مقالات

تو بس فهمتُكُم..!!

زاهر بن حارث المحروقي

ذهبَت سكرة ما عُرف بــ «الربيع العربي»، وجاءت الفكرة. ومع الفكرة الكثيرُ من التساؤلات حول الأنظمة العربية التي سقطت والتي هي آيلة للسقوط: لماذا سقطت أنظمةٌ وبقيت أخرى؟. وهل كان «الربيع» أصلا بفعلِ فاعل ولم يكن نابعًا من الشعوب؟!. وإذا كان الربيع المزعوم، ضمن المؤامرات العالمية، هل نجح.. ولماذا نجح.. وهل هو مرشح للتكرار؟!
في ظني؛ أنه من الصعب إنكار أنّ ما حدث في بعض الأوطان العربية كان بفعل المؤامرات الخارجية؛ ولكنّ الحقيقة الأخرى هي أنّ الأوضاع الداخلية ساعدت كثيرًا في إنجاح تلك المؤامرات. فمعظمُ مواطني البلدان العربية يعيشون «حالة ثورية»، بسبب فشل الأنظمة العربية في توفير الحياة الكريمة للمواطنين. بل العكس من ذلك تمامًا، نجد أنّ هذه الأنظمة تضيِّق الخناق على الناس حتى في لقمة عيشهم. وهذا بدوره يحوِّل المواطنين العاديين المسالمين إلى ذئاب، تريد أن تنقض على السلطة في أيِّ لحظة من اللحظات.
يعرِّف الأستاذ محمد حسنين هيكل «الحالة الثوريّة» في الصفحة 142 من كتابه «ملفات السويس، حرب الثلاثين سنة» الصادر عن مركز الأهرام للنشر والترجمة، الطبعة الأولى 1986، قائلًا: «إنّ نشوء حالة ثوريّة في وطنٍ من الأوطان، هو ظرفٌ لا يصنعه طرفٌ واحدٌ، أو تنظيمٌ معيّن مهما كانت كفاءته؛ وإنّما نشوء الحالة الثوريّة يجيء نتيجةَ أوضاع اجتماعية واقتصادية تتراكم فوق بعضها، ثم تطرأ حادثةٌ أو أحداث تُقنِع الكلّ، أنّ الأمر الواقع قد تردّى إلى حدِّ لا يُرجى إصلاحه، وأنه وصل بما لا يقبل الشك إلى طريق مسدود. وهكذا فإنّ الحالة الثوريّة في وطن لا يخلقها من العدم فردٌ بذاته، أو جماعةٌ بعينها – بالقصد أو بالتدبير -، لأنّها تاريخيًا وعمليًا أكبر وأعمق من أيِّ قصد وتدبير. وكلُّ ما هناك أنّ هذه الحالة تصبح احتمالًا مفتوحًا لأيّ طرف أو تنظيم، يستطيع تحليل عناصرها، وتشخيص عوارضها، والتصدي لقيادتها في اللحظة الحاسمة».
إذن؛ وتأمل كلام هيكل فإننا نتوصّل إلى أنّ الحالةُ الثوريّة موجودةٌ في معظم الدول العربية حتى الغنيّة منها، وربما كانت في هذه الدول أكثر ظهورًا، وتبقى فقط أن تظهر إلى العلن. إنّ الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتراكم فوق بعضها البعض، بانتظار الحادثة البسيطة التي تحدّث عنها هيكل لتحدث ثم تُقنع الكلَّ أنّ الأمور قد تردّت إلى حدٍ لا يُرجى معه الإصلاح؛ وهنا يظهر ذلك الفرد أو التنظيم أو حتى الجهات الخارجية التي تدير المؤامرات، لتستغلّ الظرف وتحرِّك النار تحت الرماد.
وإذا كانت الشعوب العربية لم تنزل إلى الشارع الآن، فلا يعني ذلك أنّ الأمور على ما يُرام، وأنّها راضية؛ فيكفي أنّ هذه الشعوب تمارس «المعارضة السلبية»، وهي عدم التفاعل مع الأنظمة في قراراتها، بما يشير إلى عدم الاعتراف بها.
إضافةً إلى التراكمات الكثيرة داخل الأوضاع العربية من تردّي التعليم، وسوء أحوال الناس المعيشية، وكثرة الضغط على الناس في حريّة التعبير، وغياب العدالة الاجتماعية، وانتشار الفساد والمحسوبية وغير ذلك؛ فهناك الآن سببٌ آخر أضيف إلى كلِّ ذلك، وهو «ظاهرة ترامب». فلم يحصل في التاريخ أن أهان رئيسٌ أمريكيٌ الحكّامَ العرب – خاصة حكّام الخليج – بمثل ما أهانهم به الرئيس ترامب بوقاحة لا نظير لها. وهذا بدوره، زاد من احتقان الشعوب ضد حكّامهم.
كلُّ تلك الظروف الصعبة التي يمرّ بها المواطن العربي، هي كفيلةٌ بأن تحوِّله من إنسان مسالم مطيع إلى إنسان متوحّش، ينتظر فقط الفرصة المناسبة لينقضّ على من أوصله إلى تلك الحالة من الضغط والكبت.
وقصة «الذئب.. أصله خروف» للكاتب التركي عزيز نيسين تحكي واقع المواطن العربي وما يقاسيه ويعانيه من الضغوط اليومية، قبل أن يتحوّل إلى وحش كاسر. تقول تفاصيل القصة:
« في مكان مجهول لا تعرف موقعه بسهولة، يعيش راع وأغنامُه وكلابُه. لكن الراعي لا يشبه الرعاة الآخرين؛ فهو لا يعرف للرحمة معنى؛ ولا يعتقد أنّ للألم وجودًا. كان ظالمًا.. يحمل بدل الناي صفارة، وبيده هراوة. والنعاجُ – التي يحلبها ويجز صوفها ويبيع أمعاءها ويأخذ روثها ويسلخ جلدها ويأكل لحمها ويستفيد من كلِّ ما فيها – لا يكنّ لها شفقة أو محبة. يحلب الأغنام يوميًا ثلاث مرات حتى يسيل الدم من أضرعها. وعندما تشكو ذارفةً الدموع من عينها ينهال عليها ضربًا على رؤوسها وظهورها. لم تحتمل النعاج وحشيته؛ فكانت تتناقص يومًا بعد يوم. لكنه ازداد قسوة. فقد كان على العدد المتناقص من الأغنام أن يعوِّضه عن كلِّ ما هرب أو مات من القطيع. وقد فقد الراعي عقله وجن، لأنّه كان يحصل على حليب وصوف أقلّ ممّا كان يحصل عليه. وراح يطارد الأغنام المتبقية في الجبال والسهول، حاملا هراوته في يده، ومطلقا كلابه أمامه. كان بين الأغنام خروف نحيف يريد الراعي حلبه والحصول منه على حليب عشرين جاموسة. وكان غضبه أنه لا يحصل على قطرة حليب منه، لأنه ببساطة خروف وليس نعجة. وفي يوم غضب الراعي منه وضربه ضربًا مبرحًا جعله يهرب أمامه. فقال له الخروف: «يا سيدي الراعي أنا خروف. قوائمي ليست مخصصة للركض بل للمشي. الأغنام لا تركض. أتوسل إليك ألا تضربني ولا تلاحقني». لكن الراعي لم يستوعب ذلك ولم يكف عن ضربه. ومع الأيام بدأ شكل أظلاف الخروف يتغيّر لكثرة هروبه إلى الجبال الصخرية والهضاب الوعرة، للخلاص من قسوة الراعي القاتل.. طالت قوائمه ورفعت. فازدادت سرعةُ ركضه هربًا؛ لكن الراعي لم يترك إليته.. فاضطر الخروف للركض أسرع. ولكثرة تمرغه فوق الصخور المسننة انقلعت أظلافه ونبتت مكانها أظافر من نوع آخر، مدببة الرأس ومعقوفة؛ لم تعد أظافر بل مخالب. مرةً أخرى لم يرحمه الراعي؛ فواصل الخروف الركض. فكان أن شفط بطنه إلى الداخل واستطال جسمه وتساقط صوفه. ونبت مكان الصوف وبرةٌ رماديةٌ قصيرةٌ وخشنة. وأصبح من الصعب على الراعي أن يلحق به. لكن ما إن يلحق به حتى يواصل ضربه وإهانته؛ وهو ما جعل الخروف يُرهف السمع حتى يستعد للهرب كلما سمع صوت قدوم الراعي أو كلابه. ومع تكرار المحاولة انتصبت أذناه، وأصبحت مدببة قابلة للحركة في كلِّ اتجاه. على أنّ الراعي كان يستطيع أن يصل إليه ليلا وضربَه براحته؛ فالخراف لا ترى في الظلام. وفي ليلة قال الخروف: سيدي الراعي. أنا خروف، لا تحاول تحويلي إلى شيء آخر غير الخروف؛ لكن الراعي لم يستوعب ما سمع. فكان أن أصبح الخروف يسهر ليلا ويحدق بعينه في الظلام. ولكثرة تحديقه كبرت عيناه، وبدأت تطلقان شررا، وغدت عيناه كعودَيْ كبريت في الليل. تريان في الظلام أيضًا. كانت نقطة ضعف الخروف هي إليته. فهي ثقيلة تعطله عن الركض. لكن؛ لكثرة الركض ذابت إليته واستطالت. وفي النهاية أصبحت ذيلا على شكل سوط. ورغم فشل الراعي في اللحاق به، فإنه كان يلقي الحجارة عليه ويؤلمه. وكرر الخروف على مسامع الراعي: «إنني خروف يا سيدي. ولدت خروفًا، وأريد أن أموت كبشًا، فلماذا تضغط عليّ كي أتحوّل إلى مخلوق آخر؟».
لم يكن الراعي يفهم. فبدأ الخروف يهاجم الراعي عندما كان يحصره في حفرة ما لحماية نفسه من الضرب. وغضب الراعي أكثر. فضاعف من قسوته بجنون لم يشعر به من قبل؛ فاضطر الخروف أن يستعمل أسنانه. لكنه لم يستطع ذلك، لأنّ أسنانه داخل ذقنه المفلطحة. وبعد محاولات دامت أيامًا بدأت أسنانه تنمو. وفيما بعد استطال لسانه أكثر. وأصبح صوته غليظًا خشنًا. ولم يستوعب الراعي ذلك. وواصل ما يفعل وبالقسوة نفسها.
ذات صباح شتوي، استيقظ الراعي مبكرًا ليجد المكان مغطى بالجليد. وتناول هراوته التي سيحث بها نعاجه المتبقية على حليب عشر بقرات وذهب إلى الزريبة. لكن ما إنْ خرج من الباب حتى وجد بقعًا من الدم الأحمر فوق الثلج. ثم رأى أشلاء أغنام متناثرة. لقد قُتلت كافة النعاج ومزِّقت. ولم يبق منها ولا واحدة. وظلل عينيه بيديه ونظر بعيدًا فرأى الخروف. كان الخروف قد مد قائمتيه الأماميتين قدامه وتمدد بجثته الضخمة على الثلج وهو يلعق بلسانه الطويل الدماء من حول فمه. ثمة كلبا حراسة يتمددان على جانبيه دون حراك. ونهض الخروف وسار بهدوء نحو الراعي. كان يُصدرُ صوتًا مرعبًا.. وبينما الراعي يتراجع إلى الخلف مرتجفًا قال متمتمًا: «يا خروفي. يا خروفي. يا خروفي الجميل». عوى الخروف قائلا: «أنا لم أعد خروفًا». كرر الراعي ما قال. عوى الخروف قائلا: «في السابق كنتُ خروفًا. ولكن بفضلك أصبحتُ ذئبًا». وجرى وراءه.
لم يفهم الراعي الدكتاتور، توسلات الخروف؛ وإنما مارس ديكتاتوريتَه وساديتَه عليه، حتى حوّله إلى ذئب مفترس، دفع ثمنَ ذلك الراعي نفسه؛ فقد اعتقد أنه بسلطته وجبروته يستطيع أن يتعامل مع نعاجه دون رحمة؛ فهو السيّد الآمر المطاع، وهي عليها أن تطيع فقط دون التفكير في الحقوق. رغم أنه استفاد منها في كلِّ شيء؛ فهو يحلبها، ويجز صوفها، ويبيع أمعاءها، ويأخذ روثها، ويسلخ جلدها، ويأكل لحمَها، ويستفيد من كلِّ ما فيها؛ إلا أنّ قلبه لم يكن يعرف الرحمة.
ما أشبه موقف هذا الراعي بموقف الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، عندما وقف خطيبًا، قبل ساعات من مغادرته تونس إلى منفاه في السعودية، يوم الخميس الثالث عشر من يناير 2011، وقال للشعب التونسي إنه «الآن فهمتكم»؛ بعد أن حكمهم تلك السنوات كلها التي دامت ثلاثًا وعشرين سنة. ومن ضمن ما قاله الرئيس التونسي باللهجة العاميّة: «أنا فهمتُكم، فهمتُ الجميع: البطّال، والمحتاج، والسياسي، واللي طالب مزيد من الحريات. فهمتكم، فهمتكم الكلّ. لكن الأحداث اللي جارية اليوم في بلادنا ما هِيَش متاعنا، والتخريب ما هُوَش من عادات التونسي، التونسي المتحضر، التونسي المتسامح. العنف ما هوَش متاعنا، ولا هو من سلوكنا، ولا بد أن يتوقف التيار. يتوقف بتكاتف جهود الجميع، أحزاب سياسية، منظمات وطنية، مجتمع مدني، مثقفين ومواطنين. اليد في اليد من أجل بلادنا. اليد في اليد من أجل أمان كلِّ أولادنا». وعبّر الرئيس زين العابدين عن حزنه عندما قال: «حزني وألمي كبيران.. لأني مضيت أكثر من 50 سنة من عمري في خدمة تونس في مختلف المواقع؛ من الجيش الوطني إلى المسؤوليات المختلفة، و23 سنة على رأس الدولة، كلّ يوم من حياتي كان ومازال لخدمة البلاد، وقدّمت التضحيات وما نحبش نعدِّدها ولم أقبل يومًا «وما نقبلش» باش تسيل قطرة دم واحدة من دماء التونسيين. تألمنا لسقوط ضحايا وتضرُّر أشخاص، وأنا نرفض أن يسقط المزيد بسبب تواصل العنف والنهب. وأسفي كبير كبير جدا، وعميق جدا، وعميق جدا، فكفى عنفا كفى عنفا». وتمامًا مثل راعي عزيز نيسين عندما طلب من الخروف أن يهدأ بعد أن التهم الأغنام؛ قال زين العابدين بن علي: «ونستنّى من كلّ تونسي، اللي يساندنا واللي ما يساندناش، باش يدعم جهود التهدئة والتخلي عن العنف والتخريب والإفساد؛ فالإصلاح لازمو الهدوء، والأحداث اللي شفناها كانت في منطلقها احتجاج على أوضاع اجتماعية، كنا عملنا جهود كبيرة لمعالجتها ولكن مازال أمامنا مجهود أكبر لتدارك النقائص، ولازم نعطي لأنفسنا جميعا الفرصة والوقت باش تتجسد كلّ الإجراءات الهامة التي اتخذناها». وهنا فقط في الوقت بدل الضائع من المباراة التي استغرقت ثلاثًا وعشرين سنة يعلن الرئيس زين العابدين بن علي: «وزيادةً على هذا كلفت الحكومة، اتصلت بالسيد الوزير الأول باش نقوم بتخفيض في أسعار المواد والمرافق الأساسية، السكر والحليب والخبز، والرفع في ميزانية التعويض. أما المطالب السياسية «وقلتلكم أنا فهمتُكم»، قررت الحريّة الكاملة للإعلام بكل وسائلو وعدم غلق مواقع الأنترنات ورفض أي شكل من أشكال الرقابة عليها، مع الحرص على احترام أخلاقياتنا ومبادئ المهنة الإعلامية».
كان زين العابدين بن علي صورةً حيّة لما أشار إليه عزيز نيسين في قصته «الذئب أصله خروف». وإذا كانت القصة قد سبقت خطاب ابن علي بسنوات؛ فإنّ الدرس ما زال مستمرًا. فلا ينبغي لأحدٍ ما أن يأتيَ يومٌ ويقول فيه لرعيته «تو فهمتكم» كما قالها زين العابدين؛ ففرصةُ فهم الشعوب ما زالت قائمة؛ والشعوب في الأساس مطالبها بسيطة جدا، يمكن تلخيصها في كلمتي «العزة والكرامة» فقط.
ونختم المقال بكلماتٍ قالها الخليفة عُمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، في إحدى خطبه لعُمّاله: «أَلا لا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ، وَلا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فَتُكَفِّرُوهُمْ، وَلا تُجَمِّرُوهُمْ فَتَفْتِنُوهُمْ، وَلا تُنْزِلُوهُمُ الْغِيَاضَ فَتُضَيِّعُوهُمْ».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق