العام

لننظر إلى الأمام

بقلم : زاهر بن حارث المحروقي

ستبقى ذكرى فجر يوم السبت 11 يناير 2020، حزينةً في نفوس الشعب العماني، ونفوسِ الشعوب المحبة للسلام، إذ صحا الناس في فجر هذا اليوم بنبأ رحيل المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد. وستبقى هذه الذكرى في الأذهان، مثلما يتذكر جيلنا، يومَ الثالث والعشرين من يوليو 1970، عندما تولى السلطان قابوس مقاليد الحكم في عُمان؛ إذ سمع البعض – وأنا منهم – اسم “قابوس” لأول مرة، إذ سمعتُ الاسم، بعد ذلك اليوم بأيام. وأكاد أتذكر التفاصيل، عندما قال لي صديقُ الطفولة سعيد بن عبد الله المحروقي، ونحن في قرية نائية تسمّى “كياكا” التابعة لمحافظة “بوكوبا” شمال تنزانيا، على بُعد أميال قليلة من حدود أوغندا، “إنّ رئيسًا جديدًا يحكم مسقط الآن.. اسمه قابوس”. وبعد فترة رأيت صورة السلطان قابوس، مرسومة في طابع بريدي، وهو يحمل حمامة بيضاء مع غصن، دلالة على السلام، في رسالة قادمة لأبي من عُمان؛ ولستُ أدري هل كانت من أخيه عمي حمدان، أم من الشيخ سيف بن هلال المحروقي أم من العم حمد بن سالم المحروقي؟، وهم الذين كان يتواصل معهم باستمرار. ومن تلك اللحظة، بدأ الارتباط بجلالته. وعندما عُدنا إلى الوطن في 12/6/1973، عشنا ملحمة الإنجازات التي تحققت في البلاد طوال السنوات الماضية.
وبقدر ما ستبقى ذكرى يوم الرحيل الحزين هذا في النفوس، إلا أنّ الحدث لا يمكن أن يمرّ دون الإعراب عن القلق على مستقبل عُمان؛ فلا يجادل أحدٌ، على أنّ قلق الشعب العماني له ما يبرِّره؛ فالجيلُ الذي وُلد في نهاية الستينيات من القرن الماضي، لم يعرف حاكمًا غيره؛ وهو الجيل الذي شاهد بأم عينيه، عُمان وهي تتحوّل إلى دولة عصرية، رغم التحديات الكبيرة، التي واجهت عُمان في تلك الفترة، من قلة الإمكانيات وكثرة الطلبات، إضافة إلى ما كانت تواجهه من مصاعب ومتاعب في الداخل وفي الجنوب.
وقد استطاع السلطان قابوس، أن يحوّل عُمان من دولة منعزلة تعاني الفقر، وتواجه التمرد على الأوضاع السيئة، إلى دولة مستقرة، على الصعيدين الداخلي والإقليمي، بعد أن أطلق تلك الصيحة الشهيرة “عفا الله عمّا سلف”؛ فعاد العمانيون من بقاع الأرض المختلفة، ليشاركوا في بناء الوطن، وهم الذين تشتتوا في جهات الأرض الأربع. وكان النجاح المهم الذي تحقق، على الصعيد الخارجي، هو إقامة علاقات متوازنة مع الجميع، امتدت من الخليج وإيران، إلى الدول الغربية، وإلى دول العالم الكثيرة، ممّا جعل جلالته مؤهلاً للقيام بالعديد من الوساطات في الكثير من الأزمات السياسية، التي تعرّضت لها المنطقة، دون أيّ ضجيج إعلامي. ويبقى أنّ الأبرز في كلِّ ذلك، هو قدرة جلالته على إبعاد عُمان عن الصراعات الإقليمية؛ حيث حافظت السياسة العمانية المتوازنة على نهجها المعروف، بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، فنتج عن ذلك تقدير الجميع لهذه السياسة؛ فلم تشارك السلطنة في إراقة دماء الأشقاء في أيّ دولة عربية وإسلامية، وحافظت على علاقات جيدة مع الجميع، ولم تدخل طرفًا في أيِّ صراع داخلي مع الأطراف المتصارعة على السلطة في الأوطان التي قام بها ما عُرف بالربيع العربي؛ فكان السلطان قابوس وبالتالي عُمان، دعامة أساسية من دعامات الاستقرار في المنطقة؛ لما حمله من شخصية كاريزمية، فكان ثابتًا وقويًا في مواقفه، واثقًا من نفسه ونهجه، لا يتزحزح قيد شعرة، لدرجة أن يكون عصيًا على الآخرين؛ فتميّزت عُمان باستقلالية مواقفها، وانعكس ذلك على سمعة العمانيين، في أيّ مكان يذهبون إليه؛ فهم لا يخشون انتقام أحد، وهو ما نرجو أن تستمر عُمان عليه.
وإذا كنتُ قد أشرتُ إلى أنّ قلق العمانيين مشروع؛ فالواقع يؤكد ذلك القلق؛ فهناك تحدياتٌ عديدةٌ أمام القيادة الجديدة؛ إذ أننا نعيش الآن في عالم يموج بالفوضى والاضطرابات؛ فالجارُ الأقرب أصبح “جارًا لدودًا”، واليمنُ أصبح بلدًا محتلا، وأصبحت الخطورة تحيط بعُمان من كلِّ جانب، وسط غياب جيل الحكام العقلاء، الذين حرصوا على حلِّ الخلافات في الغرف المغلقة، وظهر جيلٌ متعطشٌ للزعامة، من غير أن يحمل مواصفاتها؛ هذا غير التنافس الدولي على مقدّرات دول الخليج، والتهديدات “الصهيو عربية أمريكية” لإيران، وهو حليفٌ طبيعيّ لعُمان بحكم الجغرافيا والتاريخ.
إنّ ما نحتاج إليه في هذه اللحظة التاريخية، هو تقوية الجبهة الداخلية؛ فعندما تكون الجبهة الداخلية قوية ومتماسكة – في أيّ بلد من البلدان في العالم -، فإن ذلك يشكل ضمانًا أكيدًا ضد أيّ مؤامرات وتدخلات خارجية. ومتانةُ الاقتصاد هي السبب الأساسي لتقوية الجبهة الداخلية؛ فإذا كان الاقتصاد سليمًا، فإنّ بقية الجسد سيكون سليمًا؛ فما أحوجنا إلى تقوية الاقتصاد العماني؛ لأنّ عبارة “تنويع مصادر الاقتصاد”، التي تردّدت عبر وسائل الإعلام العمانية سنوات طويلة، لم تتحقق؛ إذ ظلَّ الاعتماد فقط على النفط كمصدر أساسي للدخل. ورغم كلِّ الخيرات التي حباها الله لعُمان؛ إلا أنّ المسؤولين عن الاقتصاد، بدلا من أن يستفيدوا من تلك الخيرات، ومن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لعُمان، اتجهوا إلى تدمير ما تحقق من الإنجازات، بأن عرضوا أصول الدولة للبيع لشركاتٍ أجنبية، وكأنّ لسان حالهم يقول:”نتخلّص من فشلنا، فنرحِّل المشاكل للجيل القادم”. وسوف يأتي يومٌ يتملّص فيه الكلّ من صفقات البيع تلك، حتى يبدوْا وكأنّهم بريئون من تهمة رهن الوطن بمكتسباته للأجانب، لأنهم لم يكونوا يملكون الحلول. وقد قيل، – وما قيل حق – :”ليس المهم الموقع الاستراتيجي؛ بل المهم هو العقل الاستراتيجي”، وهو الذي نحتاجه الآن؛ فوعيُ الإنسان العماني ارتقى ووصل إلى المستوى الذي يؤهله بأن يعلم ما ينفع الوطن وما يضره، وقد رأينا ذلك بكلِّ وضوح، في قضية بيع النفط والكهرباء، وما رافق ذلك من رفضٍ وتفاعلٍ كبيرَيْن في مواقع التواصل العديدة، إلا أنّ بعض المسؤولين أصروا على آرائهم، وكأنهم يريدون استفزاز المواطنين في لحظة تاريخية صعبة. لذا يُفترض أن يكون المواطن العماني شريكًا حقيقيّا وفاعلا في اتخاذ قرارات تهم مستقبل الوطن، عبر المجالس المتخصصة، كمجلس الشورى ومجلس الدولة، وعن طريق وسائل الإعلام الرسمية والبديلة؛ وهي الوسائل التي وفّرت للجهات المختصة، ميزة قراءة توجهات الرأي العام.
فإذا كنا نريد أن تعيش عُمان في استقرار وبعيدًا عن المشاكل والاضطرابات، فإننا بحاجة إلى خطوات جادة وملموسة للعمل على تقوية الاقتصاد العماني، من خلال العمل الجاد، والبحث عن مصادر دخل جديدة وقوية ودائمة؛ بدلاً من الاعتماد على ندوات إثر ندوات، ودراسات إثر دراسات، دون أن ترى نتائجُ تلك الدراسات النور. ولعل المطلوب الآن هو تغيير الطاقم المسؤول عن الاقتصاد؛ فهم السبب فيما وصلنا إليه من فشل وإحباط؛ ولا يُعقل أن تستورد عُمان كلَّ شيء من الطائرات إلى الإبرة، وإلى السلع الاستهلاكية، لتغطية الطلبات المحلية، مع العلم أنّ كلَّ ما تستورده عُمان، ليس بتلك الجودة حسب المواصفات والمقاييس المطلوبة؛ بما يعني أنّ الوقت قد حان لإعطاء الفرصة لجيل الشباب – بعد تأهيله التأهيل الجيد -، أن يدير زمام الأمور، بما بتماشى مع عقليات ومتطلبات عصرهم.
وهناك ملفاتٌ كثيرةٌ تنتظر العهد الجديد، وعلى رأسها داخليًا، قضية إيجاد العمل للمواطنين، وإحلالهم مكان العمالة الوافدة؛ بعد أن أصبحت هذه العمالة تشكِّل لوبيًا كبيرًا ضد المواطنين؛ فكيف يتم تسريح المواطنين من أعمالهم، في وقت يشكِّل فيه الأجانب نصف عدد السكان، وهم المسيطرون (الأجانب) على القطاع الخاص سيطرة تامة؟! وبالتأكيد فإنّ هؤلاء المسؤولين عن الاقتصاد، ليسوا متآمرين، لكن المؤكد أنهم فشلوا في قراءة الواقع وتقديم الحلول. وفي الحالتين، فإنّ ذلك يُعتبر مصيبة، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار، أنّ مطالب الشعب العماني بسيطة جدا، إلا أنّ التراكمات الطويلة، جعلت هذه المطالب تكبر، لدرجة أن تشكل تهديدًا مستقبليًا على الاستقرار الداخلي، مع تربّص البعض، الذين شنوا حملة شعواء عبر الميليشيات الإلكترونية، مستغلين تلك النقاط؛ ولن تقف تلك الحملة بل ستزداد شراسة.
لا يخفى على أحد، أنّ ظروف المنطقة قد تغيّرت، وأصبحت الدول الشقيقة في منظومة مجلس التعاون، تنظر إلى المواقف السياسية العمانية المستقلة بنظرةٍ أقربَ إلى صيحة الرئيس بوش الابن، عندما قال “من ليس معنا، فهو ضدنا”، ممّا يعني – ضمن ما يعني – أنّ علينا أن نلغي أنفسنا ونذوب مع الآخرين، إنْ حاربوا حاربنا، وإنْ رضوا رضينا، وأن نتلقَّى التعليمات من خارج مسقط، تقول لنا علينا أن نصادق من ونعادي من؟!.
وإذا كنا نتأسف على رحيل رجلٍ عظيمٍ سجّل اسمه بحروف من النور في صفحات الخالدين في التاريخ، فإني من المؤمنين بأنْ نركز على المستقبل، والنظر إلى الأمام، وتقييم تجربة ال50 سنة الماضية، مع التركيز على الإيجابيات – وهي كثيرة – لنستمر فيها، وندرس السلبيات – وهي موجودة – لكي نتلافاها مستقبلا، كما حدث ويحدث لأيّ تجربة إنسانية عبر التاريخ. فلا يمكن لمثلي أن يوفي الرّجلَ حقّه، ولا الإنجازات التي تحققت في عهده، عبر مقال تأبيني عاجل وبسيط.
وبقي أن أقول إنّ أمام القيادة الجديدة ملفات كبيرة داخلية وخارجية، وإن كانت الملفات الداخلية هي الشائكة أكثر، وتنتظر البت العاجل فيها. وكما هي العادة دائمًا عندما يبدأ حكمٌ جديد، فإنّ الناس تنتظر الجديد، وتنتظر التغيير. أما على الصعيد الخارجي، فمن المهم أن تبقى عُمان محافظة على استقلالية قرارها، – مثلما حافظت على تلك الاستقلالية عبر تاريخها -، دون الانجرار إلى مغامرات وتحالفات الأشقاء غير المدروسة. والمسؤوليةُ كبيرة جدًا للحفاظ على الإنجازات التي تحققت في عُمان، وعلى الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية؛ وهي مسؤوليةٌ يتحملها الجميع من المسؤولين والمواطنين، حتى تحافظ عُمان على مكانتها، وأن تواصل دورها بكلَّ ثقلها وتأثيرها السياسي.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق