مقالات

كراني الفريج

حسن المطروشي

كثيرا ما كان الصبي يجد النسوة في انتظاره تحت «سبلة العريش» المطلة على ساحل البحر، كلما عاد من البحر أو الحقل مع أبيه. كُنَّ ينتظرنه بشغف ولهفة ليكتب رسائلهن إلى أزواجهن الغائبين في الأسفار الطويلة التي يقضون فيها السنوات حتى يعودوا إلى بيوتهم بدراهم معدودة، ليجدوا كل شيء قد لمسه التغيير.
كانت النسوة تفضلن أن يقوم هو دون سواه من شباب الحي «الفريج» ليكتب رسائلهن. فهو مؤدب وأمين كتوم للأسرار ويتحلى بالذكاء والفطنة والشقاوة أيضا. هو يؤكد لهن أنه لديه القدرة والاستعداد لكتابة «الخطوط» الرسائل، رغم أنه لم يكن الوحيد الذي بلغ الصف الرابع الابتدائي بين أقرانه في «الفريج». لذلك تمكن من اكتساب لقب «كَرّاني الفريج» بجدارة. والكرّاني لفظة دارجة حينها تعني الكاتب، خصوصا إذا كان كاتبا موظفا لدى الحكومة.
كان لكتابة المكاتيب طقوس خاصة ومميزة ما يزال يتذكرها بتفاصيلها رغم مرور السنين وتغير الأحوال. بعضهن كنّ ينتحبن بألم كبير لا يعلم سببه حتى الآن. وبعضهن كن يجدن صعوبة في إبلاغ زوجها بأن ابنه الصغير قد فارق الحياة وأنه لن يجده في استقباله عندما يعود من سفره بالهدايا والحلوى والنقود والثياب التي لن يرتديها أحد.
وكان سائدا حينها أن يلجأ البعض لحرقِ طَرَفِ الرسالة بالنار من إحدى زواياها، وهي إشارة إلى حدوث أمر جلل في العائلة يصعب الحديث عنه، وأن على المسافر أن يعود حينما تصله الرسالة ليعرف بنفسه ما جرى. فثمة أمور لا تستوعبها لغة الرسائل المسافرة.
كان يكتب الرسالة على قرطاسة من دفتره المدرسي. وكان بعض النسوة يطلب منه عند الانتهاء من الكتابة أن يعيد قراءة ما كتب. وكان هو يتفنن في إظهار قدرته على التعبير وحسن صياغة العبارة، الأمر الذي كان يلقى قبولا واستحسانا لدى النساء، ويجعله هو يشعر بالنشوة والخيلاء بسبب قدرته الفريدة على نظم العبارة وسبك المفردات التي تطرب السامعين، لاسيما إذا كان والده وأمه في الجوار.
لم يكن الكراني الصغير يعلم أن تلك الرسائل العتيقة ستظل في قلبه، تبوح بأسرارها وأخبارها وأحزانها ودموعها إلى الأبد!

 

*****

اتْرُكي بَحْرًا
لأمضي بالرسائلْ

اتْرُكي دَرْبًا إلى العِطْرِ
لكَيْ تَخْضَرَّ أوهامي القَلائلْ

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق