السياحي

روما .. مدينة التلال السبعة

تعبر بي المركبة عائدا إلى مطار روما على جسر فوق نهر التيبر الأسطوري، الذي يفصل المدينة التاريخية إلى نصفين، في عشية باردة نسبيا، تحت سماء روما الماطرة. أفتح شباك السيارة وأنظر إلى المدينة مودعا بحسرة عميقة. أحاول في اللحظات الأخيرة الهاربة استنشاق ما أمكن من هواء هذه المدينة التي عشقتها وتوحدت بها منذ الإطلالة الأولى. هنا قفز في ذهني بيت قيس بن الملوح محدثا صاحبه:
تَمَتَّعْ مِنْ شَميمِ عَرَارِ نَجْدٍ
فما بَعْدَ العَشِيَّة ِ منْ عَرَارِ
ولكنني كنت أردد بيت الشعر على هذا النحو:
تَمَتَّعْ مِنْ شَميمِ عَرَارِ روما
فما بَعْدَ العَشِيَّة ِ منْ عَرَارِ

كتب: حسن المطروشي

أربعة أيام قضيتها في روما كانت كفيلة بأن تنقل هذه المدينة بصخبها وتفاصيلها إلى القلب. قضيتها متنقلا بين شوارعها وأرصفتها ومقاهيها ومعابدها وآثارها وكنائسها العتيقة التي لا تكف أجراسها عن الرنين.
وصلت إلى روما منتصف نهار الخميس الموافق 17 أكتوبر 2019م، بدعوة من مؤسسة توليولا الثقافية، لحضور حفل تكريم الفائزين بجوائز توليولا، الذي أقيم مساء اليوم التالي الجمعة 18 أكتوبر، تحت قبة مجلس الشيوخ الإيطالي.
ثمة عربي غريب الوجه واليد واللسان. قادم من جزيرة العرب إلى قلب الجزيرة الإيطالية. إن علي أن أدخل في سجال هذه المدينة وأن أكسر هذا الشعور العميق بالوحدة. روما مدينة مفتوحة الصدر تستقبل القادمين دون توجس وريبة. لقد كانت هذه المدينة تهيمن على أروربا الغربية ودول حوض البحر المتوسط على مدى أكثر من سبعمائة عام. فهي على اتصال بالشعوب والحضارات، وعلى احتكاك بالثقافات المختلفة منذ أقدم العصور.
على باب الفندق الذي سأقيم فيه يجلس عازف أفريقي ذو سجنة سوداء، يعزف ويغني مبتسما للمارة والقادمين. موسيقاه الإفريقية تملأ زقاق المكان المزدحم بالحركة والأصوات. ولكن الرجل لا يكف عن العزف والغناء والابتسام. هكذا يؤمّن لقمة عيشه هو وأبناؤه. يبدأ في الصباح الباكر ويغادر عند المساء حاملا ما تركه له المارة من القروش البسيطة .. ومثله الكثيرون الذين ينتشرون في أرجاء روما، يملأون فضاءها بالبهجة والموسيقىوينثرون الألحان في كل ناحية، دون كلل.
*****
هذه المدينة التي أتجول فيها الآن بدهشة متناهية هي إحدى عجائب العالم، وهي أيقونة المدن الخالدة. مدينة شيدت للخلود .. هكذا تقول شواهدها الحية التي صمدت على مدى قرون من الزمن. ورغم أن الدلائل الأثرية والعلمية تشير إلى أن هذه البقعة من الأرض استوطنها الإنسان منذ أكثر من أربعة عشر آلاف عام، إلا أن هيمنة الحكاية الأسطورية وسطوتها جعلت الرواية السائدة تشير إلى تأسيس روما قبل سبعة آلاف عام.

يقول الدكتور حسين الشيخ في كتابه (دراسات في حضارة اليونان والإغريق): «تحكي الأساطير أن (رومولوس) هو الذي أنشأ روما، وقد استوطن التلال السبعة التي أقيمت عليها روما، وهي مجموعة من التلال بالقرب من مصب نهر التيبر، على بعد حوالي عشرين كيو مترا من مصب النهر. وقد ظهرت تواريخ عديدة لنشأة المدينة، إلا أن أكثر التواريخ تداولا هو الحادي والعشرون من إبريل عام 753 ق.م، ولا يزال حتى الآن هو التاريخ الذي ينظر إليه باعتباره مولد روما».
وتضيف الأساطير أن «أموليوس» أسقط «نوميتور» والد التوأمين «رومولوس» و»أموليوس» عن العرش، وأمرهما بالقفز في نهر التيبر، حيث أنقذتهما الذئبة «لوبا»، وقامت برضاعتها حتى عثر عليهما الراعي «فاستولوس» الذي تعهدهما بالرعاية وقام بتربيتهما. ويوجد حاليا على تلة كابيتوليني بروما تمثال «ذئبة كابيتلونيا» ويظهر تحتها الطفلان التوأمان اللذان يرضعان من أثدائها.
وتقول الحكاية إن الشقيقين التوأمين قررا تشييد المدينة، ولكن نشأ بينهما خلاف عميق، أسفر عن قتل رومولوس لأخيه أموليوس، بسبب دخوله في نوبة ضحك شديد على أسوار المدينة المرتفعة، الأمر الذي أغضب رومولوس وعده استهزاء بالمدينة، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، ليتفرد وحده بالهيمنة والسلطة عليها.
أما روما الحالية فهي العاصمة للجمهورية الإيطالية التي تعد إحدى دول أوروبا الغربية. يصف الدكتور حسين الشيخ إيطاليا في كتابه (دراسات في حضارة اليونان والإغريق) بأنها «عبارة عن شبه جزيرة تمتد من جنوب خليج جنوا إلى الجنوب الشرقي لمسافة تزيد على خمسمائة ميل. وفي الطرف الجنوبي الغربي منها يوجد مضيق مسينا الذي يفصل إيطاليا عن جزيرة صقلية. وتمتد جبال الابنين بطول إيطاليا، ويصل ارتفاعها في بعض المناطق إلى ما يزيد على ثمانية آلاف قدم».
الرحلة من مطار مسقط إلى روما طويلة ومتعبة، لاسيما في عدم وجود خطوط طيران مباشرة بين البلدين. ورغم ما كنت أشعر به من الإعياء والتعب الشديدين بعد رحلة ليلية مرهقة، لم أستسلم لمشاعر العجز والتكاسل. تركت حقائبي في النزل وتسللت فورا إلى معترك المدينة.
منذ الوهلة الأولى تدرك أنك في مدينة كونية عابرة للأجناس والأطياف والثقافات والحدود. ستشاهد الخليط البشري المتنوع فور ولوجك للشارع. فهناك السحنات والألوان واللغات والرطانات والمأكولات القادمة من مختلف بقاع العالم، العربية والآسيوية والأفريقية والغربية.
هنا يمتزج التاريخ العظيم بالحداثة في أعلى صورها. هنا المحلات الفاخرة التي تقدم أشهر الماركات التجارية العالمية. إلى جانب باعة البسطات والباعة المتجولين الذين يعرضون السلع البسيطة والمشغولات اليدوية المجلوبة من قارات الدنيا. هنا المثقفون والأدباء والمفكرون. وهنا الصعاليك والسكارى والمستولين وأنصاف المجانين. هنا المسارح ودور الأوبرا العملاقة. وهنا العازفون المتجولون الذين يكسبون قوت يومهم من العزف في الطرقات وبجوار النصب العملاقة والأماكن السياحية والفنادق.
المقاهي والمطاعم تملأ الشوارع والأرصفة والردهات. وكثيرا ما تكون لها أقسام داخلية وأخرى خارجية مطلة على واجهات الشوارع والميادين والساحات التي تكتظ بها روما. ورغم كثرة المطاعم والمقاهي، إلا أنها تكون مزدحمة طوال الوقت، ويتعين على المرء، في الكثير من الأحيان، الانتظار لبعض الوقت حتى يجد مقعدا للجلوس. كما أن الأسعار تتفاوت من مكان لآخر، حسب موقع المحل وقربه من المزارات السياحية الشهيرة والمواقع التي تشهد ازدحاما كبيرا.
جولتي الأولى، التي لم أخطط لها، انتهت إلى جوار مبنى تاريخي عظيم. والمتجول في روما سيمر حتما بجوار الكثير من كنوز التاريخ التي تحتفظ بها هذه المدينة. سألت عن هذا المبنى فقيل لي إنه البانثيون الأسطوري!
ألقيت عليه نظرة عابرة متعبة، ثم قفلت عائدا إلى الفندق، لأبدأ جولتي القادمة من حيث انتهت .. من البانثيون أو معبد الآلهة.
*****
مر يوم الجمعة 18 أكتوبر بجولة قصيرة فقط، نظرا للارتباط الرسمي والاستعدادات لحضور حفل توزيع جوائز توليولا للشعر العالمي. لذا فقد كانت الجولة الثانية في المدينة يوم السبت التالي 19 أكتوبر.
كانت رفيقتي في هذه الجولة الشاعرة الصربية مايا هيرمان التي كانت تعرف المدينة جيدا، وتقيم في فندق قريب من البانثيون. إذن ستبدأ الجولة بدخول المبنى. وها نحن نقطع الساحة أمام المبنى بنافورتها وأرضيتها المرصوفة بحجر الجرانيت. نتأمل مدخله المهيب وأعمدته الضخمة. الناس يتدافعون كالمواج دخولا وخروجا. الجميع يلتقط الصور التذكارية مشدودا بهيبة المعلم الأثري الذي يعد أقدم مبنى بقبة مازال قائما في روما، وهو في حالة سليمة.
الاعتقاد السائد أن المهندس المعماري الذي أبدع هذا المعلم الخالد هو المهندس أبولودروس الدمشقي في عهد الإمبراطور تراجان أبولودروس. يتميز المبنى بزخارفه البديعة ومحيطه الدائري الواسع، ويتوسطه من الداخل محرابان يضمان تماثيل لأغسطس وقيصر وأجريبا. ويتكون المبنى كما يقول الدكتور حسين الشيخ في كتابه آنف الذكر: «من غرفة ضخمة مستديرة، تحمل فورقها قبة، ورواقا به ثلاثة صفوف من الأعمدة، كل صف به ثمانية أعمدة كورنثية. ويرجع تاريخه إلى بداية عصر هارديان». وقد تعرض المبنى عبر تاريخه للحريق والضرر وأعيد بناؤه أكثر من مرة.
نخرج من البانثيون محملين بالدهشة والشغف لاكتشاف المزيد من كنوز هذه المدينة التي نحتت على مهل، حيث التاريخ ينبض في كل بقعة من زواياها. أحدد أنا وجهة المسير. إنني أتوق لرؤية مبنى الكولوسيوم. كثيرا ما شهادته في الصور والأفلام، وبقي عالقا في مخيلتي. وها أنا على بعد خطوات من مشاهدته. صديقتي الشاعرة مايا تعرف المدينة جيدا. لذا قررنا السير على الأقدام لرؤية كل ما يمكن أن تقع عليه أعيننا على مهل.
نواصل المسير عبر الطرقات والأزقة. نصل إلى شارع فيادل كورسو، الذي يعد أحد أهم الشوارع التجارية الكبرى في المدينة. تطل في آخره ساحة فينسيا، ومن خلفها ينتصب نصب النصر التذكاري، ببنائه الأبيض المهيب المبني من صخر الكلس الأبيض، ويسمى بالإيطالية (الفيتوريانو)، وقد شيد بمناسبة اتحاد إيطاليا، واستغرق بناؤه ستة وعشرين عاما، خلال الفترة الواقعة بين عامي 1885 و1911م. يمر الزائر للمبنى عبر فسحة واسعة يتوسطها سلم كبير ليصل إلى مدخل المبنى، الذي يضم تمثال الجندي المجهول إلى جانب التمثال الضخم للملك فيتوريو إميانويلي الثاني. كما يمكن مشاهدة تماثيل النصر الشاهقة على الأعمدة الستة عشر العلوية للمبنى.
نواصل المسير عبر أطلال روما القديمة. نمر بالمنتدى الروماني الذي يقع في قلب روما، والذي كان يضم أبنية ومقرات حكومية خلال تلك العهود الغابرة. الشارع مليء بمنحوتات الأبطال وتماثيل الفرسان الذين تحتفظ بهم ذاكرة التاريخ الروماني.
في طرف الشارع يلوح مبنى الكلوسيوم المهيب. علينا أن نواصل المسير إذن. لا أكاد أصدق أن ما يفصلني عن مشاهدة هذا الصرح العظيم ليس سوى بضع دقائق وقليل من الخطوات الجادة. وها نحن نقف أمام التاريخ بعنفوانه وانتصاراته وخيلائه ودمائه أيضا.
هذا المدرج الذي يقف أمامنا كان يوما يضج بالحياة قرابة خمس مائة عام. ويتجاوز عمره ألفي عام. يحتوي على ثمانية مدرجات هائلة، وهو شاهد على عبقرية المعمار الروماني وتقدمه. هنا كانت تقام الحفلات والمناسبات الوطنية الكبيرة، وعروض الألعاب والمسرحيات الكلاسيكية وتمثيل المعارك والحروب والانتصارات وحفلات الترفيه والمصارعة مع الوحوش إلى جانب إعدام السجناء والمارقين.
نلقي نظرة على قوس قسطنطين الذي يطل على طريق تريومفاليس التي كان يسلكها القادة والأباطرة عندما يعودون منتصرين من الحروب. نستعيد الأنفاس ثم نواصل المشي والحديث عبر هضبة بالاتين حيث توقف بينا المسير لنقرر العودة من حيث أتينا. أنا متعب جدا وجائع. ومايا تستعد للمغادرة إلى المطار، للعودة إلى بلادها. نعود أدراجنا إلى ساحة البانثيون، لنأخذ استراحة قصيرة قبل أن نفترق، لأكمل الجولة غدا بمفردي.
أتذكر دهشة مايا عندما توقفت في طريق عودتنا أمام متجر عمره خمسمائة عام. إنه المكان الذي ولدت فيه شخصية بينوكيو الخيالية المستوحاة من رواية (مغامرات بينوكيو) للإيطلي كارولو كولودي عام 1880م، وهي دمية مصنوعة من أخشاب الصنوبر الذهبية، مبتسمة وذات أنف طويل. وقد حظيت الرواية بشهرة واسعة وترجمت لأكثر لغات العالم ونقلت عبر السينما والدراما الرسوم المتحركة.
*****
اليوم هو يوم الأحد الموافق 20 أكتوبر 2019م، وهو آخر يوم في زيارتي هذه لروما. موعد إقلاع الطائرة الساعة العاشرة مساء. إذن هي الفرصة الذهبية لزيارة الفاتيكان وحضور طقوس الأحد.
سآخذ الحافلة التي تتوقف في المحطة بالقرب من مقر إقامتي. وما هي إلا دقائق معدودة حتى تقف بنا الحافلة في محطة الفاتيكان. إنني أقف الآن في إحدى أصغر دول العالم من حيث المساحة والسكان، ولكنها رغم صغرها تقود روحيا أكثر من مليار مسيحي في العالم بأسره. خطوات قليلة توصلني إلى نقطة تفتيش الدخول إلى ساحة القديس بطرس. لا أحد يسأل هنا عن هويتي أو ديني. الناس تتوافد على المكان الذي بدأ يغص بالحضور كلما اقترب موعد ظهور البابا من شرفته في القصر الرسولي الذي يطل على الحشود في الساحة المرصوفة بالبلاط الغرانيتي الأسود، وتتوسطها مسلة كاليغولا المجلوبة من مصر، ويحملها أربعة أسود من البرونز، إلى جانب نافورتي ماردينو وفونتانا. ويحيط بهذه الساحة القصر الرسولي وكاتيدرائية القديس بطرس، وغيرها من العالم ذات البعد الروحي التي تحتوي على بعض أعظم كنوز العالم من الفنون والأسرار.
يطل البابا في تمام الساعة الثانية عشرة ظهرا. يتلو مواعظه ويرتل صلواته لمدة ما يقارب عشر دقائق. ثم ينصرف ويسدل الستار، ليغادر الجميع وتخلو الساحة بعد وقت قليل.
أخرج من الساحة مع الجموع المتدفقة بانتظام. أسير في شارع الفاتيكان الفسيح الذي يعبر بي بمحاذاة إحدى الحدائق، عروجا إلى قلعة سانت أنجلو المهيبة مطلة على نهر التيبر العتيق.
قلعة سانت أنجلو، أو ضريح الإمبراطور هادريان، بناه في حياته ليضم رفاته بعد الموت. في هذا الضريح توجد غرفة الخزنة التي تضم جرة تحتوي على رماد أجساد عدد كبير من الأباطرة الرومان. وقد استخدمت في فترة معينة قلعة عسكرية ثم تحولت الآن إلى متحف كبير يؤمه آلاف السياح يوميا. وينتصب على قبة القلعة تمثال الملاك الذي أخذت القلعة منه اسمها الجديد.
أخرج الآن من دولة الفاتيكان عائدا إلى روما. ما زال هناك الكثير لمشاهدته وزيارته في هذه المدينة الأسطورية المنقوشة بالتاريخ والفن. إنك تكاد تسمع هنا سنابك خيول الفرسان وابتهالات القديسين وتلمح طيوف الأباطرة في كل مكان. ولكن الوقت يضيق وعلي جمع حقائبي للحاق بالطائرة العائدة إلى مسقط القلب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق