مقالات

استيقاظ

محمد الحراصي 

اليوم سأفقد الوعي . لم يسبق لي أن فقدت الوعي بأية وسيلة خارجة عن إرادتي كضربة شمس أو نقص في سكر الدم مثلا، حتى عندما تلقى رأسي ضربة حجر طائش أنا ألعب مع الفتيان نسقط العلب المعدنية بالحجارة، أخذني أخي الكبير إلى المستشفى تحيط برأسي فوطة استحمام تشربت بلون الدم لكني لم أفقد الوعي، اليوم سأفقد وعيي طواعية بكامل إرادتي.
في غرفة العمليات، طوال اليومين الماضيين بعد أن تلقيت اتصالا هاتفيا يخبرني بموعد العملية استحوذ على تفكيري ترقب اللحظة التي سيضعون فيها قناع التخدير على وجهي ليسري الغاز في رئتي و يجري داخل عروقي لأغادر بعدها أرض الواقع، لقد امتلأ خاطري رعبا بمجرد التفكير في أن وعيي سينطفئ وهو في قمة توهجه فجأة وبدون أية مقدمات، والآن ها أنا ذا مسجى بجسدي على السرير تدفعني ممرضتان إلى مسرح الجريمة.. أقصد مسرح العمليات.
على أذني تمر كلمات لغتهما الآسيوية المبهمة وعلى ناظريّ تمر ومضات من الإضاءة الصفراء الموزعة بطول السقف، أما على خاطري فتمر ذكريات الماضي القريب وخطط المستقبل المنتظر، سقوط من ارتفاع عالٍ أثناء ممارسة هوايتي المفضلة بالمشي الجبلي أدت إلى إصابتي بتمزق في أربطة الركبة، هذا هو الماضي الذي جاء بي إلى هنا والذي يقترب بي من غرفة العمليات، أما المستقبل الذي أتشوق إليه فقد أعددت له حقيبة كبيرة.
قطع سيل تأملاتي رؤيتي لابنتي ذات العشرين عاما وهي تنتظرني بوجه شاحب يملؤه الخوف والقلق بالقرب من غرفة العمليات، هي كل ما تبقى من عائلتي بعد رحيل أمها قبل بضع سنوات، و قريبا ستتركني وحيدا و تسافر لأجل الدراسة، ابتسمت لها مطمئنا و حين أمسكت بيدي قلت لها ممازحا :»ما هي إلا سويعات قليلة و أعود بعدها بركبة أقوى من ذي قبل .. لن أدع الجبال و شأنها طويلا» ثم قبلت كفها و تركت الممرضتين تجرانني إلى داخل الغرفة، حيث استقبلني طبيب التخدير الذي سبق و أن التقيته بالأمس و أخبرته بتاريخي مع الأمراض و الأدوية، ابتسم حين رآني وحاول إزالة توتري بسؤالي عن خططي لما بعد العملية، أخبرته عن حقيبتي الكبيرة التي أعددتها والتي سأسافر بها حول العالم و سأصعد بها إلى أعالي الجبال، كشف عن صف من أسنانه ضاحكا و ذكرني بأنني سأحتاج لشهور طويلة من الراحة و العلاج الطبيعي قبل السماح لي بممارسة الرياضات الخطرة مجددا، والحق أنني كنت مدركا لتلك الحقيقة أو هي لن تثبط من عزيمتي
.. وضع الطبيب قناع التخدير على وجهي، لقد حانت اللحظة التي فكرت فيها كثيرا، حاولت السيطرة على نبضات قلبي وحملقت ببصري في الغرفة هربا من الموقف وحاولت شغل نفسي بالتفكير في الجراح الذي لم يظهر بعد، أوهمت نفسي بشجاعة مفتعلة ثم … !!!!
**
حين فتحت عيني كنت في غرفة من غرف التنويم كما بدا لي، لقد عاد إلي الوعي فجأة وكأنني لم أغب عنه إلا بمقدار طرفة عين، حاولت الحركة فأحسست بأن عضلاتي قد تصلبت و كأنما أطرافي لم تتحرك منذ سنين، لم أكن أتوقع أن يكون التخدير قويا لهذه الدرجة، حاولت الجلوس للمرة الثانية فتمكنت من الانتصاب جالسا على طرف السرير بمشقة كبيرة، أقبلت ممرضاتان تركضان إلي و تسندان ظهري لأفاجأ بالأسلاك المتصلة بصدري وأجهزة تخطيط القلب من حولي، كنت أتوقع أن أرى طبيب التخدير أو الجراح الذي قام بإجراء العملية يطمئنني بنجاح العملية، لم يمض وقت طويل حتى كان طبيب شاب يدلف إلى الغرفة، كان كل شيء حولي يشعرني بالغربة، لم يبد لي أيٌّ من وجوه الممرضات أو وجه الطبيب مألوفا، و خامرني شعور بأن الإضاءة و أصباغ الجدران قد طرأ عليها تغيير ما، حتى السرير و البطانية بل و لباس المرضى الذي أرتديه، جميعها قد تغيرت، هل نقلت إلى مستشفى آخر؟ تكلم الطبيب الشاب مبتسما و هنأني على سلامتي وسألني عما أحس به ليطمئن على صحتي، أحسست في ابتسامته مسحة من الشفقة، قال لي: «أنت لم تكن دقيقا في المعلومات التي قلتها لطبيب التخدير لقد أخفيت عنه إصابتك بمرض السكري.»
لم أفهم المغزى من ذلك اللوم و العتاب، أردت أن أتكلم لأرد فخرج من حلقي صوت حشرجة غير مفهومة، أنقذني من ذلك الموقف دخول امرأة إلى الغرفة، كانت في الأربعينات من العمر وقد بدت لي مألوفة إلى حد كبير، رأيت في عينيها بحرا من الدموع يوشك على الانسكاب، اقتربت مني ثم ألقت بنفسها باكية في حضني قائلة: «أبي»، احتضنتها بحب أبوي صادق و عقلي يستنكر نداءها بينما قلبي يصرخ جازما بأنها ابنتي، اتسعت عيناي محدقتين في الفراغ، إنها ابنتي و لا شك، قلبي يقسم لي بذلك ولكن عقلي يبدو مصدوما كأنما دهسه قطار مسرع، بادر الطبيب الشاب بإنقاذي من حيرتي قائلا: «لقد مرت عليك ٢٦ سنة و أنت في غيبوبة سببها التخدير».
ظلت عيناي تحدقان في الطبيب بدون أن أراه، و غرقت في لجة من الحيرة و عدم التصديق، هل أمضيت ربع قرن من حياتي في النوم؟ لا هذا مستحيل .. لا شك أنه مزاح ثقيل أو أن أحدا قد دبر لي مقلبا كبيرا، ولكن مهلا، خلايا جسدي تئن مؤكدة تلك الحقيقة، ووجه المرأة/ابنتي لا يدع مجالا للشك، نزلت علي الحقيقة المرة كصاعقة أصابتني بالشلل فتجمدت نظراتي محدقة في الفراغ، أحسست بالزمن المفقود يمر على خاطري وعدت بخيالي إلى نقطة البداية، تخيلت نفسي أسبح في فضاء الغرفة أنظر إلى جسدي الممدد على الفراش بعد العملية، أصوات عقارب الساعة المعلقة على الجدار تملأ مسامعي .. رأيت ابنتي تبكي بجوار جسدي النائم.. رأيت عمال الصيانة يدخلون الغرفة عشرات المرات لإصلاح الإنارة وتجديد طلاء الجدران .. طبيبي المعالج يقوم بزياراته المتكررة لي قبل أن يتبدل و يحل مكانه آخر ثم آخرون .. زيارات ابنتي تنقطع هل أصابها اليأس من إفاقتي فسافرت للدراسة؟ ..
عقارب الساعة تتسارع أكثر فأكثر..
الممرضات يقلبن جسدي ويحركن مفاصلي ويغيرن ملابسي.. ابنتي تعود لزيارتي مرات كثيرة بعضها مع رجل لا بد أنه زوجها.. رأيتني أرتفع أكثر و أكثر مغادرا الغرفة.. رأيت المستشفى بطوابقه الأربعة و جسدي ما يزال يحتل منتصف المشهد.. بالخارج تتوالى المواسم وتمر السنوات وتتعاقب الفصول.. أطفال يكبرون ليصبحوا رجالا.. طلاب يتخرجون و يحتفلون بشهاداتهم.. عشرات الأعراس تقام بالليل و النهار…. مغامرون يتسلقون الجبال و يغوصون في الأعماق و يقفزون من الطائرات و يستكشفون الأدغال.. عقارب الساعة تدور بسرعة جنونية على الجدار.. يا إلهي آلاف بل ملايين من الأحداث مرت على الدنيا و أنا هنا ثابت في مكاني لا أتحرك .. ربع قرن من حياتي مر علي في غمضة عين و ها أنا ذا أقترب من السبعين.. كم تبقى لي من السنين لأعيشها؟ سنة؟ سنتان؟ خمس؟ هل من السهل أن أعيشها بجسم شائب متهالك متناسيا زهرة العمر الذي مضى و انقضى بلا عودة ؟
أفقت من تخيلاتي و أفكاري على نداء ابنتي و هي تهزني من كتفي هاتفة وسط دموعها «أبي أبي». رفعت يدي التي رسمت التجاعيد على جلدها خرائط زمنية متشابكة، أمسكت برأس ابنتي متأملا في ملامحها، إنها هي بلا شك.. يا إلهي كيف كبرتِ بهذه السرعة يا صغيرتي ولم تنتظرينن؟ ترقرت الدموع في عيني فمسحتها بسرعة، أحسست بأطرافي تستجيب لي أخيرا، بلعت ريقي ثم تنحنحت لأزيل ترسبات سنين الخمول من حبالي الصوتية الصدئة ثم نطقت، بالنسبة لابنتي كانت تلك أول مرة أتحدث فيها منذ ٢٦ سنة، أما بالنسبة لي فأنا لم أغب عن الوعي إلا منذ لحظات .. ناديتها باسمها مبتسما ثم اعتدلت واقفا و أمسكت جانبي وجهها بكلتي يدي و قلت ناظرا إلى عينيها مباشرة:
«هيا بنا يا ابنتي.. فهنالك حقيبة سفر تنتظرني».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق