مقالات

رَمَضَانْ وَالدرَامَا وَمَآسِينا الْقَوْمِية

أنور محمد

أَليسَ ما تقومُ به الدراما السوريةُ والمصريةُ والخليجيةُ والعربيةُ هو ظُلمُ الظُلم, حين تمرُّ على مآسينا القومية مثل مأساة فلسطين والجولان ومأساة الربيع العربي مُرورَ البُخلاء. فكلُّ سنةٍ أو سنتين أو ثلاثُ سنوات, وربَّما أكثر– الجولانَ السورية لا ذكرَ لها, هُناكَ مسلسلٌ واحدٌ أو حلقةٌ من مسلسلٍ عن هذه المآسي؟؟؟. لماذا كلُّ هذا الجُحد. هل لأنَّها مآسٍ ذاتُ مواضيعَ خاسرةٍ ماليًا؟. إذا كانَ الأمرُ كذلك أَليست هذه جريمةُ الجرائم, وكأنَّنا أمَّة أمَّحت؛ أُزيحت من على الخارطة, ولم يَعُدْ لها موقفٌ من قضاياها المصيرية. أينَ الفكرُ النهضوي الذي يَدَّعي قدرته على تحرير العقل من الخرافة والجهل والتخلف والوعي الأسطوري؛ إِنْ في الكتاب المدرسي, أو في مختلف أجناس وأنواع الفنون والآداب؟؟. عجيبٌ أمرُ هذه الدراما التي لا تخدمُ إلاَّ أوثانَها, فلا ترى ماذا يحلُّ بالفكر القومي والوطني الديمقراطي من دمار؛ إِذَ هو مُثخنٌ بجراح؛ بسكاكينِ الإذلالِ والامتهان بغية إخضاعه لمشيئة العولمة ومن يُعولمها.
طبعًا نحن لا نريدُ أن نحوِّل الدراما العربية إلى مسلسلات (تعبوية), فتصيرُ الدراما بلاغاتٍ وبياناتٍ وخُطَبْ. لكنَّنا نريدها أن تشتغلَ على كل القضايا بما فيها همومنا وأحلامنا الشخصية, إنَّما بوعيٍ عقلاني نقدي لحاضرنا في إطار الكونية الثقافية والعلمية في هذا المجتمع الإنساني, فلا نتحوَّل إلى قطيعٍ لا يجيدُ غيرَ عمليةِ الاستهلاك؛ وبالتالي نصيرُ ضحايا متزايدة لعولمةٍ مُفرطةٍ في استبدادها. ففي قراءةٍ غيرِ مُتأنية (لقضايانا) هذه, نرى أَنَّنا لا نُعيرها أيَّ اهتمامٍ في الدراما التلفزيونية – السينما انشغلت بها, وكذلك المسرح, بل وفوقها؛ إذا لم يَكُن المسلسلُ المُفترض أَنْ يَتمَّ إنتاجه مكتوبًا بشروطٍ تجارية رابحة فلن يرى النور, ما يعني أنَّنا نعيش حياةً أكثر عبودية للمال وللتفاهات التي صارت قضايا رئيسة للدراما العربية من أهدافها اقتلاعنا من جذورنا, وبمنتهى الأناقة والذوق الوحشيين للعولمة, وهي تقدِّم لنا هذا الكمَّ من ميثيولوجيا «درام» المتعة والترويح, مع شيءٍ من عنفٍ خيالي يُغذِّي الغرائزَ والدوافعَ العُدوانية المكبوتة في أعماقنا.
إنَّها هجمةٌ؛ مسلسلاتٌ, معلَّبات, أَوْ تَرفَعُ من سَوِيةِ الوعيْ وليسَ الفِكْر, أو تُدمِّر العلاقات الفولكلورية الإنسانية ما بين أبناء الشعب العربي. مع كلِّ «رمضان» نحن مع استحضار عاداتٍ وتقاليد؛ بلْ ومعَ نبشِ قبور الموتى لنشمَّ, ونشوف, ونسمع, ونكتوي بروائح بطولاتهم كما خياناتهم, كمادَّةٌ مسلية وفوقها مُربحة. إنَّها صناعة, مثل صناعة القبَّعات والجوارب والأحزمة والأحذية والمعلبات الغذائية- والنتيجة محاصيل, غِلالٌ وغِلال من ذهبٍ تصبُّ في جيوب المُنتجين المُستثمرين.
في الماضي القريب كُنَّا ننامُ على حكايات جَدَّاتنا وأيضًا أمَّهاتنا, غير إنِّه في الأعياد كان هناك وفي الساحات العامَّةِ, حضورٌ مرئيٌ حيٌّ لكائناتٍ إنسانية وحيوانية-ألعاب السيرك, وهي غيرُ تلكَ الكائناتُ التي كُنَّا نَتخيَّلها حين نستمعُ إلى الحكاية, فنتصوَّرُ أرواحًا وأشباحًا- وكانت هذه على ما تبعثُ من رضا أو غضب, تُؤكِّد على وحدة الثقافة/ وحدة المشاعر الإنسانية, كُنَّا مع ثقافة العيد, ثقافة حيَّة مباشرة تُثيرُ رُوحَ التعاون والتسامح والتواد. كنَّا نحكي مع بعضنا, نحكي لبعضنا حكاياتٍ وحكايات, كنَّا نرقصُ ونغني, كنَّا نجري/ نركض, نلعبُ ونلعب. وكان لِلَعبنا, حكاياتنا, مذاقٌ غير مذاق الصورةِ, الألعابِ, الثقافةِ الصناعية التي تُقدِّمها الصورة التلفزيونية. الآن في البرامج أو المسلسلات وخاصَّة هذه التي نشوفها في كلِّ رمضان؛ هذه البرامج والمسلسلات التي تريدُ أن تُسرطنُ رأسنا وصدرنا- وحتى لا يفهمنا أحدٌ ب(الغلط) أقول: لو رجعنا إلى السنوات الأولى للبثِّ التلفزيوني السوري والمصري والخليجي والعربي عمومًا, وإلى أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن المنصرم, لوجدنا أنَّ معظم ساعات البثِّ كانت تقومُ على احترامِ عقلِ المُشاهد, فتؤكِّدُ على قِيَمِ النبالةِ والفروسيةِ والكَرمِ والمروءةِ والشجاعةِ والبطولة- كان ثمَّة قاسمٍ مُشترَكٍ بينَ الخَبرِ والحكايةِ التي في الصورة, وبينَ عُذريةِ العقلِ والقلب. فالصورة لم تَكُنْ تُلفِّق وَتَكذِبْ على المُشاهد كما الآن, حيثُ صِرنا هدفًا, صِرنا عدوًا لصاحبها ومُنْتِجِها, إِذْ لَمْ يَعُدْ يَرضى بأن نبقى مُستهلكين لها؛ بل ويُعاملنا بصفتنا ضحايا لجنابه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق