العام

أول حرب بيولوجية في التاريخ .. يستعيدها كورونا

كتب: خالد المعمري

باحث في التاريخ البريدي

يوميا تأتينا الأخبار من هنا وهناك حول فيروس كورونا على أنه سلاح بيولوجي جديد لإشعال الحرب العالمية الثالثة، التي لن تكون هنا بالبنادق والدبابات،  وإنما ستكون حربا صامته بإطلاق سلاح فتاك يقضي على نصف سكان الكرة الأرضية بين الدول الكبرى. وتارة يأتي خبر مقتبس من جريدة قديمة او مشهد من مقطع فيلم أو كتاب نشر قبل سنوات أو تنبؤات للعرافين بهذا الفيروس، وان الهدف من ورائه هو القضاء على مليون إنسان للتخلص من كبار السن والمرضى أو البشر غير المنتجين، وكل يوم يخرج لنا دواء ولقاح جديد. 

أصبح هذا الوباء حديث الساعة، تتناقل حوله الأقاويل والإشاعات والعلاجات. وهذا الموضوع أعادنا بالذاكرة إلى أكثر من مائتين وخمسين سنة للوراء، حول أول حرب بيولوجية دوّنها التاريخ في حق شعب كامل، وهم الهنود الحمر، سكان قارة أمريكا الأصليون الذين اختفوا اليوم ولا وجود لهم باستثناء أقلية صغيرة تعيش بمعزل عن العالم الخارجي الذي فرض عليهم من قبل المحتل.

يعلم الجميع أن الهنود الحمر، حسب ما يطلق عليهم، أنهم سكان القارة الأمريكية الاصليون، وتعود التسمية لهم عندما اكتشف الرحالة الايطالي كريستوفر كولومبس القارة الأمريكية. وظنا منه أنه وصل إلى سواحل الهند، فأطلق على سكانها الهنود الحمر بسبب لونهم المائل للحمرة ولتميزهم عن الهنود الأسيويين، كما أطلق ايضا عليهم الهنود الأمريكيون.

وقبل وصول الأوروبيين إلى القارة الأمريكية كان للهنود الحمر انتشار واسع في معض دول أمريكا، ما يدل على أنهم من أقدم الشعوب والحضارات. وقد جرى استقبال كولومبس الترحيب به اعتقادا منهم أنه جاء زائرا، وعلموه طرق الزراعة والصيد، ولكنه غدر بهم، لأنه قام بحملة ضد السكان الاصلين، وأخذ معه 500 هندي إلى اسبانيا، وقام ببيعهم كعبيد في إشبيلية.

ذاع صيت الهنود الحمر ومناطقهم التي أصبحت أرض الأحلام بالنسبة للأوروبيين، لأنهم عرفوا عنهم أنهم ناس بسطاء، وأن أرضهم الخصبة ستكون بمثابة دولهم الجديدة والمستقبلية، فشرعوا للتخلص منهم عبر الهجمات المتكررة، فقتلوا كل ما يصادفهم  وأحرقوا المحاصيل الزراعية وأغلقوا الآبار، وسمموا المياه بغرض قتلهم من الجوع، وضيقوا عليهم الخناق بكل الطرق. ونظرا لعدم تكافؤ القدرات في الحرب بوجود أدوات بدائية مع الهنود، رغم كثرة العدد، فإن الغلبة كانت للمستعمر. واجتمع زعماء القبائل الهندية لإحلال السلام والتفاوض مع المستعمر الجديد ومد يد الصداقة لهم، رغم أن الهنود لم يقاتلوا إلا في محاولات يائسة منهم لمنع المستعمرين من التوغل أكثر، ومنعهم من اختطاف أبنائهم وبناتهم للعمل في مناجم الفحم والذهب أو بيعهم كعبيد.

بداية الحرب

وافق المستعمر على السلام وتوقيع الاتفاقية مع الهنود الحمر ظاهريا، إلا أنه بيّت بداخله البحث عن طريقة للتخلص عن ما تبقى منهم، رغم أن العدد كما تشير بعض المراجع والأبحاث والدراسات المتعلقة بهذا الشعب، يصل إلى الملايين من الهنود الحمر، متوزعين في عدة دول. وهم أيضا عدة قبائل، يحكمها نظام قبلي، أي كل قبيلة يكون المسؤول عنها هو الشخصية الأكبر أو الأقوى في القبيلة. 

ووافق المحتل على المقترح بمعاهدة السلام على أن يقوم بتوزيع بعض المواقع بينهم وبين الهنود الحمر. وبعدها بفترة من توقيع معاهدة السلام وبطرق خبيثة قام البيض أو الرجل الأبيض، كما يطلق عليه، بإهداء البطاطين (بجمع طانية) واللحف إلى الهنود الحمر، ولكن لم يخطر على بال الهنود المساكين أن هذه الهدايا ملوثة بالجراثيم والأوبئة مثل وباء الطاعون والسل والكوليرا، لتفتك بهذا الشعب الطيب بدون بنادق ومدافع أو مواجهة من الرجل الأبيض.

وتعد هذه أول حرب بيولوجية في التاريخ، جرى التخطيط والإعداد لها. وقد جرى الاستعانة بالأطباء لنشر هذا الوباء. وحتى لا تنتقل الأوبئة للرجل الأبيض، ولإيصالها إلى قبائل الهنود الحمر بطرق آمنه. 

تلك أكبر جريمة وقعت لشعب بريء. ورغم ما أطلقت عليهم السينما الأمريكية أنهم شعب همجي ووحشي، وشوهت سمعتهم بكثرة الأفلام والدعاية عن وحشيتهم، إلا أن المتتبع لتاريخهم يعرف أنهم كانوا دائما يبحثون عن الاستقرار والسلام لشعوبهم، لانهم رحل بالفطرة، بحثا عن المراعي والتربة الخصبة للزراعة والصيد الذي يعتبر من مصادرهم الحيوية.

وقبل هذا الحدث وبالتحديد في بتاريخ ١٣ يوليو ١٧٦٣ كانت المقترحات بين العقيد هنري لويس بوكيه، وهو مرتزق سويسري، برز في الخدمة البريطانية خلال الحرب الفرنسية والهندية وحرب بونتياك. اشتهر بوكيه بانتصاره على قوة أمريكية أصلية في معركة بوشى ران ، ورفع حصار فورت بيت خلال حرب بونتياك وبين اللورد جفري أمهرست (كان ضابط في الجيش الريطاني والقائد العام للقوات البريطانية في القرن الثامن عشر). كان من أهم المقترحات بينهم قتل الهنود بكلاب الصيد، لكن رد جيفري بأنه لا توجد كلاب تكفي لهذا العدد. وفي رسالة ردا على هنري بوكيه بتاريخ 26 يوليو 1763 وافق على المقترح الآخر باستخدام البطانيات، مستغلين تفشي مرض الجدري الذي اندلع في (حامية فورت بيت، وهي عبارة عن حصون أو معسكرات للجنود. كما تم الاستعانة ببعض المناديل والبطانيات من المستشفيات الأوروبية، لتوزيعها ضمن الهدايا، فقد كانت الخطة مدروسة بإحكام قبل التنفيذ. 

 

استقبل الهنود جفري اهرست بكل حفاوة، وأعطوه الكثير من الذهب، ولكنه ترك القارة الهندية مخلفا وراءه حوالي 15 مليون هندي ممن فتك بهم المرض. وقد رصد مبالغ مالية ومكافآت، لمن يأتي برأس هندي. كانت الخطة متكاملة للقضاء على عرق كامل. وتعد هذه من أبشع الجرائم بحق البشرية جمعا في ذلك الوقت. 

ويعيش أغلب الهنود الآن في محميات نائية جدا، في ظروف اقتصادية صعبة، رغم أنهم أصحاب الأرض الأصليون، بالرغم من اعتراف الكونجرس الامريكي للقبائل الهندية بالسيادة على أراضيهم، ولكن بعدم أحقية الاستقلال، وكل محمية لها قانونها الخاص، مثلما كان الأمر سابقا، ولكنهم يعيشون في عزلة تامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق