مقالات

المسرح وأحزان العقل

أنور محمد

نحن عندنا بذور مسرحية لكن ليس عندنا مسرح. كان عندنا خيال الظل «كراكوز», وهو بذرة أولى لشكلٍ فرجوي, فيه آراء حاقنة, كابسة, ناقدة. لماذا نشعر بالذنب؟ ولماذا يكون رد الفعل على هذا الشعور بتلفيق وتزييف نصوص أدبية نثرية في عمقنا الأدبي على أنَّها نواةٌ أولى لنصوص مسرحية ؟ حتى الحواريات في الأدب العربي القديم على قيمتها الجمالية فنيًا وفكريًا, لا ترتقي إلى الحوار المسرحي, إذ أنَّها تخلو على العموم من الصراع التراجيدي – لا ينمو فيها الصراع. لا يكفي أن نعلِّم أولادنا كيف نكتب مسرحية, وكيف نبنيها عرضًا على الخشبة, وكيف نتفرَّج عليها, وكيف.. كيف ننقدها. المسرح مُحرِّك, مُحرِّض للفكرة بحثاً عن المعرفة, بل هو مواجهة مع الآخر ولكن ليس لإيلامِ أو لجرحِ الذاتِ أو الآخر.
كأنَّنا نحتال أو نحنُ محتالون, نحتالُ على الماضي ومن ثمَّ على المستقبل فنقول: عندنا مسرح. لا مسرحَ في عمقنا المعرفي إنْ نصًا أو عرضًا, بينما اليونانيون كان عندهم عرض مسرحي, كان عندهم نصٌّ وممثلون وديكور وموسيقى. نحن لم يكن عندنا أي عنصر من عناصر تكوين العرض المسرحي حتى ما قبل الإسلام حين كانت مكَّة سوقًا تجاريًا وأدبياً, ولا لاحقًا كما يصرُّ البعض على أنَّ «مقامات بديع الزمان الهمذاني» قدَّمت لنا أوَّل ممثِّل مسرحي كوميدي بشخص بطلها (أبي الفتح الاسكندراني). هذا يجب أن نعلِّمه لأولادنا فلا نخدعهم, لأنَّ لا أحد يحتكر العلم والمعرفة بسبب أنَّهما مشاعٌ إنساني. ثمَّ إنَّ الهمذاني نفسه لم يدَّعِ أنَّ المقامات هي نصوص مسرحية. ولا أبو العلاء المعري سبق وادَّعى أنَّ «رسالة الغفران» يمكن أن تكون نصًا مسرحيًا, حتى ولا ابن المقفَّع حين ترجم «كليلة و دمنة» لم يقل إنَّها نصٌ مسرحي رغم الحوارات التهكمية الساخرة ذات النبرة الجمالية العالية, لأنَّ كليهما بما في ذلك المقامات, نصوصٌ سردية, ليس فيها أي عنصر من عناصر البناء المسرحي. فالطالبُ اليوم صار يحار؛ فمن مدافع بأنَّ في عمقنا الأدبي ثمَّة بذور لنصوص مسرحية, إلى مهاجمٍ بأنَّ لا مسرح في هذا العمق الأدبي والمعرفي. سوفوكليس وأرسطوفانيس وإسخيلوس ويوربيدس كتبوا لمَّا كتبوا نصًا مسرحياً, وكذلك شكسبير, كتبوه من أجل العرض المسرحي.
المسرحُ يسرحُ حيث حرية التعبير, حيث الجدل, حيث الصراعات. ثمَّ إنَّه نشاطٌ؛ فعلٌ؛ إحساسٌ بالجمال أو القباحة يسعى إلى تحقيق اللذَّة في الفرجة, فنحن كائنات حاسَّة/ تحسُّ. فالجمال – إحساسنا بالجمال كما إحساسنا بالقباحة يثير نشاطنا, ويتحوَّل إلى دواء, إلى علاجٍ نفسي وربَّما عضوي لكثير من أمراضنا, فنحن لا نلتذُّ/ نتلذَّذُ بالجمال- الأنظمة العربية أو النظام التعليمي العربي يُصادر هذا الإحساس, يغتال اللذَّة التي في الجمال, وكأنَّها تتعارض- أو بالتأكيد هي تتعارض مع استبداده؛ مع طبائع الاستبداد, هذه الطبائع السيئة القبيحة الفاسدة من مصادر مشينة وليس نبيلة. نبيلة- النبيلة التي ينهل المسرح منها أفعاله, فاللذَّة وليس المتعة يحقِّقها النبيل وليس المشين. لا مسرحَ مشين أو لا فنونَ من مصادر مشينة, وهنا أذكِّر بأنَّه في التعليم المدرسي والجامعي علينا أن ننتصر في برامجنا؛ في موضوعاتنا لقوَّة الفعل النبيل. ثمَّة ازدواجية لمصادر اللذَّة إِنْ من خيرٍ أو من شرّْ, لكن وأنَّ المسرح فعلٌ نبيل, وأنَّ النبيل لا يأثم.. فَنُدَرِّس, نُؤكِّد, نسعى إلى تعليم الفعل المسرحي.
التفرُّجُ على مشهدٍ مسرحيٍ واحدٍ (قد) يتعلَّم فيه الطالب ما يُغنيه عن قراءة مئات الأسطر في كتاب, فهو مشهدٌ صورةٌ شخوصها تتحرَّك, شخوصٌ/ مسرحٌ يوفِّر عليك الوقت والجهد؛ فالمسرحية تصير مسجداً وكنيسة, وتصير مدرسًة وشارعًِا ومحكمةً وبرلمانًا وكتابًا, والبيان رقم (1). ففيما يعمل الكتاب المدرسي على تعليمنا التاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم نرى أنَّ المسرح يعلِّمنا تاريخ أحزان العقل وشجونه وإصراره على تحقيق رغباته وأحلامه, لأنَّ المسرح هو من نقدر أن نحقِّق عليه أحلامنا حين تحترق الأحلام في الواقع. إذ يمكن أن نقول في الرواية أو في السرد التقريري التاريخي والتأريخي إنَّ الملك لويس الرابع عشر ملك مستبد, وأنَّ نيرون طاغية, لكنَّنا في المسرح نقْدرُ نعيش ثانيةً, نقْدرُ نعيدُ هذين الطاغيتين إلى الخشبة ونحاكمهما محاكمة عادلة.
فعقل المستبد يسطو على عقل المبدع. نحن في تراثنا أو في عمقنا المعرفي عندنا (معقولات) عربية في معظم العلوم, لكنَّها على يد العقل المستبد تحوَّلت إلى (لا) لا معقولات, وهذا ما أثار وجنَّن عقول مسرحيين عرب مثل: توفيق الحكيم, ألفرد فرج, نعمان عاشور, سعد الله ونوس, محمود دياب, عز الدين المدني, فرحان بلبل, مصطفى كاتب, عصام محفوظ, محمد بن قطاف, جلال خوري, نجيب سرور, ممدوح عدوان, صقرالرشود وآخرين.
ولو عدنا إلى أيام الخلافتين الأموية والعباسية لوجدنا من هذه المعقولات أنَّ المسجد وكذا الخانات والأسواق والحانات كانت أماكن تقوم فيها الحوارات والنقاشات, ويتمُّ فيها تداول الأفكار وإشاعتها؛ وهذا برأيي هو دور المؤسَّسة التعليمية العربية, وهو ما يدعو إليه المسرح الذي هو ضد الجمود والجهل والاستسلام والتواكل والخنوع والطغيان- طبعاً أنا لا أدعو إلى دين, ولكنَّه المسرح ضد الحكم التعسفي والقوانين والعلوم التي تغلق على العقل فلا يفكِّر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق