العام

الألم جرس التنبية الفطري للأمراض

بداية لنسأل أنفسنا هل الألم نعمة أم نقمة؟ هل هو خير أم شر؟ هل هو ضر أم سرور؟ الذي يكون تفكيره سطحيا ولا ينظر إلى الأمور بعمق يبدو له للوهلة الأولى أن الألم نقمة وشر وضر، لكن الإجابة نجدها في القرآن الكريم، قال تعالى (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (سورة البقرة الآية 216)، ويقول رسول الله ﷺ (عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَه) رواه مسلم. لذلك هو خير إن شاء الله ونعمة.

د. صالح بن سيف الهنائي
طبيب استشاري أول طب الأسرة

وقد ورد في القرآن الكريم الألم وما يصاحبه من حالات وظواهر في عدة مواضع، منها قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) (سورة النساء 56). كان في السابق يعتقد أن مجسات الألم وأطراف الأعصاب التي تتحسس الألم موجودة داخل أعضاء وأجهزة الجسم، لكن العلم الحديث أثبت أن تلك المجسات وأطراف الأعصاب لا تتعدى الطبقة السطحية (الطبقة الأولى) من الجلد، بحيث يتألم الإنسان كثيرا إذا أصابه حرق في تلك الطبقة ولا يتألم من الطبقات الداخلية الأعمق، فهذه الآية تشير إلى هذه الحقيقة.
كما جاءت الآية في سورة محمد بحقيقة أخرى عن الألم، قال تعالى (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) (سورة محمد الآية 15)، حيث وجد أن جدار الأمعاء الداخلي لا يحوي على أطراف أعصاب الألم، وإنما موجودة في الغشاء الخارجي المبطن للأمعاء، لذلك لا يشعر الإنسان بألم إذا ابتلع شيئا وإن كان حادا كالأبرة، وإنما يبدأ بشعور بالألم عند اختراقه لجدار الأمعاء، وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة بعذاب الكفار بتقطيع أمعائهم بالماء الحميم.
كيف يكون الألم خيرا ونفعا للإنسان؟ وجد أن الإنسان عند شعوره بالألم، يبدأ الدماغ بإفراز مواد مخدرة كالإندورفين والإنكفالين، بعضها أقوى بعشر المرات من المورفين، وذلك عن طريق تعريض بعض الناس لتيار كهربائي بسيط وبعدها قاسوا مستوى الألم عندهم، ثم أعطوهم بعد فترة مادة مضادة للمواد المخدرة، ثم عرضوهم على نفس التيار الكهربائي السابق، فما كان منهم إلا أن شعروا بألم أشد رغم أن قوة التيار الكهربائي كانت نفسها.
وقد فسر ذلك بأن الجسم فرز مواد مخدرة عندما شعر بالألم بداية، فكان ألمه خفيفا، ثم بعد إعطائه مضاد المواد المخدرة، بطل مفعول المادة المخدرة التي يفرزها الجسم، فبدأ يشعر بالألم الشديد، فسبحان الخالق عز وجل على بديع الخلق وإتقان الصنع.
وإحساس الإنسان بالألم هو نعمة، حيث يعني أن هناك شيئا في تركيب وعمليات جسمه بدأ يتغير، فينتبه له، ويسارع لاكتشافه باستشارة الطبيب المختص، الذي يضطر أحيانا لإجراء بعض الفحوصات الطبية ثم وصف العلاج المناسب في بداية المرض قبل أن يستفحل وتظهر المضاعفات.
وعندما يصاب الإنسان بألم بسبب جرح أو صدمة أو مسببات الألم الأخرى، فإن العضو والجزء المصاب يفرز مواد كهروكيميائية، تمر في الحبل الشوكي وتصل إلى الدماغ عبر بوابات الألم، التي ربما تغلق وربما تفتح، وفي حالة سماح هذه البوابات لتلك المواد بالعبور، فإنها تذهب إلى منطقة في الدماغ تسمى بالمهد، فيدفعها المهد بعد ذلك إلى قشرة الدماغ حيث يتم تخزين مختلف أنواع الآلام التي أصيب بها الإنسان سابقا، فيتعرف الإنسان على الألم إن كان أصيب به سابقا، بحيث يخاف الإنسان من المسبب للألم مباشرة، وهذا يفسر خوف البعض من الحبل بعد لدغة الثعبان بفترة، حيث الثعبان والحبل متشابهان في الشكل لذلك يخاف الإنسان مباشرة برؤية الحبل بسبب الذكرى السابقة المخزنة في قشرة الدماغ للدغة الثعبان، ثم بعد ذلك يرسل المهد تلك المواد أيضا إلى منطقة المشاعر والعواطف، التي قد تؤجج حدة الألم أو تخفف منها، فتجد بعض الناس لديهم مسبب لألم شديد، لكنه لا يحس به كثيرا، بسبب تأثير هذه المنطقة على ألمه، وهذه نعمة عظيمة يهبها الله لمن يشاء من عباده، وهذا ما نلاحظة أحيانا في العيادات، حيث يكون سبب الألم نفسه نوعا ومقدارا، لكن تختلف قدرة تحمل المرضى المصابين به واستجابتهم اختلافا كبيرا، بسبب قشرة الدماغ ومنطقة المشاعر والعواطف.
ووجد العلماء شيئا عجيبا آخر فيما يخص الألم، حيث وجدوا أن قدرة تحمل الإنسان ذي المشاعر والعواطف العالية بسبب حدث مفرح له أكثر بكثير من آخر ذي مشاعر محبطة كأن كان يتشاجر مع زميله، وهذا ما حدث لجرحى الحرب العالمية الثانية الذين كانوا يئنون من الألم، فعندما بدأوا يرون المسعفين ويسمعون أصوات سيارات الإسعاف، بدأ ألمهم في الانخفاض في حدته إلى درجة الاختفاء عند بعضهم، وهذا بسبب أن الدماغ بدأ يفرز مادتي الإندورفين والإنكفالين أكثر عندما يصبح الإنسان سعيدا، وبالتالي لا يشعر بالألم كثيرا، فسبحان الخالق المدبر.
وقد نشرت المجلة الطبية البريطانية عام 1995م حالة عامل بناء أصيب بمسمار في حذاء قدمه، وجاء إلى المستشفى يصرخ من الألم، وعندما نزع الحذاء من قدمه وجد أن المسمار دخل بين أصبعين من أصابع قدمه ولم يمس أي جزء من القدم، وعندما رأى ذلك بعينيه، زال عنه الألم.
وقد وجد العلماء أن هناك عوامل تساعد على التحكم بالألم، منها التفكير الإيجابي الذي يقلل الألم بمعدل 30%، بحيث ينظر المرء إلى الأمور بمنظور إيجابي وإن بدت سيئة له في الوهلة الأولى، وأيضا التأمل والتعبد لهما دور في التخفيف من الألم بمعدل 40% بحيث يذهب الإنسان إلى عالم آخر غير الذي هو فيه، وهذا ما يحدث في صلاة الخاشعين، أخيرًا في عيادات التأمل في بعض المصحات في العالم.
وأخيرا هناك ما يسمى بعلاج الغفل أو العلاج الوهمي، وهو أن يعطى المريض مادة تشبه الدواء لكنها ليست دواء وليست بها أي نسبة من الدواء، فيستجيب المريض لها ويخف ألمه، ويمكن تفسير ذلك كما سبق بأن يفرز الجسم مواد تخفف من الألم، وقد يُلجأ أحيانا إلى هذا الخيار عندما يعتقد الطبيب أن أعراض المريض ليس سببها عضويًّا وإنما نفسي أو وهم، وقد تم علاج كثير من مثل هذه الحالات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق