الثقافي

جيكور.. الموقع والتكوين والملجأ

سعيد الكندي

جيكور التي حدثنا عنها شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب، والتي خلدها في شعره، قرية صغيرة من قرى جنوب العراق، دورها الطينية بسيطة ذات طابق واحد، تظللها أشجار النخيل، وهي مبنية من اللبن غير المشوي وجذوع النخل، وتتخللها جداول وقنوات تقطعها المعابر، ويمتد معظمها على طول طريق جهم مغبر وراء جدران لا نوافذ فيها، على امتداد شط العرب الى الجنوب الشرقي من البصرة، وتبعد عن أبي الخصيب حوالي ثلاثة كيلو مترات، أو مسيرة ثلاثة أرباع الساعة مشيًا على الاقدام. وتبعد أبي الخصيب عن البصرة مسيرة ثلاثة أرباع الساعة في السيارة في الاتجاه الجنوبي الشرقي.
« جيكور» اسم لجدول مائي، ويبدو أن اسمها مأخوذ من العبارة الفارسية « جوي كور» وتعني «الجدول الأعمى» أما «بويب» فهو جدول أصغر منه، وهو متفرع من نهر صغير يدعى «أبو الفلوس»، و «جيكور» القرية زاوية من زوايا مثلث يضم «جيكور كوت بازل بقيع/ بكيع» التي يمر بها «بويب».
كما أن «جيكور» لا تتميز بشيء لافت للنظر عن سائر قرى العراق الجنوبي فهي عامرة بأشجار النخيل التي تظلل المسارح المنبسطة ويحلو لأسراب الغربان أن تردد نعيبها فيها، وعند أطرافها مسارح منكشفة تسمى البيادر تصلح للعب الصبيان ولهوهم في الربيع والخريف، وتغدو مجالا للنوارس في فصل الصيف .
وأكثر سكان «جيكور» إن لم نقل جميعهم ينتمون الى عائلة واحدة هي «آل السياب» وفيها يقيمون منذ أجيال، وتمتد منازل بعضهم الى بقيع، حيث تجاورهم عائلات أخرى تربطهم بها صلة المصاهرة، أما «كوت بازل» فإن آل السياب ينظرون اليها بنوع من الشنآن الناجم عن احقاد وترات قديم، ولذلك كانت الروابط بينها وبين «جيكور» واهية أو عدائية، ويتبين ذلك من خلال شعر بدر لهذه المواقع، حيث كوت بازل للسبب المتقدم ممحوة مطموسة المعالم، أما بقيع فباهتة تتضاءل أمام لألاء «جيكور» التي كانت منزلا لجد السياب لأمه، ففيها نشأت أمه «كريمة» وإليها كانت تتردد إلى ان أدركتها الوفاة، حيث كانت لا تقيم في «كوت بازل» وإن كانت أمه تسكن «جيكور» وفيها ماتت، فقد كان أبوه يسكن «بقيع».
تزوج شاكر أبو الشاعر سنة 1925م وكانت عروسه كريمة ابنة عمه ذات سبعة عشر ربيعا انتقلت من «جيكور» الى بقيع: ويرجح أن تكون ولادة بدر (24 أو 25 ديسمبر 1926م ) في قرية «جيكور» . ولما بلغ بدر سن الدخول الى المدرسة لم تكن آنذاك في «جيكور» مدرسة فاختار الأب لابنه ان يذهب الى المدرسة الحكومية في قرية باب سليمان المجاورة لـ «جيكور»، وكان الطفل يذهب كل يوم الى المدرسة مشيا على الاقدام.
وبعد وفاة والدته بأربع سنوات عاش بدر في بيت جده يلعب مع الأطفال في « منزل الأقنان» أو «كوت المراجيح» كما يسمونه، وقد أخذ بدر ينظم الشعر في سن مبكرة في وصف الطبيعة والسخرية من أترابه، كما تقدم عدد من الخطوات الى الأمام وأخذ ينظم الشعر الوطني؛ مما دفعه في هذه المرحلة الى إصدار مخطوطة لجريدة خطية أخذ يصدرها مدة من الزمن اسماها «جيكور» مقرها «منزل الأقنان* وموزعوها أترابه من الأطفال، حيث تتناقلها أيدي صبيان القرية للاطلاع عليها، ثم تعود في ختام المطاف لتجد محلها على الحائط في غرفة الإدارة .
وكان بدر شديد التعلق بامه فكان يصحبها كثيرًا عند زيارتها «جيكور» كلما حنت الى زيارة أمها وكان يحلو للصبي أن يلعب بين جنبات بستان يقع على ضفة نهر «بويب» ويقطف من ثماره إبان موسم التمر، فكان عالم الصغير هو تلك الملاعب التي تمتد بين أحياء «جيكور» ومزارع بويب، وربما بقي هذان المكانان نصيبه من الحياة حتى النهاية، فينهما غزل خيوط عمره وذكرياته وأمانيه ومزج ثراهما بدموعه فكانت أماكن لا تنسى حفر لها في أعماق قلبه، وكان كلما مضى يشق دروب الحياة مثل أمامه شخصان يوهنان من عزمه وإرادته ويردانه الى الماضي ويجرانه الى حلم طويل، وكان مما زاد في تعلقه بها أنه دفن في ثراها أمه، فلما ماتت لم يجد بدرًا الحضن الدافئ، فمضى يبحث عن أمه فوجد صورتها وقلبها الطيب في جدته التي كانت تعيش في «جيكور» وهكذا تضاءلت صلته بـ «بقيع»، فلم يكن يذهب الى بيت أبيه إلا لمامًا، حيث كان يحس بعطف جدته وحنانها.
ولما كان بدر يتحدث فيما بعد عن بيت العائلة في «جيكور» فإنها يعني البيت الذي ولد فيه وعاش فيه سنوات طفولته في ظل أمه، وقضى فترات متقطعة من صباه وشبابه الباكر في جنباته، وهكذا ينبسط اسم «جيكور» على القريتبن إذ ليست «بقيع» في واقع الحال إلا حلة من «جيكور» وقد دعاه الشاعر في إحدى قصائده المتأخرة «بيت الأقنان» وجعل الاسم عنوانًا لديوان باسمه . وفي السنوات المتأخرة هجر آل السياب «جيكور» الى المدن لطلب الرزق والمعيشة، وقد انتصرت المدينة على القرية، رغم مقت بدر لهذا الانتصار، ولكنها سنة الحياة وشرعة الإنسان، الذي تعود أن يطلب الرزق عند تزاحم الأقدام.
بعد أن أنهى بدر دراسته الابتدائية صيف 1938م، أرسله جده الى البصرة لمواصلة تعليمه الثانوي، ومع أنه كان يدرس في البصرة إلا أن قلبه دائما معلق بـ «جيكور» فهناك ملاعب طفولته، وهناك «وفيقة»* إحدى بنات عمومته، وكان حين يعود الى «جيكور» يساعد جده في رعاية قطيع صغير من الخراف.
لقد فجع بدر بعد تخرجه من الثانوية عام (41-1942م) بفقد جدته، وكان ذلك في 9/9/1942م ومن قبل فقد أمه الحبيبة وأباه الحاني، فلم يكن بدر أن يتصور يومًا ما أن تكون «جيكور» علاقته بها علاقة مع التراب والقبور والنخيل. أما السفر والانتقال الى بغداد فقد كانت بالنسبة له تجربة جديدة وغنية لمس فيها نوعا من التغيير والفرق الكبير بينها وبين قريته، حيث وجد في بغداد صراع التيارات الأدبية والاتجاهات السياسية، الأمر الذي لم يكن ليتاح له وهو في «جيكور».
ومن أهم المحطات التي كانت «جيكور» حاضرة فيها هي مجيئه بين الفترات التي كان يدرس فيها في بغداد، كما تم اعتقاله فيها إبان أحداث عام 1949م زمن حكومة نوري السعيد، وكان إيداعه في السجن سبب له معاناة نفسية ممضة، حينها عاد الى «جيكور» مفصولا من عمله في 25/1/1949م، بالإضافة الى منعه من التدريس عشر سنوات. وبعد أن قضى فيها بعض الوقت ذهب الى البصرة للبحث عن عمل.
شارك بدر في الإضرابات والمظاهرات الصاخبة أواخر عام 1952م التي هزت بغداد، قرر فيه بدر الهرب الى إيران؛ فتنكر في زي اعرابي وذهب الى «جيكور» بمساعدة أحد المهربين على الوصول الى «خرم شهر»، وبعد أن مكث في ايران قرابة الشهرين وعشرة أيام، أخذ به الضيق فقرر العودة الى الكويت، وتم تزويده بجواز سفر إيراني مزور، كما كان عليه أن يدخل الكويت مهربا، وكان ذلك في أوائل عام 1953م، وبعد أن عمل في الكويت في شركة الكهرباء، دفعه الحنين الى العراق، وبعد ستة أشهر قرر العودة الى «جيكور» وقد أصبح فيصل الثاني ملكا وفاضل الجمالي رئيسا للوزراء، فلم تطل الإقامة فيها؛ لأنه كان بحاجة الى العمل، ولأن «جيكور» كانت تضيق بمطامحه الأدبية ولذلك توجه الى بغداد.
بالرغم من أن بغداد شكلت منعطفًا حاسمًا في حياة بدر، إلا انه بعد المعاناة الطويلة من الضعف والمرض أخذ يحن الى الراحة والابتعاد عنها وذكرياتها المرة، حيث يريد راحة الجسد الذي بدأ يتداعى، بعد الإصابة بضعف عام وشلل رجله اليمنى التي أصبحت لا تقوى على الحركة، وقد ظلت فكرة الابتعاد عن بغداد تلح عليه الى ان كتب الى أدونيس في 18/12/1960 قائلًا: «سوف أنقل مقر عملي الى مدينة البصرة، فقد هزني الشوق الى «جيكور» وبويب وسواهما من ملاعب الطفولة». وما لبث بعد أربعة أيام أن استقال من عمله، وانتقل مع عائلته الى البصرة. وفي ربيع عام 61م زار «جيكور»؛ فأثارت في نفسه حشدا من الذكريات وأنتجت عددا من القصائد المسربلة بالموت.
ملحوظة: اعتمدت هذه المقالة على عدد كبير من المراجع، وستدرج مجملة دون تفصيل؛ كون المعلومات المستمدة منها متداخلة، فمن الصعوبة بمكان أن يشار الى مصادرها كل على حدة.
ـ د. احسان عباس بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره دار الثقافة بيروت 1969م . ط 5، 1982م.
ـ عيسى بلاطة / بدر شاكر السياب حياته وشعره دار النهار للنشر بيروت 1978م.
ناجي علوش/ مقدمة ديوان السياب المجلد الثاني دار العودة بيروت 1989م.
ـ عبد الجبار عباس السياب وزارة الثقافة والأعلام بغداد 1971م
ـ ياسين النصير جماليات المكان في شعر السياب دار المدى للثقافة والنشر دمشق 1995م

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق