السياحي

مكناس المغربية.. مدينة السلاطين

تعددت الآراء حول معنى اسم مدينة مكناس.فقد أشار بعض المؤرخين إلى أن أصل الاسم،يعود إلى كلمة الكناس التي تعني في العربية الفصحى المجال الطبيعي الخصب الذي ترعى فيه الغزلان.وقد استبدل فيه حرف التعريف”أل” بحرف”الميم”.لأن بعض القبائل العربية التي وفدت على المنطقة،ومن اليمن تحديدا كانت تنطق هكذا في التعريف حرف الميم بدل”أل”التعريف.وقد لا تستبعد أن تكون هذه الفرضية صائبة. وهناك فرضيات أخرى تقول إن المدينة قبل الميلاد كانت موطنا لقبيلة زناتة الأمازيغية. وكان أحد فروع هذه القبيلة يلقبون ب”أمكناسن”.من هنا جاءت تسمية المدينة مكناس نسبة إلى هذه القبيلة. كما نجد فرضية  ثالثة تذهب إلى أن اسم مكناس،يعود إلى قبيلة مكناسة الأمازيغية.

د. سعيد بوعيطة / المغرب

مع ملاحظة وجود بعض المناطق في المغرب الأقصى ودول المغرب العربي الكبير في الجزائر وتونس وليبيا، تسمى مكناس أو مكناسة. مما يرجح فرضية جذور هذا الاسم الأمازيغي خلافا للفرضتين الأولى والثانية.
إستراتيجية مدينة:
تقع مدينة مكناس المغربية في قلب شمال المغرب. وموقعها الاستراتيجي هذا، جعلها في ملتقي أهم الطرق الرئيسية الوطنية. ومحورا مهما على مستوى الحركة الاقتصادية والسياحية. فهي لا تبعد عن مدينة زرهون التي يوجد فيها ضريح مؤسس الدولة المغربية الإسلامية بالمغرب إدريس الأكبر سوى 30 كلم. وعن العاصمة الرباط 140 كلم شرقا، وعن مدينة فاس جارتها العاصمة الروحية والعلمية سوى 60 كلم جنوبا. وعن مدينة طنجة في شمال المدينة السياحية العالمية بوابة المغرب على أوربا سوى 350كلم. ملتقى الثقافات: شكل الموقع الجغرافي ومكوناته الطبيعية المشجعة والمحفزة على الحياة والعيش والتعايش بين البشر، المحدد الرئيسي لتنامي الكثافة السكانية والهجرة واختلاط الأعراق والإثنيات. وبالتالي تشكيل فسيفساء المجتمعات بشكل عام. كما أن التعايش والتسامح والسلم الاجتماعي الذي ينعم به المغرب، قد أسهم كثيرا في تذويب الفوارق الإثنية والعرقية في المجتمع المكناسي خاصة والمغربي عامة. مما أهل جميع أطياف سكانه إلى التمازج والاختلاط. حيث نجد في العائلة الواحدة أصولا عربية وكذا أمازيغية أو صحراوية وأندلسية. وحتى ذات أصول من الشرق العربي. ولا غرابة في ذلك حين نجد ألقابا كثيرة تحيل على أصول شرقية مثل البغدادي واليمني، والتونسي، والغزاوي، والمكاوي، والهاشمي، والمديني. فموقع مدينة مكناس قد شجع مئات الآلاف من سكان المغرب على الهجرة إليها خصوصا بعد الاحتلال الفرنسي منذ عام 1912. بحثا عن حياة عصرية أفضل. مما جعل تركيبتها السكانية عبارة عن تشكيلة من الأمازيغ والعرب والصحراويين والأندلسيين واليهود. كما تعتبر اللغة الدارجة الممهورة ببعض الكلمات الأمازيغية وقليل من الكلمات اللاتينية المدرجة هي اللغة المتداولة في المجتمع المكناسي وفي الفضاءات الإدارية والاجتماعية. أما اللغة الأمازيغية الأم التي أقرها دستور 2011 كلغة رسمية، فيتم تداولها بين السكان الأمازيغ في بعض المدن والقرى المجاورة لمكناس. كمدن أزرو والحاجب، وإفران. هذه الأخيرة التي تعتبر من أجمل المنتجعات الجبلية. ليس على صعيد المغرب فقط، بل على صعيد القارة الإفريقية. حيت يتم تصنيفها كثاني أنظف مدينة في العالم. تعتبر مدينة مكناس من بين أهم مراكز الإشعاع الثقافي في المغرب قديما، مقارنة باليوم. حيث تواجدها بين مدينتي فاس والرباط اللتين تستأثران باهتمام السلطات المركزية أكثر منها منذ عهد الاستقلال. فقد أنجبت مدينة مكناس العديد من العلماء. ما استقر فيها كثير منهم على عهد حكم المولى إسماعيل العلوي. ولعل المآثر والفضاءات التاريخية لخير دليل على ذلك. أهمها خزانة الجامع الأعظم. كما أنجبت أيضا العديد من أعلام الفكر والأدب والعلم والسياسة. وعلى رأسهم أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب المكناسي المتوفي سنة 1799م. كان رحالة ومؤرخًا ووزيرًا وسفيرًا مغربيًا. ومن أشهر رجالات المدينة كذلك، العلامة مولاي عبد الرحمان بن زيدان الذي يعد من بين الأعلام الذين خلدوا مجد الدولة العلوية بمؤلفاته وأشعاره التي ظل منكبا على إنجازها حتى مماته. فقد بلغت مؤلفاته زهاء سبعة وعشرين. ما بين مطبوع ومخطوط. وجلها في تاريخ الدولة العلوية. منها »إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس». ومن بين الشخصيات المشهورة في قصيد الزجل، في مكناس والمغرب الأقصى، بل والمغرب الكبير، الصوفي سيدي عبد الرحمن المجذوب. فقد عرف بتصوفه وأشعاره الزجلية التي أرخت لتجربته الاجتماعية. كما وثقت بالتالي حكم قصائده البليغة التي بات كثير من أبياتها يرددها عامة الناس. ومن أيقونات المدينة أيضا الزجال سيدي قدور العلمي(1742م، 1850م)باعتباره من أكثر شعراء المغرب شهرة. نظرا لتجربته الحياتية المريرة بعد أن فقد داره. وظل هائما وشريدا في حارات مدينة مكناس العتيقة. حتى باتت رمزية شخصيته ملهمة لعدد من الأدباء وكتاب السيناريو. حيث تم توظيفها كثيمة أساسية في عدد كثير من المسرحيات الموسومة باسمه.
مدينة السلاطين:
على الرغم من أن مدينة مكناس قد أسست في القرن الثامن الميلادي، إلا أنها لم تصبح حاضرة إلا خلال عهد المرابطين. حيث ازدهرت المدينة، وظهرت بعض الأحياء. أهمها القصبة المرابطية «تاكرارت». كما شيدوا مسجد النجارين وأحاطوا المدينة بسور في نهاية عهدهم. يعتبر الحي الذي لا زال يوجد قرب مسجد النجارين المشيد من طرف المرابطين أقدم أحياء المدينة. أما خلال الحكم الموحدي، فقد عرفت المدينة ازدهارا عمرانيا. حيث تم توسيع المسجد الكبير في عهد محمد الناصر(1199م-1213م). وتزويد المدينة بالماء بواسطة نظام متطور انطلاقا من عين «تاكما» لتلبية حاجيات الحمامات والمساجد والسقايات. كما عرف هذا العهد، ظهور أحياء جديدة مثل حي الحمام الجديد وحي سيدي أحمد بن خضرة. أما خلال العهد المريني، فقد شهدت المدينة استقرار عدد كبير من الأندلسيين الذين قدموا إلى مكناس بعد سقوط أهم مراكز الأندلس. وقد شيد السلطان المريني أبو يوسف يعقوب(1269م- 1286م) قصبة خارج المدينة لم يصمد منها إلا المسجد المعروف بللّا عودة. ومن جهة أخرى، عرفت مكناسة الزيتون، بناء مدارس عتيقة أهمها: مدرسة فيلالة، والمدرسة البوعنانية ومدرسة العدول، ومساجد مثل مسجد التوتة ومسجد الزرقاء، وخزانة الجامع الكبير ومارستان الباب الجديد وحمام السويقة. أما في عهد الدولة العلوية، خاصة إبان فترة حكم السلطان المولى إسماعيل، فقد استعادت المدينة مكانتها كعاصمة للدولة. فقد عرفت أزهى فترات تاريخها. حيث شيدت بها بنايات ذات طابع ديني كمسجد باب البردعيين ومسجد الزيتونة ومسجد سيدي سعيد. توحي منارات هذه المساجد من خلال طريقة تزيينها بتأثير سعدي واضح. بالإضافة إلى القصور وبنايات أخرى مهمة، فقد قام السلطان المولى إسماعيل بتشييد الدار الكبيرة فوق أنقاض القصبة المرينية وجزء من المدينة القديمة. كما أنه أنجز حدائق عديدة (البحراوية، السواني)، وإسطبلات للخيول ومخازن للحبوب وصهريجًا لتزويد الأحياء بالماء. كما أحاط المدينة بسور تتخلله عدة أبراج عمرانية ضخمة وأبواب تاريخية. أهمها:باب منصور وباب البردعيين. قرب هذه الأبواب أعدت عدة فنادق أو محطات لاستراحة القادمين من مناطق بعيدة. أما الأسواق، فكانت منظمة وتعرف حسب نوع الحرفة أو الصناعة، مثل سوق النجارة وسوق الحدادة وغيرها. لم تتنازل مكناس عن أهميتها كمدينة مخزنية وحاضرة كبرى حتى عندما فقدت صفتها كعاصمة سياسية للعلويين خلال المنتصف الثاني من القرن 18م لفائدة جارتها فاس في بداية الأمر إذ كانت سكنا مفضلا لعدد من الأمراء ورجال الدولة. خلال خضوع المغرب للحماية الفرنسية ابتداء من سنة 1912، شيد الفرنسيون المدينة الجديدة على الطراز الأوروبي بشوارعها وعماراتها وحدائقها وأحيائها الصناعية والتجارية والسكنية وكافة مرافقها الإدارية والعسكرية والرياضية والثقافية في المنطقة الجديدة المعروفة بحمرية. حيث بدأت المدينة تستعيد بعض أدوارها. شكلت موقعا استراتيجيا له أهمية عسكرية واقتصادية بالدرجة الأولى. لم تدخل مدينة مكناس التاريخ المغربي والعالمي من بابه الواسع، إلا على عهد السلطان المولى إسماعيل العلوي عاصمته الإدارية والاقتصادية والروحية منذ عام 1672 حتى1727. وقد عرف هذا السلطان بشجاعته وبأسه الشديد وسمعته العالية التي وصلت إلى آفاق أوربا الصليبية آنذاك في القرن السبع عشر. حيث كانت تهابه في الضفة الأخرى من المتوسط مملكة قشتالة(اسبانيا والبرتغال حاليا)وبلاد الإفرنجة(فرنسا)وبلاد الغال(إنجلترا)لما كان يتدجج به من ترسانة حربية متقدمة من جيوش. تقدر بعشرات الآلاف. تسمى جيش البخاري. مما جعل الفرنسي لويس الرابع عشر يتودد إليه. موثقا علاقات الصداقة.
فكانا يتبادلان الهدايا والبعثات الدبلوماسية بينهما. لذلك استوحى السلطان المغربي من عاصمة باريس العديد من هندساتها الباذخة وخصوصا قصر فرساي. فشيد في عاصمته مكناس الحدائق والقصور والإسطبلات والمخازن. لعل أهمها على الإطلاق معلمة باب منصور الذي يقع في ساحة لهديم وهو من أعظم الأبواب التاريخية في المغرب، إن لم نقل في شمال إفريقيا عموما.
مدينة الأسوار والأبواب:
تعد مدينة مكناس مدينة الأسوار التي تحيط بها من الجهات الأربع. والمؤثتة بعشرات البوابات العالية. حيث يبلغ طول هذه الأسوار، ما يقارب 50 كيلومترًا. كان الهدف من تشييدها، حماية العاصمة الإسماعيلية من مختلف الهجمات الحربية والمناوشات المغرضة. سواء من القبائل الأمازيغية المناوئة للحكم العلوي، أو من الهجمات المحتملة للصليبيين في عصور الاكتشافات الجغرافية الكبرى التي قادتها اسبانيا وكذا البرتغال وبريطانيا. هذه الذخيرة والإرث الحضاري والتاريخي لمدينة مكناس، أهلها بامتياز كي تدرجها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة(يونيسكو)في عام 1996 ضمن قائمة التراث العالمي.
المعالم الأثرية في مدينة مكناس المغربية تم إدراج مدينة مكناس المغربية على لائحة التراث العالمي التابع لمنظمة العلوم وثقافة اليونيسكو كإرث حضاري مغربي فريد على مستوى العالم. إن مسألة إدراجها لم تأت من فراغ، بل كانت ردة فعل طبيعي لحماية معالمها الأثرية، ومن الامثلة عليها ما يأتي:
المدينة القديمة وما تحتويه من سوق، حدائق الخيول، السكاكين، وشارع روامزين.
جامع الزيتونة وهو أقدم جامع في المغرب. باب منصور لعلج الذي بناه المولى إسماعيل وأتمه ابنه المولى عبد الله سنة 1732م، ويتميز بنقوشه الفسيفسائية، بينما يحتضن قصر السلطان إسماعيل العلويّ بالإضافة إلى ضريحه، ومسجدي بريمة وسيدي عثمان، والقصر الجامعي وهو متحف عريق يحتضن الفن المغربي. قصر البيضاء الذي أسسه السلطان محمد بن عبد الله في القرن التاسع عشر الميلادي وتحول إلى أكاديمية عسكرية. وظل محتفظًا بطابعه الأصيل وهندسته البديعة.
قصر دار الجامعي الذي يعود إلى عام 1882م حيث بناه المولى الحسن الأول كمكان سكن لوزيره أبو عبد الله الجامعي، ويتميز هذا القصر بطرازه الأندلسي. وسجن قارا الذي يعود إلى القرن الـ 18، ويضم ثلاث قاعات واسعة مليئة بالأقواس والدعامات. صهريج السواني الذي يعود إلى القرن 18 بني لخزن المواد الغذائية كالحبوب، بالإضافة إلى احتوائه على آبار عديدة. والمدرسة البوعنانية التي أسسها السلطان المريني أبو الحسن، ثمّ أتم بناءها ابنه أبو عنان، وتتميز بعمارتها الفريدة حيث الأعمدة، والأبواب، والزخارف، والنقوش، بالإضافة إلى المحراب وقاعة الصلاة.
مكناس اليوم:
يشير الشاعر المغربي علال الحجام(من جيل شعراء السبعينات)إلى أن الشعور بالانتماء إلى مكناس، تتجاذبه مشاعر متضاربة. فثمة من جهة مشاعر الاعتزاز بشموخها بما هي حاضرة. تنبض تاريخيا وثقافة وإثنيات. مما جعلها بحق مدينة مفتوحة في وجه كل وارد. على عكس كثير من المدن المغلقة التي تناصب العداء لكل طارئ. لكن هذه المشاعر من جهة أخرى، تدعونا للأسف عليها لما آلت إليه في السنوات الأخيرة من ترد. في تكبر وتضخم دون أن يتحقق أي انسجام بين حاضرها وماضيها. بل تفقد على العكس من ذلك الكثير مما كانت تحفل به من رونق وثراء، بقدر ما تترهل أرجاؤها وتتسع. هذا فضلا عن كون المدينة التي كان يقدرها المستعمر الفرنسي حق قدرها، ويعرف أهميتها، لدرجة تسميتها بفرساي الصغيرة. لم نعد تجد العناية والتقدير. حيث تضاءلت مكانتها بالمقارنة مع كانت عليه في الماضي.
لكن مهما يكن من أمر، فإن مكناس الغناء التي في القلب، تبقى مع ذلك هي الرحم الذي حمل الشاعر علال الحجام سنينا، كما ألهمه اكتشاف مسالك الإبداع ومكنه من ربط علاقات عشق مغ فضاءاتها وآثارها وحدائقها وجمعياتها ومؤسساتها الثقافية.
مراكش في : 9 مارس 2019

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق