة بحكاياتهم. ولعل هذا ما يفسر كون المدينة قد أنجبت أحد أكبر الرحالة عبر التاريخ، إنه الرحالة ابن بطوطة.
انطلق هذا الأخير في رحلته حول العالم شرقا ليروي بعد عودته حكايات من الصين والهند. كما أن موقع المدينة الجغرافي، جعلها بوابة المغرب نحو أوروبا وبوابة أوروبا نحو المغرب. بل بين القارة الإفريقية والأوروبية. وكذا إحدى بوابات إفريقيا نحو العالم الجديد بعد اكتشافه (القارة الأمريكية). فقد كان كل مبعوثي الدول الأوروبية قديما ينزلون بهذه المدينة. لهذا تحولت إلى عاصمة دبلوماسية للمغرب منذ سنة 1786. لعل هذا ما يفسر وجود عشرات الممثليات الدبلوماسية في المدينة. فقد احتضنت طنجة أول ممثلية دبلوماسية أمريكية في الخارج في تلك الحقبة. فكلما حلت بعثة دبلوماسية بالمدينة قصد تمثيل دولتها، كانت تشيد إقامة خاصة بها مستوحاة من هندسة بلادها الأصلية. مما حول طنجة على المستوى العمراني إلى فسيفساء متداخلة بين الهندسة العثمانية والأمريكية والبريطانية والإسبانية.
لهذا، يفاجأ الزائر لطنجة اليوم خلال جولته عبر مختلف شوارعها بين الحي الأوروبي والحي العربي، بوجود ساحات مازالت تنتصب المدافع فيها. مدافع انتصبت لمواجهة الغزاة الأوروبيين من انجليز وإسبان وبرتغاليين. لكنها الآن، تأخذ بعدا رمزيا للدفاع عن الهوية العالمية للمدينة، أمام غياب وعي منتخبيها من رؤساء بلديات وولاة بأهمية التراث الحقيقي للمدينة. وأمام يأس سكانها غير الراضين عن تراجع المدينة مقارنة مع ماضيها.
مدينة محمد شكري:
كتب الروائي محمد شكري في كتابه «بول بولز وعزلة طنجة»: «كل من يصل إلى طنجة، يريد أن يكون شهريار ويحول المدينة إلى شهرزاده». إنها عبارة صريحة. تلخص عشق وهيام العديد من الكتاب والفنانين العالميين بهذه المدينة. حيث يتعذر حصر المثقفين والمبدعين الذين تغنوا بالمدينة. فقد شدت إليها رسامي أوروبا. أهمهم الفرنسي يوجين ديلاكروا سنة 1832، والإسباني ماريانو فورتوني سنة 1870، والفرنسي ماتيس. كما تغنى بها المغني الأمريكي بوب ديلان في أغنيته التي يقول فيها: (لو رأيتها أبلغها التحية فقد تكون في طنجة).
لكن التجلي المتألق لمدينة طنجة، في الرواية العالمية، قد برز في كتابات الروائي الأمريكي بول بولز الذي عاش في المدينة حياته كلها. أما رواية الخبز الحافي، لمحمد شكري، فقد عكست أجواء طنجة إبان الاستعمار والسنوات اللاحقة للاستقلال وتناقضاتها إلى مستوى الجنون. مما جعل هذه الرواية تترجم إلى عشرات اللغات والتحول إلى شريط سينمائي. كما تحضر طنجة في رواية «الخيميائي» لبابلو كويلهو، وكذلك في أعمال الروائي الطاهر بنجلون ومبدعين جدد مثل الزبير بن بوشتي. وآخر الملتحقين بالركب الكاتبة الإسبانية ماريا دونييس التي ألفت رواية ‘’Tiempo entre Costuras’’ المستوحاة من عقد الثلاثينيات من القرن الماضي في طنجة. حيث حققت في ظرف سنتين، أكثر من مليون ونصف المليون نسخة من المبيعات. كما ترجمت إلى 28 لغة باستثناء اللغة العربية.
مدينة الجواسيس:
إن طابع مدينة طنجة الدبلوماسي، جعلها تعرف في القرن التاسع عشر والقرن العشرين (خاصة إبان الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة)، بـمدينة الجواسيس. لعل هذا ما جعلها تتحول إلى فضاء لبعض أفلام جيمس بوند مثل فيلم «اسمه خطر/توتر عال». حيث يقوم جيمس بوند بتخليص المنشق الروسي غريغوريو كوسكوف من جنرال كا جي بي القاسي بوشكين.
إلا أن طنجة تبقى مسرحا لانطلاق إحدى أهم عمليات التجسس عبر التاريخ. تجلت في مغامرة علي باي. الجاسوس الإسباني باديا دومنغيس الذي نزل بها سنة 1803 متقمصا هوية أمير قادم من المشرق. حيث كان هدفه إنهاء حكم العائلة الملكية العلوية عبر انقلاب توظف فيه قبائل ضد السلطان الذي كان يزعج إسبانيا. كما انفردت طنجة إبان وقوع المغرب تحت الاستعمار الفرنسي والإسباني بخاصية تجلت في تحويلها لمدينة دولية. يشرف عليها مجلس مكون من دول متعددة من فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا والبرتغال. لتشكل النموذج الذي اعتمدته القوى الكبرى لتسيير برلين بعد سقوط النازية غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية.
مدينة المقاهي والفنادق التاريخية:
حين تزور مدينة طنجة، يدفعك الفضول للسؤال عن بعض مقاهيها الشهيرة. لأن أغلب الملاحق السياحية للجرائد الكبرى مثل: نيويورك تايمز، لوموند، والباييس، عادة ما تركز عليها. لعل أهمها «مقهى الحافة». أشهر مقاهي المدينة. فقد ورد ذكرها في عدد من الروايات العالمية. إنه مقهى ذو بناء بسيط يقع على هضبة مطلة على مضيق جبل طارق. يتميز ببساطة الكراسي والطاولات وإطلالته الساحرة. وكذا «مقهى بابا» الذي تأسس سنة 1942، المتواجد في القصبة. يتميز بطابعه وتصميمه التقليدي وإطلالته على المدينة القديمة. لعل ما يلفت انتباه الزائر عند وصوله لهذا المقهى، ذلك الحائط الصغير الذي وضعت عليه صور فنانين عالميين وسياسيين جلسوا بهذا المقهى وشربوا كؤوس الشاي المغربي المنعنع. صورة لكيت ريتشارد عضو فرقة «الرولينغ ستونز» البريطانية، وصورة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان. وكذا صور كتاب كبار عالميين وممثلين من هوليوود، ومقهى الرقاصة التي ارتبط اسمها بالروائي محمد شكري.
أما حين يحل الزائر بفندق «المنزه» في قلب المدينة، فسيتخيل نفسه في فندق «بلازا» في نيويورك من كثرة زواره من ممثلين من العصر الذهبي مثل إليزابيث تايلور إلى ليوناردو دي كابريو حاليا. وكذا من رؤساء وملوك منهم خوان كارلوس وأمناء عامين للأمم المتحدة. فندق ببساطته يتفوق على الفنادق الحديثة التي استثمرت فيها مبالغ طائلة أخيرًا. لأن الكلمة للتاريخ ورموزه.
طنجة،مدينة التحولات و الأجيال:
تعرف مدينة طنجة اليوم انتعاشا متسارعا إذ أصبحت تحتضن منذ سنوات أحد أكبر موانئ العالم «طنجة المتوسطي» الذي جعلها قبلة للاستثمارات الصناعية وكذلك للسياحة واستمرار توافد الناس عليها من مختلف القارات والحضارات والثقافات.
إنها عبارة عن ولادة جديدة. لا يمكن التحكم فيها على الرغم من رغبة أبنائها الذين يرون أن هذا التطورات ستبتلعهم كما ابتلعت من قبل الذين لم يتكيفوا معها. إنها صفات المدن ذات الطابع الدولي. فحين تقف في الشارع الشهير أو بالقرب من فندق المنزه أو في مقهى الحافة أو عند الميناء ترى المغامرين الجدد من كل الأنواع والأجناس. ثمة مغامرون في عالم المال والأعمال، ومغامرون في عالم الثقافة يجربون حظهم الإبداعي. بحثا عن مفتاح الإلهام الذي منحته هذه المدينة إلى المئات من المبدعين. كما تلاحظ مغامرون جدد من طينة أخرى. إنه الشباب الإفريقي الذي يتأمل الضفة الأخرى (جنوب اسبانيا) التي تظهر بجلاء ويحن إليها. حيث يصر على المغامرة لتحقيق حلم الفردوس الأوروبي حتى وإن قامر/غامر بحياته في لج البحر الأبيض المتوسط.
مراكش:20 مايو 2019

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق