مقالات

أربعة شعراء من سرور وأعمال شعرية مفقودة ..

 

د. سيف الرمضاني

 

سرور تلك القرية الريفية الوادعة الجميلة التي تبدو كحورية تستحم على ضفاف وادي سمائل الخصيب يبدو أن لها نصيباً من اسمها الذي من بين ما يعنيه الفرح والنعمة والبشاشة والطرب والنشوة ؛ فهي قد عرفت بشعرائها وأدبائها وفقهائها الذين كان لهم إسهامهم في الحراك الثقافي والأدبي العماني مثلها مثل العديد من المدن والقرى العمانية التي أسهمت في هذا الجانب.
لقد برز من هذه القرية الصغيرة التي لا تبعد عن مسقط العاصمة سوى أقل من خمسين كيلومتراً العديد من الأسماء التي شكّلت مع أقرانها في مختلف أرجاء الوطن لوحة الفسيفساء الرائعة للأدب العماني على مر العصور.
وبالإضافة للجيل الحالي من هذه الأسماء الأدبية ؛ فإن هناك العديد من الأسماء التي ظلمها التاريخ ، ولم تتح لها الظروف غير المواتية قديماً لجمع مأثوراتها العلمية والأدبية وحفظها من الشتات والعبث والنسيان.
ونتيجة لضياع مخطوطاتهم أو اختفائها بعد وفاتهم فإن ما وصلنا عنهم ليس سوى القليل من نتف الأخبار والأشعار ؛ منها ما هو متداول ضمن كراسات شخصية هنا أو هناك ، ومنها ما هو مخطوط في بعض المكتبات الخاصة ، ومنها ما أوردته بعض الدراسات ، ومنها ما يتناقل على ألسن الرواة والحفّاظ.
وكنا نسمع منذ صغرنا عن بعض هؤلاء الأعلام ونحفظ بعضاً من قصائدهم وأخبارهم المتناقلة التي كانت تجري على الألسن في المجالس العامة والخاصة وجلسات الأدب والطرب ؛ لكننا كذلك كنا – في طفولتنا وريعان شبابنا – لا نعي القيمة المادية والمعنوية لتلك المأثورات فأهملنا تسجيلها وتوثيقها من ألسن الآباء والأجداد حتى انقرض الكثير منها بوفاتهم .

من بين هؤلاء أربعة من الشعراء الذين ظلمهم التاريخ بضياع الكثير من مأثوراتهم الشعرية أو اختفائها نتيجة الإهمال ؛ وهم خالد بن هلال الرحبي ، وعبدالله بن أحمد الحسيني ، وسالم بن ناصر الغافري ، وسيف بن نصير الحسيني.

(١) خالد بن هلال الرحبي :
مما ورد عنه في معجم البابطين بأنه قد لقب بشاعر «سرور»، ولد حوالي عام 1325هـ ، ورحل مع والده في سن مبكرة إلى جزيرة زنجبار ، فاستفاد من علمائها وأدبائها في صقل موهبته الشعرية وكان ينشر إنتاجه الشعري في جريدة الفلق التي كانت تصدر هناك ، لكنه بعد وفاة والده رجع إلى وطنه ، وظل يتنقل بين قريته سرور ومدينة نزوى قبلة طلاب العلم في ذلك الوقت ، فأخذ قسطاً وافراً من العلوم الدينية والعربية.
تولى القضاء عام 1367هـ على ولاية دماء والطائيين ثم نقل إلى ولاية بدبد، وحدثت له ضائقة مالية قرر على إثرها العودة إلى زنجبار ، لكن الموت لم يمهله فتوفي عام 1372هـ الموافق 1953م.

يقال إن له ديوانا مخطوطاً جامعا لأشعاره يسمى «السحر الحلال» لكنه مفقود ، وقد وجدت في مكتبة الشيخ موسى بن عيسى البكري عام ١٩٩٨م كراسة تحوي بعضاً من أشعار الرحبي ، كما توجد له مجموعة من القصائد المخطوطة قالها في حروب الإمام محمد بن عبدالله الخليلي تسمى «الإماميات»، يغلب عليها الجانب الاستنهاضي بإلاضافة إلى أشعار في الرثاء والإخوانيات ومجموعة من القصائد المخمسة، وأسئلة نظمية في الفقه وبعض الأراجيز المتناثرة هنا وهناك.
من شعره :
بارقٌ من جانبِ الغرب سرى
فتجلّى حولَ أرضي سَحَرا

جعلَ الرعد زفيري في الدجى
إذ تَراءى والدموعَ المطرا

يا لهُ من بارقٍ لي باخسٍ
أخذ النومَ وأعطى السَّهرا

كلّما لاح لعيني ضوؤه انْـ
ـفصمتْ من عُقَدِ الصبْر العُرا

ليتَ شعري هل سقَتْ غاديةٌ
ربْعَ أحبابي فأضحى خَضِرا

وله قصيدة طويلة يصف فيها بلده سرور ومنها هذه الأبيات :
دع عنك تذكار المعاهــد والدمن
إن لم تجد كــسرورنا وطنـاً حسن

بلـدٌ غدت للعـين أبهج َ مسرحٍ
وغدت تضاهي العقد في جيـد الزمن

فكأنّــها أفـقَ السماءِ وأهلَها
مثلُ النـجوم بنورهـم يجلى الدّجن

زهرت سرور بهم فأضحت بهجة
في الأرض مثل الخال في الظبي الأغن

وسرور في وادي سمائل أصبحت
روحــاً يعيش بهـا و ذا الوادي بدن

(٢) عبدالله بن أحمد الحسيني :
ولد في قرية سرور وتوفي فيها عام ٢٠٠١م
مما كتب عنه في معجم البابطين للشعراء العرب بأنه اعتمد على القراءة والاطلاع ، ودرس النحو على يد سيف بن نصير الحسيني ومحمد بن سليمان الرمضاني، كما درس الفقه والنحو على حمد بن عبيد السليمي وخلفان بن جميل السيابي.

له ثلاثة دواوين مطبوع منها : «غاية الأمنية في القهوة البنية» تحقيق خالد بن سليمان الكندي وآخرون ، و«المثلثة»، وديوان في عدة أغراض شعرية متنوعة.
– له أرجوزة في الفرائض بعنوان: «غاية البحث في علم الإرث» وردت ضمن كتاب «شقائق النعمان»، وله عدة مؤلفات ورسائل مخطوطة منها: «منحة
الملك الوهاب بشرح ملحة الإعراب» – في جزأين، و«الآجرومية في النحو»، و«غاية التسنيم في إرشاد الشيخ إبراهيم»، و«السيف المصلت والنحس».
ومعظم هذه الأعمال لا يعرف عنها أحد ، وهل هي محفوظة في مكتبة الشاعرالخاصة أم أنها فقدت.
من شعره واصفاً القهوة :
أنا مُغرمٌ بقُهيوةٍ بنِّيّةٍ
قد أتقِنت في القلي بالتَّمهيد

فالبنُّ ينفح مع إجادة قليه
كبخور عودٍ أو كدهن العود

إن كان قُلِّب فوق جمرٍ ليّنٍ
بتلطُّفٍ وترفُّقٍ ووءود

هاتِ اسقني يا من أجاد لصنعها
أُوتيتَ حكمة صنعها المنشود

كتب فيه الشاعر سيف الرحبي وقد كان معلمه في زمن الطفولة هذا النص :

في المسجد والحقل
وعلى أطراف الوادي الخصيب
كنا نراك وحيداً
تحرث أرضَ الله
لأجل البَركة والجمال
الجمال الأكثر عصبيّةً ورِقة
لا يضاهيه إلا قمر الطفولة
كما تجلّى في خطّك المُعْجز
وقتالك ضد الأخطاء التي يمتليء بها العالم
كنتُ صغيراً
حين اصطفيتَني لقراءة ما تكتب
وأنت تصغي الى هسهسة فجر ينبلج من ثنايا الكلام
في مسجد الحارة
المتاخم للمقابر المكشوفة العظام
أي وعل يتنزه منتشيا في بهاء الحروف؟
عشتَ غريباً في قومك
زاهداً بما يقولون ويفعلون
كفنّك المنذور للمستقبل
وربما للنسيان.

(٣) سالم بن ناصر الغافري :
ولد الشاعر بسرور وينتسب لعائلة الإمام محمد بن ناصر الغافري التي استوطنت سرور في القرن الثامن عشر الميلادي ، ومن أحفاده الشاعر العماني زاهر الغافري.
اشتهر ابن رمثه بأنه كان في طليعة شعراء المسبعات ، وكان ينظم أيضاً شعر الميدان ومقاصب فن الرزحة ؛ لكن مما يؤسف له أن الكثير من شعره مفقود ، ولم يصلنا منه إلا القليل عن طريق تواتر الرواة ، لذا نجد ما بقي من أشعاره وأخباره بروايات مختلفة.

اشتهر ابن رمثه بأنه كان في طليعة شعراء المسبعات في السلطنة ، وكان ينظم أيضاً شعر الميدان ومقاصب فن الرزحة ؛ لكن مما يؤسف له أن الكثير من شعره مفقود ، ولم يصلنا منه إلا القليل عن طريق تواتر الرواة ، لذا نجد ما بقي من أشعاره وأخباره بروايات مختلفة بعد أن طال الكثير منها يد التحريف والتصحيف ، كما قام البعض بانتحال بعض مأثوراته الشعرية التي عرفت عنه.

محور أشعار ” ود رمثه ” يدور حول الغزل والغرام والوصف والبكاء على الأطلال والنصائح ، وقيل أنه كان كان لا يتورع عن أن يصرف ما لديه من مال دون حساب للاستمتاع بمباهج الحياة وزينتها وجمالها. ومما يروى عنه أن زائرة له من بلاد بعيدة عندما شاهدت نخلة زبد أمام مدخل بيته طلبت أكل جمارتها أي قلبها الذي إذا أزلته تكون قد قضيت عليها ، ويسمى باللهجة العمانية “حجب” ، فأمر بقطع النخلة لاستخراج الجمارة لتأكل منه زائرته.

وزائرة أخرى بعد أن سمعت عنه طلبت منه عقداً (منضداً) من ذهب على شكل قلب ، فأرسل إلى خال له في الرستاق ليصنع لها ما طلبته منه ، وقد قال في ذلك :

عندي فتى يا الخال تبكي بكا الخلخال
وتريد منضد وتذعن باليدين بخال
قلنا لها : اسكتي عندي حموّة خال

وخوالنا يكتمون السر في الأرضِ
وتريد منضد ما منزول في الأرضِ
منضد حكى قلبها في الطول والعرضِ

ويا الله بخولٍ سـقى الرسـتاق دار الخال

ومن مسبعاته الشهيرة :

النهار ما نجلسه والليل ما نغفيه
والماي ما نشربه من كثرة خيال فيه

وايي على من معذب مهجتي وايي
ووايي على من دعا القلب مشوايي
والعشق شروا القفل مـعـيّــــص وملوايي

والعشق مر وحلو لا بارك الله فيه

(٤) سيف بن نصير الحسيني :
عاصر الشاعر خالد بن هلال الرحبي ، وعرف عنه علمه وتبحره في الفقه والأدب ، ومجالسته للعلماء والأدباء ، ودرس على يديه مجموعة من طلاب العلم.
اشتهر الشاعر بصعلكته في الحياة ؛ ففي نظره أن الاهتمام بالجوهر هو مقدم على الاهتمام بالمظهر ؛ ولذلك تراه هائماً لا يهتم بمن حوله وما حوله قدر اهتمامه بالقراءة وطلب العلم.
ومما يروى عنه أنه توجه لمسقط للسلام على السلطان فيصل بن تركي ضمن جملة المهنئين له بالعيد فلما رأى الحاجب الشاعر بملابسه الرثّة البالية نظر إليه بازدراء ، فقال هذه الأبيات :
لا تنظروا شخصي بعين حقارة
من رث أثوابي وهيئة حــــالي
فلربما تحت الثياب أجل من
غالي الثياب وفاخر الأمــوال
وعندما حاول الحاجب منعه من دخول القصر صرخ فيه قائلاً :
بأي أمر عن السلطان تمنعني ؟
بأي شي على اليوم تفتخر ؟
ان كان غرتك أثوابي التي بليت
فتحتها جملة الآداب تنحصر
فبلغ شعره مسامع السلطان فأمر بدخوله ورحب به وأحسن إليه وأكرم وفادته ، وأمر له بملابس جديدة.

ويروى أن الشاعر سيف بن نصير زار الشاعر راشد بن عزيز الخصيبي أحد وزراء السلطان فيصل في مزرعته بالسيب وقت قيظ المانجو (الأمباء) ، ولم يجده ، ووجد ثمار الأمباء متناثر تحت الأشجار ، فكتب هذه الأبيات على ورقة وأعطاها لأبناء الشيخ راشد بدون أن يكتب عليها اسمه :
أأيتها الأمباةُ جودكِ مسرفٌ
نثرتِ الثمارَ الغضَّ و الريحُ راكدُ

فقالت : و ما لي لا أجودُ وأنني
سُقيتُ بسيبٍ فيضهُ متزائدُ

لقد كنتُ فعلُ الجودِ جاهلةََ بهِ
فعلّّمني إيّاه ذو الفضلِ راشدُ
وعندما حضر الشيخ سلّموه الورقة فقال لأبنائه بأن الكاتب هو سيف بن نصير الحسيني طالباً منهم أن يلحقوا به ليحضروه إليه فوجدوه قد قفل راجعاً لقريته.

وارتجل الشاعر الحسيني في فنون الميدان والرزحة ، ومن ذلك مساجلة دارت بينه وخلفان بن سالم الندابي في الرزحة يشيران إلى مشروع زواج لم ينجح :
قال خلفان :
يا بن نصير سحابكْ فرَّقْ به الهبوب
دوّرْ سحابٍ عنَّهْ واقرأ الفاتحهْ

بستان قلبك يزهي ناسعات قلوب
ما تعود لن عادت عليها البارحه

فرد عليه سيف بن نصير :
لا اله الا الله زدتني همّ وكروب
وجرّحت قلبي بنصلةٍ مصفّحه

صرنا نوازن بين الحسنه والذنوب
رينا ميازين المعاصي راجـحـه

ومن قوله في الميدان :
المعرّس بايت يقسّم نومه
يخدم غزل خوك حَ التَّــلِّ

أنا سألك بجودَهْ يا قشّ منومه
تفضّلْ رطبتين حِــتّللي

ومما يروى عنه أنه مرّ بجوار إحدى المنازل وكان يصدر منها صوت امرأة تستجير بالصراخ ؛ فأنشد في الموقف قائلاً :
نركب على الخيل وعلى بوش
ونوصل على صحار وا يينا

الجويريهْ انتيه ما وابوش
وايي أنا اليوم وايينا

وروى المرحوم الشيخ سيف بن محمد الفارسي أنه عندما كان يتعلم في نزوى ( مدرسة الإمام محمد بن عبدالله الخليلي) كان يذهب مع زملائه ليغسلوا ملابسهم من فلج الغنتق بنزوى، وبالقرب منهم مسجد فدخل الشيخ سيف ذلك المسجد فوجد رجلًا كبيرًا في السن عليه ثيابٌ رثة ولحية بيضاء وحالته يرثى لها ومن رآه يحتقره!
فقال الرجل للشيخ سيف: ماذا تقرأ يا ولدي؟
فقال له: لامية الأفعال
وأي بيتٍ وصلت؟
قال له: البيت الفلاني
فقام ذلك الرجل بقراءة أبيات من لامية الأفعال، ثم قام بشرح ذلك البيت للشيخ سيف الفارسي
يقول الشيخ سيف : فتعجبتُ من مكنته في اللغة.
فخرجتُ وأخبرتُ زملائي عمَّا حدث معي.
فقالوا له : ألا تعرف ذلك الرجل؟!
إنه الشيخ سيف بن نصير الحسيني، وقد طلبه الإمام الخليلي ليكون معلمًا للغة العربية ولكنه رفض!

وهكذا فإن تاريخ عمان زاخر بمكنوناته الفريدة في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية ؛ وما على الباحثين والمهتمين إلا البحث عنها والنبش فيها وسبر مدلولاتها ومعانيها لتكوين رؤية موضوعية شاملة غير متحيزة لأحداث التاريخ وشخوصه.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق