العام

بدر الخروصي.. على محك الموت يخرج بالدروس والعبر

قصة هذا العدد نأتي بها من واقع الحقيقة، منتصرون من الحياة، عنوان لسلسلة القصص الملهمة، وهو عنوان ملائم لحكايتي لكم هذه المرة، ففي هذه الحكاية يشترك عدد ليس بقليل ليكونوا جميعا منتصرين من الحياة، رغم أن المحور واحد، والحكاية بطلها واحد، كيف ذلك، اقرأوا معنا:

كتب : عامر بن عبدالله الأنصاري

لـ حوالي 16 عاماً، يستعد بدر الخروصي لتجهيز نفسه، الوصول إلى مسقط لا يستغرق إلا مسافة الطريق بين ولاية العوابي بمحافظة جنوب الباطنة وبين مقصده في مسقط، الوقت متأخر، عليه الاستعجال ليصل في الوقت المناسب، اتصال هاتفي في هذه الاثناء:
«مرحبا بدر، سمعت أنك تقصد مسقط للذهاب، أرجوك أريدك أن تصحبني معك إلى ولاية الرستاق، ثم أكمل طريقك».
 حاول بدر الاعتذار مرارا، ليس لأنه غير متعاون، بل لأن الوقت لا يسعه، وأن الطريق إلى الرستاق في مسار مختلف، إلا أن بدرا يلبي طلب صديقه، متوليا زمام القيادة، يصل الرستاق، ثم يكمل طريقه إلى مسقط. الأحياء ضيقة، والمسار جديد عليه، والسرعة جنونية، وبين هذا المسار وذاك، وتلك الانحناءة الحادة التي يتجاوزها بسلام لا تكسر الجرة، ولكن ليس في كل مرة تسلم الجرة، خرسانة بين مفترق طرق بانتظاره، وسيارته الـ «بيجو» صغيرة الحجم لا تصمد أمام أبسط الحوادث. وفي بغتة، وسرعة تجاوزت الـ 120 كيلومترا بالساعة، يحصل اللقاء الفاصل بين الخرسانة الصلبة، وبين سيارة بدر الخروصي، هنا تتوقف حياة بدر، وينفصل عن الواقع، يجتمع الناس حوله، لا ملامح واضحة لنوع السيارة، وبنظرة إنسانية غير متخصصة في مجال الطب، حُكِم عليه بالموت، فقط بانتظار الشرطة وسيارة الإسعاف، لتلملم إنسانا بين كومة حديد، إنسانا لا يعرف له ملمح، وسيارة كذلك. 
حادث مروع بكل المقاييس يستدعي وصول الشرطة والإسعاف في وقت قياسي، تهرع عائلة بدر للمشفى بعد دوي الخبر المفجع، لينهار الكل عند رؤيتهم أحد مسعفي بدر وقد خرج من غرفة الطوارئ وجسمه وملابسه تقطر من دماء بدر، إذاً بدر مات!! يُنقل بدر إلى أقرب مركز صحي، لا نبض في قلبه، ولا تنفس في رئته، محاولة إنعاش بالأجهزة والتدخل الطبي، وفي محاولات كثيرة يستجيب قلبه للنبض مرة أخرى، الأطباء في حالة استنفار «جهزوا سيارة الإسعاف يجب أن يُنقل إلى مستشفى خولة في مسقط»، وفي الطريق، تطرق الدكتورة المرافقة، الزجاج الفاصل بين كابينة الإسعاف والسائق، تطلب من السائق أن يرجع أدراجه، لأن القلب قد توقف عن النبض ثانية، ومحاولات الإنعاش فاشلة.
 لا أحد يعرف إلى اليوم مسوغات رفض سائق الإسعاف أن يعود إلى الرستاق، ولا أحد يهتم بتلك المسوغات الثانوية، إلا أنه رفض معلناً أقسامه المغلظة بأنه لن يرجع، وسيواصل طريقه إلى مسقط، تلك الفرصة ربما كانت بارقة أمل للطاقم الطبي، فمحاولات الإنعاش في مستشفى خولة كُللت بالنجاح، ولكن؟ 
 بدر طريح فراش العناية المركزة، الأسلاك تتصل بجسده الممزق والمرقع، أنابيب أوكسيجين، أسلاك قياس نبضات القلب، أخرى للحرارة، وغيرها لقياس الضغط والمغذي وأسلاك أخرى، كل المؤشرات والأسلاك تعمل بالشكل المطلوب. الكشوفات وضحت أن عودة بدر للحياة مستحيلة، ولا مستحيل عند الله الذي يلهم المنتصرين بنصره. وضع الأطباء أهل بدر أمام خيارين كلاهما مر، إما أن يعيش بدر في غيبوبة مطلقة، وإما أن يعيش بشلل رباعي، أي إنسان واعٍ بلا حراك مطلقا، والكثير من الحالات المماثلة تنتهي بالوفاة.


 الأيام العصيبة تمر سراعا بطيئة ومثقلة على عائلة بدر وكل محبيه، وغرفة العناية المركزة تفصلهم عنه بزجاج، وذات يوم، بينما أحد افراد عائلته في المستشفى يرقبه بحزن وحسرة، إذ به يشاهد مشهدا صادما، أو ربما مفرحا، تلك الاثناء تختلط المشاعر والتفسيرات، فبدر قد رفع ذراعه وهو غائب عن الوعي، وبقبضة غريبة الحركة ينتزع الأسلاك المتصلة بجسده، بدأت حركة الأطباء سريعة في غرفة بدر، ومراجعة المؤشرات، وإعادة الأسلاك إلى وضعها الطبيعي، الطبيب المختص: «حركة بدر مؤشر خير، الاحتمال الثاني أن يعيش بشلل رباعي هو الغالب». 
 أفاق بدر، المكان غريب بالنسبة له، الأسلاك حوله وعليه، لا يذكر شيئا مما حدث، يحاول تحريك ذراعه دون جدوى، وتحريك رجله دون جدوى، لا شيء يستجيب سوى حركة عينيه، يجتمع حوله الأهل، أحد يعرفه وأحد يعتقد أنه يراه لأول مرة، كان يعرف إخوته جيدا، ولا يعرف لماذا هم هنا وهو هنا، أخبروه بموضوع الحادث، وأن إفاقتك معجزة، لم يخبروه إلى تلك اللحظة بموضوع الشلل الرباعي، فيأتيه الطبيب المختص: «يا بدر لن تعود إلى الحركة أبدا».
يبكي بدر، يحاول استيعاب ما يُقال له، يتمنى أن يكون في حلم حتى يستفيق منه، لا أحد يشعر بما في داخله، بدأت المشاعر في داخله تتخبط، لا يعرف ما يريد، فمرة يبكي دون بوح، يكاد يصل إلى الجنون، يبكي ويصرخ لأي سبب، يتذكر تلك التفاصيل، وبعضها يسيل منها دموع الضحك، فذات مرة صرخ بأعلى صوته: «أبي دجاج.. أبي دجاج.. جيبولي دجاج»، لا يعرف لماذا كان يطلب هذا الأمر الذي جعل الناس في المستشفى تطل برأسها عليه وعلى ما يحدث، ما هذا الازعاج والمشكلة حول «دجاج». 
 سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة يواسي بدر في زيارته الجميلة له ويذكره أن الصبر على البلاء هو معدن المؤمن، وتمضي الأيام دون استسلام، لا يريد أهل بدر أن يستسلموا لواقع ولدهم، بل كلهم أمل أن ينتصروا جميعا على هذا الواقع المؤلم، خيارات البحث عن مستشفيات في العالم مستمرة، بين أمريكا، والهند، وأوروبا. وقع الاختيار على الهند، سمعوا أن هناك مستشفى متخصصا كبيرا، وذاع صيت هذا المستشفى بعلاج المستعصيات من الأمراض.
 وصل بدر إلى الهند محمولا فوق سرير طبي في الطيران العماني، وإلى المستشفى، وإلى السرير، يقف على رأسه طبيبان، أحدهما متخصص في علاج الأعصاب، والآخر في العظام. 
يقول طبيب الأعصاب أن المعلومات الواردة من مستشفيات بلادكم حول الشلل الرباعي صحيحة، إذا ما كان تشخيص السبب صحيحاً.
 ماذا يعني ذلك؟ هل هناك علاج؟ الأكف ترتفع تضرعا لله بأن يكون العلاج موجوداً. 
واستطرد الدكتور أن التقرير الوارد من مستشفيات السلطنة، يشير إلى أن هناك انقطاعا تاماً في الحبل الشوكي، والحبل الشوكي عبارة عن شعيرات متصلة ببعضها، ولكن الفحوصات بالمستشفى الهندي وجدت أن هناك عددا من شعيرات الحبل الشوكي ما زالت متصلة، ومن خلال عملية جراحية سيحاولون إعادة الحبل الشوكي كما كان.
 بهذا الكلام تنفرج غمامة من الهم أمام بدر، وأهله، وذويه الموجودين في السلطنة، الاتصالات الهاتفية بين تطمينات وتبشيرات بين خوف ورجاء سابقة لأوانها، ولكن الخبر مطمئن، يقول الدكتور «لولا هذه الشعيرات المتصلة لما أفاق بدر من غيبوبته، أعلم ان الله هو من أنقذ بدر وترك له هذا البصيص لنعالج إنسانا يعود للحياة».
 أجريت عمليتان في وقت قياسي إحداهما للحبل الشوكي والأخرى لعظام القدم، استمرتا ساعات طويلة، ترقب الأهل يزيد من نبضات قلوبهم، بين أمل بنجاح العملية وقلق من فشلها، يخرج الدكتور مبشرا بأن العمليتين نجحتا، وأن الوقت الفاصل لعودته يمشي أسبوعان.
 يخرج بدر من العملية، ويفيق من سباته، وكان في عطش شديد ليبلغ الممرضة باعطائه علبة عصير قريبا من غرفته وليشربها عاجلا ليكتشف شقيقه صالح المرافق له أن بدرا شرب عصيرا قد انتهت صلاحيته من مدة وليعاتبه ضاحكا «جئنا نعالجك من الأشياء العظيمة وسنعالجك اليوم من شرب عصير منتهي الصلاحية» ولكن من مسه الضرر لايتضرر من انتهاء صلاحية عصير.
 يخبرونه بأن الأمل موجود، وأنك ستعود للمشي قريبا، يومان وبعدهما بدأ العلاج الطبيعي. قَلِق بدر، الثقة في نفسه معدومة، يقف بصعوبة تامة، ومحاولة المشي بعد طول مدة من الأشهر والسنين مكبل في سرير أبيض بمثابة نوم أهل الكهف كأنها خطوات طفل لأول مرة، عيناه منصبتان في الأرض، لا يرى إلا رجليه فيحاول أن يرفعهما، يدخل عليه الطبيب دَخْلَةَ أبطال بوليوود، وبصوت مزلزل يقول «بدر.. ارفع رأسك، شاهدني وشاهد معي أهلك الموجودين في عمان، شاهد أهلك الذين دفعوا لأجلك الكثير حتى تعود سالما، حاول أن تهدي أهلك هدية بأن تعود كما كنت، أنت تقدر، أنت تستطيع، كل الأسباب متوفرة، كل العمليات ناجحة، الباقي هو عليك». 
 أثرت هذه الكلمات وكأنها تُلقى مع موسيقى حماس الأفلام الهندية، بدأ جديا بمحاولة المشي ورأسه مرفوعا، وبعد أيام من العلاج الطبيعي يعود إلى غرفته فلا يجد السرير موجودا، إنما كرسي فقط، «هذا مكانك، أنت لست محتاجا إلى السرير بعد اليوم، السرير للنوم فقط».
عاد بدر إلى عمان، ومطار مسقط حينها كأنه محجوز بالكامل لأسرة بدر، وعائلته، وأصدقائه وأحبابه. استقبال حافل كأنه استقبال بطل قومي، هو المنتصر على الصعاب، هو المنتصر من الحياة، وهم جميعا منتصرون معه
 حكاية بدر، الذي يعيش اليوم بين عائلته، ويعمل موظفا في وزارة التراث والثقافة، حكاية مليئة بالدروس، لم يعد بدر اليوم مستعجلا من أي شيء، كل المشاوير والدروب الوصول إليها ممكن ولو بعد حين، لا يحتاج بدر أن يعلم الناس أن في العجلة الندامة، فقد مر بدرس عصيب خرج منه بنجاح، وتمر الأيام والأحاديث حتى يكون ذلك الدرس محور حديث، تعلم بدر أن الأمل موجود في كل شيء، وأن البكاء لا يفيد، وأن العمل واليقين من أسباب النجاح الرئيسة، تعلم بدر الوقوف مع أهله وأصدقائه والمعنى الحقيقي للتكافل الاجتماعي، انتصاره على ما مر به ليس انتصارا له وحده، بل انتصار لجميع من وقف معه، تعلم الحذر من الطريقه، تعلم أن الخطأ ليس كما يقال دائما «الخطأ يعلم» بل إن بعض الأخطاء يقتل مباشرة ولا يتيح فرصة أخرى، تعلم أن الحب جميل والحياة مدرسة، ولا زال بدر يتعلم ويُعلم من واقع تجربته المرة، ويحكي حكايته لكل من أحبه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق