يعود الفنان التشكيلي محمد الصائغ إلى الكتابة ليرصد هذه المرة سيرة مدينته صور عبر رواية بعنوان “حياة مدينة” صدرت عن دار لبان للنشر، في تجربة كتابية هي السادسة للصائغ بعد كتابه الأخير “يوميات الماحة” وقبله “الدشداشة الصورية العمانية”.
تأتي الرواية في أكثر من 400 صفحة لتروي جانبا من سيرة هذه المدينة الساحلية وعلاقتها مع البحر، من خلال عائلة عاشت في المدينة، وتكون خاتمة العمل الروائي كأنها مختصر للمسيرة الحافلة، فالمؤلف يقول على لسان بطل الحكاية: “قدر الله لي أن تكون صور أول ذرة هواء تدخل رئتي، وأن تسمع أول صرختي، يشتد إليها الحنين كلما أبعدتنا الظروف، لي فيها من ذكريات الطفولة ما يجعلني أحتفظ بذاكرة ذلك المكان. كنا صغارًا نلهو ونلعب بحجارتك ونلطخ أجسادنا بطينك، ونداوي جراحنا من ماء بحرك”.
ويمضي الصائغ للقول بأن كانت لهم “في هذه المدينة صحبة تقاسمنا معهم حلو الحياة ومرها، وتشاركنا في سعادتها وتعاستها، وتقاسمنا معهم “راس الجرادة” الذي أشبع سبعة كما يقول المثل. وكما يقال “دوام الحال من المحال” فارقنا إخوة وأصحاب في ربيع شبابهم وتركوا لنا رائحة زهورهم، نتذكرهم عندما نمر بحياضهم. صحبة وزمالة، وآباء وأمهات، وإخوان وأخوات، كانوا معنا كالشجر، نستظل بأفيائها، ونتكئ على جذوعها، فتساقطت أوراقها في خريفها وفي فصول الزمان حين يشتد عليها النوء”.
وتبدو الرواية مكتوبة بإحساس المؤلف، تتشكل من مشاعره تجاه مدينته الأثيرة، وهو يصف البحر بأنه يجري في أزقتها، كالدم يجري في شرايين سكانها، حيث تدفقه بين بيوت الحارات يزيدهم همة ونشاطا، ويمضي بحالة الحنين ليروي على السان البطل: “مرّت الأيام ودارت، وتتوالى الأيام، وتجيء الحوادث إثر الحوادث، الأرض باقية والبيوت قائمة، تزيد وتنقص، ويدوّن الناس ويمثلون مواقفهم وأحداثهم في مسارحها أفلامًا، بما يقع فيها من حوادث مفجعة نزلت بالمدينة، من طغيان للبحر وهيجانه، وتحطيمه للسفن وإغراقها، وابتلاعه لربابنتها وبحارتها. ولا تسلم المدينة من فيضان السيول وتدميرها البيوت والمزروعات، فمنهم من أفلت بلطف الله وتقديره، من وباء الجدري، الذي فتك بخلق كثير، وخطف الأبصار وشوه الأجساد، وقد كانت الوقاية الصحية في ذلك الزمان ضربًا من الأحلام، فظل هذا المرض يطوف العالم ويترك بصماته في الأجساد، وفي وجوه رجالها ونسائها وشومًا وعلامات تنبئ بمروره على هذه المدينة، وكثير من نكبات الدهر من فقر وجوع”.
ويسرد المؤلف محمد الصائغ وقائع مرّت علىى ذاكرة المدينة، مشيرا إلى أحداث ملأت “مساحات كبيرة في أذهان شيابها، وتواترت بين رجالها وشبابها، وتناقلتها الأجيال المتعاقبة، وتستخدم هذه الأحداث أحيانًا في تحديد أوقات مواليدها، كما كانت العرب تستخدمه، كعام الفيل مثلًا، وكثيرًا ما تسمع من كبار السن حين يسأل عن مولد فلان أو علان، بأنه يقول:ـ مولود سنة الجدري، أو بعد الغرقة، أو قبل أم الركب! وقد تعذر على كثير من الباحثين معرفة ما مر على هذه المدينة من أحداث، ليس لعدم معرفتهم بالتاريخ، وإنما لقلة اهتمامهم بالتدوين؛ لانشغالهم بالأسفار، وما وصل إلينا من أخبار هذه المدينة كان مرويًّا، وقليلًا مما كان مدونًا في قصاصات من الورق من بعض المهتمين، وما خُبئ بين ثنايا الكتب أو في شقوق الجدران، أو في المراسلات الرسمية، وبين حواشي الكتب”، مضيفا أن المدينة ما زالت “تتقلّب في أعطاف ماضيها، وتبحث عن ذاتها في تاريخها، وتبحث عن فضل ربابنتها وعلمائها، وشجاعة رجالها، بين الكتب والمصنفات المصفوفة في رفوف المجالس والمكتبات، فلم تجد إلا النفل اليسير، إلا بما يتصف بمطروب البحر وأهازيجه، وكأنها لا تتصف إلا بغير ذلك، فغطوا على مآثرها بدثار الغفلة، ونسبوا ما يصنع بها لغيرها”.
ويشير المؤلف على لسان السارد أنه اسم هذه المدينة ظل “محفورًا في جدران ذاكرة شبابها ووجدانهم، فما زالت هذه الذكريات وتلك الصور إلى الآن، تأخذ الحيز الأكبر من مساحة ذاكرة أبنائها، فها هم يرونك الآن كما رأوك في الأمس البعيد في طفولتهم وشبابهم، مع أن بعض الوجوه قد تغيرت، فأنت كما اختزنتك ذاكرتهم، أنت كما عهدوك، فأنت الموطن المحبوب، والمنشأ المألوف، يحن إليك كحنين النجيب إلى عطنه”، فهو كمؤلف، أو بطل للرواية لم يقدر على نسيان الماضي وتبدّل الفصول، يقول: “أتذكر كل شيء والأشياء أيضًا تذكرني. أذكر طفولتي المبكرة وأطفال الحارة، التي استباحها الحر والبرد، ورطوبة الجو وملوحة الأرض، لم أنسَ طفولتي وشبابي، لم أنسَ تلصصنا على كل سواد يمشي، أو صبية تلعب؛ توقظ فينا حيواتنا الماردة، ومهما بلغت من البراعة في استعادة تفاصيلها؛ فإني لا أستطيع الرد على كثير من تفاصيل تلك المدينة على من لم يرها، أو يعرفها”.
ويخاطب مدينته، صور: “انهضي أيتها الجميلة، وانثري من جيد منظومك، ومنثور ماضيك، واستظهريه، وهذبي بيانك وقوّمي لسانك، ودوري بيدك في زوايا تاريخك لعلك تجدين ما نُسب لغيرك! اجمعي ما فاتك، فقد تحتاجينه لتعرضيه للمتأدب على النظر فيه في هذا العصر وقادم الأزمنة والدهور”.