السياحي

من أسوان إلى الأقصر استعادة الأمكنة والوجوه.. والحكايات

جال في الأمكنة: محمد بن سيف الرحبي

أن تستعاد الأمكنة من جديد فهذا يعني أن ثمة ما يغري للعودة إليها، وأن الرؤية الأولى أبقت أثرا يحتاج إلى قراءة لاحقة لعبور المسافة بين المدهش والاعتيادي.. بعد رحلة من الأقصر إلى أسوان قبل نحو عامين اخترت الطريق المعاكس هذه المرة، فأخذت طريق الطائرة إلى أسوان لتكون نقطة البداية، والبقاء مع النيل أربعة أيام، وعلى ذات المركب، “تمر حنا”، سائلا عن ذات الأمكنة.. والوجوه، بينما تأتي الحكايات تباعا، بصيغة أو بأخرى، بأضافة هنا، وبعض النقص هناك.

من المطار إلى السد العالي، كانت البداية موحية، إلى حيث يعبر النيل كما هو عليه الآن، متسللا بخفة عبر السد الذي نفع مصر كثيرا، رغم كل الأضرار التي تقال عنه، حماها من الفيضان، ونظم جريان الماء إلى حقولها، وأوقد شموع الطاقة في شرايين حياتها، لكنه حرمها من التربة الطينية (الوحل) اللازمة لخصوبة الأرض، وهجّر آلاف العائلات النوبية بعيدا عن أمكنتها الأولى، تاركا لهم قضية يحاولون من أجلها عشرات السنين، يتكرر مشهد المطالبات، لكن هناك خطوط حمراء وضعت، أقوى من أي مطلب.
كان معبد فيلة أول الأمكنة في قائمة المعابد التي تحمل عنوان الرحلة الرئيسي، فالجدول قائم على زيارة الآثار الفرعونية القديمة في أسوان والأقصر والمسافة بينهما، لوجود معبدين في إدفو وكوم امبو، فالحضارة التي قامت على ضفاف النيل ارتبطت كافة عناصرها بهذا الجريان عبر آلاف السنين، عاشت أزمنة القحط والفيضان، القوة والضعف، الحروب والسلام، امبراطوريات تقوم وأخرى تسقط، وعبر ثلاثين عائلة سارت مصر القديمة آلاف السنوات تضع آثار خطواتها، تخترع الحكايات وتشيد المعابد والمقابر.. كما تعبد آلهة من صنعها، وكلها تتقارب مع حكايات الخلق وآدم عليه السلام وابنيه قابيل وهابيل، موزعة الأدوار على أسماء تحددها حسب حاجتها، فهناك إله الخصب وآخر للفيضان وللحب وللخير وللشر، وهكذا.
في معبد «المحبوبة»
المدهش في معبد فيله هو أنه مقام في غير مكانه الأصلي، فبعد إقامة السد العالي غرق المعبد، فقامت اليونسكو بنقله من مكانه قطعة قطعة، ولعدة سنوات، إلى مرتفع يبعد عن الأول نحو 500 متر، ليكون في مأمن من الغرق، وهو من العهد البطلمي، وتعني كلمة فيله «المحبوبة» للدلالة على إيزيس المنحوتة جميلة على واجهة المعبد.
يخبرنا المرشد عن أسطورة إيزيس وأوزوريس، والتي تبدأ بقتل الإله أوزوريس، فرعون مصر، على يد أخيه ست ليحظى بالعرش، لكن إيزيس العاشقة بحثت عن الجثة حتى وجدتها، إنما كان ست لها بالمرصاد ليسرقها مرة أخرى ويقطعها إلى 42 جزءا وزعها على أقاليم مصر، وتستمر الحكاية بأن تتمكن إيزيس من جمع الأشلاء مرة أخرى، وتنجب حورس الذي تحول من طفل ضعيف إلى آخر تمكن من هزيمة عمه ست، وتمكن من إعادة الاستقرار إلى مصر.
تداخلت لغات الترجمة مع تدافع السياح إلى المكان، وكان المرشد يوضح النص الفرنسي على واجهة المعبد، وتأثير الديانات اللاحقة في طمس بعض المعالم، حيث رأت المسيحية في الكثير من النقوش إساءات لا تتفق معها.
كانت جزيرة النباتات تدعونا اليوم التالي لزيارتها، لكن النيل لم يكن ماؤه مستقرا، فالهواء أشد من أن تتحمله القوارب الشراعية الصغيرة، وهي تعبر بالسياح من تلك السفن الراسية إلى حيث تقع الجزيرة، كما صنع بهاءها الآغاخان، مختارا أن يدفن فيها، حيث الزهور وماء النيل الخالد يجري.
حكاية الآغاخان الثالث «زعيم الطائفة الاسماعيلية» والذي يتبعه نحو 25 مليون شخص حول العالم، تروى كأبرز حكاية عشق في العصر العشرين، حيث جمعت حفلة بين البيجوم أم حبيبة، تلك الفتاة الفرنسية البسيطة التي كانت تدعى افييت لابدوس، والآغاخان الثري، كانت الفتاة مدعوة لحفلة داخل أحد القصور الملكية المصرية بصفتها ملكة جمال فرنسا عام 1938، لتبدآ قصة حب، ورغم ظروف الحرب العالمية الثانية التي صعّبت زواج هذه الفقيرة بواحد من أثرى الرجال في العالم إلا أن سويسرا جمعت العاشقين عام 1944، وكانت هديتها نحو مليون فرنك فرنسي.. وكم كانت تساوي في تلك الفترة مقارنة باليوم!.
وفي عام 2000 توفيت البيجوم أم حبيبة لتدفن بجوار قبر زوجها في أسوان، ويبقى المكان شاهدا على حكاية غرام توثقها تلك الربوة، وكأنها تستحضر تلك الوردة الحمراء التي كانت تضعها يوميا على قبره، منذ وفاته عام 1957، بما جعل القبر فخما بمشهديته الحالية، أو بحكايته الموغلة.. في العشق.
بقينا في السفينة، حيث لا يمكن التجوال في الشارع مع العاصفة الباردة، أو مع محاصرة أصحاب العربات لكل من ينحاز للمشي على قدميه، عارضين، وملحّين، على تقديم خدماتهم المدفوعة.. وبكل العملات الممكنة.
كوم امبو.. كوم الذهب
نحو ساعتين من الوقت استقرت السفينة في مدينة كوم امبو، وعلى طول المرسى محلات صغيرة تبيع ذات المعروضات الدالة على هوية المكان، والتي يجدها السائح في رحلته طوال الطريق من أسوان إلى الأقصر..
كانت تسمى قديما نيبو أي الذهب، والمعنى الكامل «تل الذهب»، مع تحول اسمها البلطمي إلى أمبوس، وبقي النطق أمبو ومعها كلمة «كوم»، وكانت الطريق المؤدية الى مناجم الذهب في المنطقة الشرقية.
وكان لا بد من أن نقصد معبدها، وكما يدل معماره فقد زخرف في العهد اليوناني، أوضح المرشد أن كبيريوس فرض الكثير من الضرائب، لكن الإمبراطور نبهه إلى مراعاة ذلك بقوله «أرسلتك لتجز وبر الأغنام لا لتسلخها».
أشار المرشد السياحي إلى أن التمساح سوبك كان رمز الشر في مصر القديمة وعبدوه ليتجنبوا شره بجوار حورس رمز الخير، وفي متحف التماسيح قرأت أن سوبك التمساح حمل جثمان الاله اوزيريس بسلام إلى ضفاف النيل مما يجعل سوبك حاميا للملكية عند المصري القديم، كما قرأت بأن سوبك إله الفيضان، ولم أستوعب كيف هو رمز الشر كما أشار المرشد، وحاميا للملكية، كما تقول المعلومة على حائط في المتحف المجاور!.
واللافت في هذا الموقع أن به معبدين، واحد للخير، وآخر للشر، ومدخلين لصالة الأعمدة، ومكانين «لقدس الأقداس»، كما تميزت تيجان الأعمدة بالطابع الروماني، لكن أغلبها مدمر، أو مقطوع، ويقال، دون تأكيد، أن والي مصر محمد علي قطعها واستخدمها في إقامة القناطر الخيرية.
يمكن القول إن هذا المعبد يحمل دلالات على ما يمثله المكان من كونه مركزا علاجيا كبيرا في مصر القديمة، وعلى الحيطان نقوش كثيرة على الأدوات المستخدمة في العلاج، تضاف إلى تلك المناظر الدينية المعتادة في الداخل لارضاء الكهنة، على المدخل نقش لبطليموس الراهب مع اله المعرفة وحورس اله الخير واله الشر يسكبون الزيوت المقدسة للتطهير ولطرد الافكار الشريرة.
ادفو
هذه المدينة الصغيرة، هذه القرية الكبيرة، الواقعة على ضفة النيل، بنت شهرتها على معبدها الذي كان علينا أن نزوره قبل شروق الشمس، وكان البرد يضغط بقوة لنطلب أشعتها القادرة على التخفيف من قسوته.
حين ألقت السفينة بمراسيها في إدفو كان صوت العربات يملأ الأسماع على طول الشارع المحاذي للنهر، عشرات «الحناطير» تصطف في جلبة كبيرة مع توزع عشرات السياح من كل سفينة على العربات تقلّهم في كل عربة اثنين بينما يجلس المرشد السياحي بجوار صاحب الحنطور، ويمضون إلى حيث المعبد في مسافة تجتاز عمران المكان لأقل من نصف ساعة.
وفي الساحة المخصصة كمواقف تشعر بأن المكان يضيق بما تزاحم فيه من خيول وعربات وجلبة ألسنة لسياح قادمين من أمكنة شتى، مع أصوات أصحاب المكان وهم يبحثون عن مخارج حيث يذهبون في سباق مع الوقت إلى حيث تصطف السفن على المراسي، وهناك مجموعات أخرى من السياح.. ومن الرزق.
على واجهة المعبد يقف الإله الصقر، حورس الذي انتصر على ست، بني المعبد في العهد البطلمي واكتشفه فرنسي، وفي زوايا عديدة يظهر الملك المنتصر يقدم قرابينه للإله، ففي كل عصر هناك معبود، وفي معبد إدفو يقف حورس البحدتي، وأمامه الملك البطلمي يقدم قربانه، ومعه دوما تظهر على نقوش الحيطان زوجته «حتحور» مرافقة.
وكما هي بقية المعابد يتشكل المكان من الواجهة العامة ثم قاعة المكان حيث يستقبل الملك زواره ويقيم احتفالاته، ثم قاعة الأعمدة التي لا يعبر عددها عن شيء، ووصولا إلى أقدس مكان في المعبد، «قدس الأقداس» الذي لا يدخله إلا الكهنة وكبار القوم، وعلى الجوانب بقية الغرف التي توضع فيها الكتب المقدسة والزيوت، إضافة إلى غرفة «الماميزي» او الولادة المقدسة.
كانت السفينة تستعجل السياح للعودة إليها، فهناك منطقة العبور، والتي تسمى بالهويس، حيث الحد الفاصل بين مستويين من الماء، على السفينة أن تهبط من الآعلى إلى الأسفل.. أو العكس.
كانت فرصتنا لتأمل المكان.. والباعة المنتشرين حول السفينة يحاولون إقناع الركاب الواقفين على سطحها بشراء ما يعرضونه من ملابس وأغطية.
الأقصر
في المساء اتصلت بالصعيدي الجميل، سيد، أبو مصطفى، صاحب سيارة الأجرة الذي تعرفت عليه في الزيارة الأولى، وكان شهما بما يكفي لأتواصل معه، أخذني في جولة داخل مدينته، البر الشرقي، حيث العمران والأسواق، بينما يكون البر الغربي للحقول وخلفها الجبال الضامة للمقابر، وادي الملوك ووادي الملكات وغيرها من الآثار التي تكتشف باستمرار.
سوق الأقصر يشبه سوق أسوان في أغلب التفاصيل، تبدو المعروضات متقاربة، محلات العطارة منتشرة بكثرة كأنها نسخة واحدة، تبيع الكركديه، وبعضها مكوم بكثرة، كما هي المنتجات الزراعية الأخرى كالتمور، ثم محلات بيع التذكارات والملابس التقليدية والمقاهي المنتشرة.. والأصوات المتدافعة من المحلات والباعة، مرة تصدح السماعات بأصوات التلاوة، ومرات بأصوات المغنين، وكان المشهد على درجة عالية من المفارقة، أمام مسجد يعلو معبد الأقصر كانت الساحة تضج بالعابرين والباعة، في زاوية يرتفع صوت القرآن الكريم من سماعة تجاور أحد أصحاب البسطات على الأرض، وعلى مسافة أمتار قليلة يرتفع صوت أم كلثوم عبر سماعتين، والمفارقة الأكبر أن بجوار «السماعتين» رجل يصلي!.
للمرة الثالثة أحضر عرض الصوت والضوء في معبد الكرنك، وكان انتظارنا ضمن السياح «المتحدثين باللغة العربية» بعد غروب الشمس مباشرة لنبدأ الحكاية من طريق الكباش على واجهة المعبد، ومرورا بالأعمدة والمسلات، ووصولا إلى المسرح الذي شاهدنا عبره بقية الحكاية، منعكسة على البحيرة المقدسة، وكأن الأصوات تأتي من بعيد لتبوح بأسرار المكان، والمراكب المقدسة الحاملة للتماثيل الذهبية، تاركة بعض الزوار في حيرة من أمرهم، على تلك اللغة المستخدمة، مستغفرين ومحوقلين، مما يسمعونه عن الإله آمون وقدرته على أن يعز من يشاء ويذل من يشاء.
قاومنا البرد بالحكاية..
وكنا نبحث في المكان عن البقعة التي يتجه إليها الضوء لنسمع عن «آمون»، وبقية الأسلاف الذين عبروا المكان منذ آلاف السنين، وكأنهم يجرون مراكبهم حاملين التماثيل الذهبية للآلهات القديمة، الحكايات تتناسل، تزاوج السياسة والدين، الأباطرة والكهنة، بينما على الشعب أن يقدم القرابين من قوته وقوّته، ليرضى عنه الجالسون على مقاعد «السياسة والدين».
في معبد الكرنك، أو الأقصر، أو في وادي الملوك، وصولا إلى معبد حتشبسوت، تتكاثر الحكايات، وتتناسل متشابهة، توت عنج آمون، رمسيس الثاني، تحتمس الاول والثاني والثالث، أسماء وأسماء، لم يقطع تواردها علينا إلا تلك الوداعية على مركب «تمر حنا» مغادرين إلى حيث مطار الأقصر يعيدني إلى القاهرة، وهي تعيش حاضرا مختلفا، حيث الأساطير تسكن في البعيد، في المقابر والمعابد وما تبقى من شواهد.. عمرها آلاف السنوات، بينما إنسان اليوم يفتش عن عمره ليعيشه.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق