مقالات

آخر الأوراق

حسن المطروشي

هارون الشريد

يذرع أرصفة السنين ويمشط طرقات الأزمنة، لا يحمل سوى ذكريات الأطفال في جيبه المثقوب. هو زعيم الأزقة والسكك التي أورثته كامل ضوضائها، بثغاء خرافها وصياح ديوكها وتبتلات متصوفيها وتنويمات أمهاتها وأناشيد رعاتها ومواويل بحارتها وتلاوات مقرئيها وأصداء مآذنها العتيقة ورنات خلاخيل فتياتها اللاتي كان يخاتلهن بشقاواته المعهودة .. لا ريب إذن أن تنمو في قلبه غابات كل هذا الحزن العظيم.
يرقب غيوم السماء العابرة عميقا في الأعالي كأحلامه، أو كالأصوات المديدة البعيدة الناحبة في آبار ذاكرته المشحونة، فيخاطبها: «أمطري أو لا تمطري فإن بروقك ستسطع في قلبي»!
هو ابن الفلاحين والبحارة وباعة المشغولات اليدوية البسيطة و«الدنجو» و «الباجل» وقراء التمائم والمنجمين و «المطاوعة» المزيفين والأطباء الشعبيين والمغنين البسطاء ومدخني «المدوخ» و «القدو» ومدمني الشاي الأحمر والشعراء والكذابين الصغار!
هو رفيق النخيل والبحر والأشرعة والبساتين وقطعان الماشية والأبقار والطيور الأليفة والمهاجرة كروحه .. هو المشاء الجوّاب الضليل!
لم تتسع المدرسة الكبيرة لقلبه، ولم تتسع مقرراتها لأسئلته، ولم يتسع صدر المعلم البدين لشقاواته أو هفواته وشروده الدائم!
لقد تنبأت أمه بأن ابنها هذا سيكون له شأن كبير، بأنه سيخاطب السحاب، وسيهزم بني أمية، وسيحرر جميع بط القرية ودجاجها وجحوشها ووحوشها، وسيرث كل ما خلفه أبوه من خيبة وفقر، وسيعرفه القاصي والداني، ذلك لأنه يحمل اسم عمه .. أجلْ عمه «النوخذة» المغامر الذي مات قبل أن يتزوج، وجميع أمواله قد ذهبت قروضا للفقراء والمحتاجين الذين أنكروها بعد مماته!
كان بعض أصدقاء عمه يأتون إليه كلما شدهم الحنين إلى عمه الراحل، ليروا فيه صورة الرجل المغامر القديم، الذي قهر البحار بعزيمته، وصارع الرياح والأهوال، وعرفته الأمواج والشطآن والموانئ واللجج وظلمات الأعماق المهيبة بكائناتها الشرسة وسكونها المديد!
حدّث نفسه ذات ألم، وسمعته الأشجار والأصداف إذ قال: «أنا الخليفة هارون الشريد .. . أنا خليفة أبي وعمي .. فأي دابة ستعثر في هذا الحقل سيسألني الله عنها، وكل شجرة ستشي بي للريح والمطر، وكل ساجعة ستفرغ ألمها في صدري .. . إنه قدرنا نحن الخلفاء»

الطفْلُ على درّاجَتِهِ الصَّدِئةْ

يَمْضي للبحْرِ صباحاً،
يَعْبُرُ بالبَحَّارَةِ،
بالحَطّابينَ الأفْظاظِ،
بفَلاّحاتِ الحيِّ،
بمِصْطَبَةِ «المُلّا»،
وبرائحةِ السردينِ الجافِّ،
بقارئةٍ للفأْلِ،
وبالرُّعْيانِ،
يطارِدُ شَمْساً مُبْتَدِئةْ

الطفْلُ على درّاجَتِهِ الصَّدِئةْ

سَيَعودُ عِشاءً بالغَرْقى للبيتِ،
بلا وجْهٍ،
وعلى كَتِفَيْهِ
دموعُ قَراصِنةٍ
وعُصورٌ مُنْطَفئةْ!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق