مقالات

كانتون … ذات رسوّ

—————————
حمود بن سالم السيابي
—————————

قبل أربعين عاما كنتُ هنا ، وكانتْ الصين أبعدَ مما هي عليه اليوم بمسافات الذهن وبقياسات المستقر في التاريخ.
حتى أبي أطلقها ضحكة مجلجلة والاستغراب الكبير على وجهه حين أخبرته باعتزامي السفر إلى الصين.
وقد ظل أبي يكرر أسئلة الدهشة في غيابي وهو يستعيد ما قرأ عن أبي عبيدة عبدالله بن القاسم ورحلات ابن بطوطة وطريق الحرير ولبان ظفار المسافر إلى حيث تشرق الشمس.
هاهي جمهورية المليار نسمة إذن التي رأيتها صيف ١٩٨١ تستذكر من غيابات الأزمنة مجيئ أبي عبيدة عبدالله بن القاسم كأول عماني عربي يطأ الأرض التي قال عنها سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه “أطلبوا العلم ولو في الصين” كدلالة على تجشم عناء البعد في طلب العلم ، فأتى أبو عبيدة يتأبط مصحفا وعلى فريخة دشداشته عطر الشرق وفي المنحر قلمه ليرتقي أجمة مرتفعة على ضفاف نهر اللولؤ فيؤذن.
ها أنا في الصين إذن لأسائلها عن الأسلاف الذين أبحروا بسفنهم وتجارتهم ولبانهم والذين لولاهم لما عرفت الصينُ العرب ، ولولا مآذنهم ومصاحفهم التي أتوا بها من عمان لما عرفت الصين الإسلام.
حطَّتُ الطائرة السلطانية وعلى متنها سمو السيد فيصل بن على فيصل على رأس وفد كبير وفريق إعلامي ليذكِّر بلد المليار نسمة بوجوه العمانيين وملابس العمانيين حيث لا أثر في شوارع هذه البلدة البعيدة في الجغرافيا وفي التاريخ وفي السياسة للعمامة العمانية ولم تعرف بعد الغترة والعقال.
إنه الحادي عشر من يوليو عام ١٩٨١ حيث مشيتُ في نهر من “السياكل” باتجاه ميناء كانتون استجابة لنداء الموج ورائحة البحر وصفقة “اليامال” التي “يشلها” بحارة السفينة صحار ومعهم “تيم سيفرن” ذلك الملاح البريطاني المولود في ولاية “أسام” الهندية والذي لم يكن بعيدا عن أهازيج الشرق ولا عن مياهه وإنْ ابتعدت “أسام” عن البحر ، فإن نهر “براهمابوترا” وضعها في نشيج الترحال وعناق السفائن والأرصفة.
وقف سمو السيد فيصل بن علي وزير التراث القومي والثقافة وبجانبه رئيس اللجنة الثقافية في الحزب الشيوعي وكبار رجالات الدولة في كانتون في استقبال هذا الشراع المبحر من مياه عمان ليعيد رسم طريق الحرير وليبعث مجد الموانئ.
وصل الملاح تيم سيفرن وبحارة سفينته ليصافحوا المستقبلين بأكفٍّ مضرجة بالملح وبسحنات لفحتها الشمس عاليهم ثياب من حرير.
توقفتْ “النهمة والشوباني واليامال” بعد أن ارتعش بها المرفأ منذ الصباح وأرجأ التنين رقصاته الفولكورية الصينية فسمو السيد فيصل يلقي في الأسماع صوت عمان.

تحدث سموه عن عمان الإمبراطورية العمانية والمحيطات والأساطيل التي تعيش اليوم بعثا لإرثها الأزرق فقد حرص العهد الزاهر لقابوس العظيم على أن تخلِّد عقدا من نهضتها الحديثة بحوار الموانئ والمدن والبحارة فكانت صحار التي أبحرت في نوفمبر ١٩٨٠ لترسو في ١١ يوليو ١٩٨١م على خط بعث الأمجاد.
وقفتُ على مقربة من سموه أحمل مسجلي وأوراقي وحلمي وفرحتي بالتواجد في المناسبة التي استغرب لها والدي وهو يقيس المسافات بين حارة الوشل بمطرح وهذا الميناء المتلفع بالحرير.
كان في المشهد (سعادة) الشيخ مستهيل بن أحمد المعشني و(سعادة) إبراهيم بن حمود الصبحي أول سفير لعمان في بكين وسعادة سالم بن محمد الغيلاني ولفيف من المسؤولين.
كما كان الإذاعي الكبير الشيخ ذياب بن صخر العامري في مشهد عناق الموانئ وقد جاء إلى المناسبة بشاعريته وثرائه الموسوعي ليشيد محطات رسوٍّ أخرى عبر الخط الأزرق من قاعدة سلطان بن أحمد بمسقط مرورا بملبار فسرنديب فبحر أندامان فملاقا فسنغافورة فسومطرة فهونج كونج فكانتون.
وكنتُ موزعا بين دقلين – دقل صحار وهذا الشامخ العامري – الذي أعزه كثيرا كأستاذ وكقدوة، والذي يضيف جميلا على هذه السطور ببعض كنوزه من الصور ما جعلني أبحرُ مع صحار وبحور شعر ذياب.
تنقَّلْتُ بين وجوه الحفل فاقتربتُ من مواطنة صينية جاءتْ لتهتف وتغني للأشرعة.
سألتها وأنا أرقب دمعة تنساب من العيون الصغيرة ما إذا كانت للدمعة من وشيجة تذكر مع فرح وصول صحار أم هي لرحيل حبيب تبعثر بين غموض بحر القلزم ومتاهات برمودا وبحر الصين العظيم فلم يحسن المترجم نقل السؤال.
سألت أخرى تتراقص وتضحك ما إذا كانت تعرف أبا عبيدة العماني فقالت عبر المترجم أنها قرأتْ عنه قبل يومين فالسفينة صحار توقظُ نوارس بحر الصين.
سألتُ صينية ثالثة عن عمان فقالت أنها قرأت عنها كميناء تاريخي وأنها تتطلعُ لأن تتحاور البحار.
اقتحمتُ فرحة صيني اصطحب ابنه ليرى صحار فحدثني عن افتتانه بسحر الشرق وأن ابنه سيكبر يوما ليقبض على الدفة وسيبحران باتجاه جغرافية ألف ليلة وليلة لاستقصاء خطوط السندباد ومعهما رسائل بالصينية من هارون الرشيد.
فتشتُ عن البحارة العمانيين الذين لم يأخذوا في نظري حقهم في حكاية إبحار صحار كما سردها تيم سيفرن والتي حملت عنوان السندباد رغم أنهم العنوان الأجمل لنجاحات الملاح البريطاني بل لنجاحات المشروع بأكمله منذ أول ضربة فأس فوق جذع شجر بغابات كلكتا وإلى آخر تلويحة للشراع في كانتون فكانت ملامحهم تتكفل بالإجابة.
وحين احتوانا الفندق “فضفضوا عن الامتعاض ، فقد بنوا السفينة وقادوها وتحملوا المشاق ولكنهم تراجعوا في مشهد الفرح الذي استأثر به تيم سيفرن لوحده.
انتهى اليوم الصيني الطويل واحتوانا مقر احتفالات الحزب الشيوعي حيث تنادتْ كانتون لتحتفي بمقدم صحار وبرعاية سمو السيد فيصل لمراسم الوصول فتبودلت الكلمات وصدحتْ الموسيقى الصينية والتقطتْ أعواد الخشب لقيمات الأطباق التي جاهدنا لاستخدامها فانتهتْ المراسم وفشلتْ بين أصابعنا الأعواد دون تحسُّر على اللقيمات فلعل بعض الأعشاب اجْتُزَّتْ من فناء مقر الحزب الشيوعي ، والعديد من الخفافيش عبرتْ المائدة ، والكثير من جرار العسل وأكياس السكر دلقتْ في القدور.
خرج الموكب ليلا باتجاه الفندق وكانتون البحرية سحبتْ “سياكلها” من الدروب والميناء الصاخب تثاءبتْ نواخذته وآوتْ النوارس إلى مهادها لتنام.
ومن شرفة الفندق المخيف بضخامته سرحتُ الطرف في الأجمات البعيدة لعل مآذن أبي عبيدة تومض بين لافتات “النيون” التي تلون ليل المدينة
لعل بقايا الأسلاف يؤذنون فأستقلُّ دراجة صدئة تستريح بجوار المدخل فتقودني إلى المكان.
وأمام لوحة صينية في الغرفة لكهل يوجه لكمة لخصمه في رياضة “الكونغ فو” لكمْتُ الليل وأنا أستعيد صفحة من الريادة العمانية في أرض الصين حيث اكتشفناها منذ مئات السنين ويأتي غيرنا بعد مئات السنين ليتبضعوا من أسواق الصين مرواح “KDK” ويجربوا أكل الرز البارد بالأعشاب في إفطار الصباح.


*الصور الملونة من أرشيف الإذاعي الكبير الشيخ ذياب بن صخر العامري ، وغير الملونة من أرشيفي.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق