مقالات

ما بين ألم العزلة، وأنين المكتبة

سلطان بن عبدالله الشهيمي

ما بين ضجيج القلق وألم الانتشار ترتعُ جائحة كورونا، مسجلة أرقاما خيالية في عالم الأوبئة، التي عادت من جديد، ملقية بظلالها على مرضى ما زالوا يصارعون من أجل البقاء. وما بين عزلتي وغياب جليستي، حكاية أخرى من حكايات الأنين.

لم أعتد على الرحيل عنها لوقت طويل. تركتها إبان سفري في ظلمة الليل البهيم تصارع ألم الفراق. خففت من وطأته فأرسلتها مع بساط الريح إلى مسقط رأسي: دماء والطائيين؛ كي تأنس بفراش البشاشة، حيث الجداول والوديان والأطيار والأشجار، وتحلّق مع الشاعر: 

“للحقلِ يَرْتَجِلُ الرّوائعَ       زنْبقًا أو سَوْسنا

     للعشبِ أَثْقَلَهُ النّدى       للغُصنِ أثقَلَهُ الجَنى”

ثم أُودِعتْ في مكان يليق بمقامها العالي، على نية أن نعود إليها لتشاركنا فرحتنا عند الأوبة من السفر. ولكن إرادة الله نافذة.  لم تدم سعادة وصولنا طويلا؛ فإذا بذلك الكائن المخبوء خلف العوالم الخفية يَقضّ مضجعنا، ويُسْلِمُنا إلى عزلةٍ طويلة التي نرجوها قصيرة- نسأل الله ذلك-. هذه الجائحة سكنت قلوبنا؛ فآلمتنا عزلتها، فأقعدتنا. وما بين هذه الآلام هناك ألمُ الوصول إلى العزيزة: مكتبتنا التي ما زالت منزوية بين جدران قُمْقُمها في البلدة البعيدة. لا أنا قادر على الوصول إليها، ولا وسيلة مثلى هناك تقتنصُ فرصةَ حملها؛ إذ المرض ما زال جاثما ماثلا للعيان. وإجراءات الحدّ من انتشاره بدأت تتعاظم يوما بعد يوم. فأنّى لي حينها التناوشُ من مكانٍ بعيد.

أصبحت حركتنا محدودة جدا هنا في العاصمة، وخطواتنا لا تعدو العشر، بعد أن كانت البيئة تضج بالحركة والناس، الذين كانوا قد ألِفوا الخروج والتواصل مع الآخرين. ولكن من أجل عمان، ومن أجل أنفسنا، وصونًا لحياتنا التي أراد الله أن نحافظ عليها: “ولا تُلقوا بأيديكم إلى التّهْلكة”، كنا مع مطلب: “ابقَ في البيت”. ومع ذلك، بقاؤنا ولّد عزلةً كبيرة، وبُعْدُنا عن مكتبتنا التي فارقناها ما يزيد عن السنتين ولّدت هي الأخرى عزلة جديدة، يرافقه أنين البعاد. فنُرَجّي أنفسنا بقرب المخْلَص مع دعاوتنا الخالصة لله تعالى أن يمسحَ عنا الكُرَب، ويكشِفَ عنا البلايا والأسقام. أردنا أن نهْنأ بها وتهنأ بنا إلا أن إرادة الله هي الغالبة. 

“يا من يُرجّى للشدائدِ كلِّها    يا من إليه المُشتكى والمَفْزعُ

يا من خزائنُ رزقِهِ في قولِ كُنْ     اُمْنُنْ فإنَّ الخيرَ عندك أَجْمَعُ”

٣١/٣/٢٠٢٠

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق