مقالات

مبارك العامري .. العصي عن الغياب.. وداعا…

في العام الجديد 

دعوا قدم الحب 

تدلف أولاً 

تعال أيها الفرح 

دعنا نراك 

ففي سلة العام الجديد 

ثمة أزهار طرية .. 

لكن العام الجديد خالف كل ذلك. لم يأتي بالفرح ولم يدلف الحب من أبوابه، وسلته لم تكن بها أزهار طرية .. كان هذا العام بحق عام الكوارث والأزمات عام الوجع ،عام الفقد والحزن .. رحلوا أحبة كثر ولا زال العام يحصد أرواح البشر بمنجله المدمر. 

في عام  كثرت فيه الكوارث والنحيب وتزايدت فيه الثكلى ، في عام لا ينبي إلا بمزيد من الانكسار والانحطاط .. عام تتقاذف فيه أرواح البشر وتترامى أمام الأنظار .. في زمن الكورونا لا صوت يعلو فوق هذا الوباء … 

 لكن مبارك العامري ذلك الناسك الصامت الكبير الذي يرى العالم على حقيقته ولا يبوح عن ذلك إلا لنفسه … من وجع الكارثة والالم كان يدرك بأن العام الجديد لا يحمل له إلا المعاناة والألم. فيدخل العام الجديد كما يقول :

فارغ اليدين 

إلا من إضمامة حب 

وآهة ألم .. 

في مساء ذلك اليوم وكنت منذ البداية ومنذ الصباح صحيت على انقباض وتوتر عصبي لا مثيل له لا أدري من أين يأتي ؟ من أي ركن من أركان النفس القصية ينبعث ذلك الأسى والحزن الذي تمر غيومه وعواصفه ورعوده مخلفة في النفس وجع وحزن دفين. 

في المساء بدأت تلك السحابة في الانقشاع شيئا فشيء عندما رن الهاتف النقال وكان على الخط المقابل الأخت الاديبة شريف التوبي وهي تخبرني عن خبر يتداول عن رحيل صديقنا مبارك العامري. تأكد الخبر بسرعة. وكانت صدمة أصابت كل من عرف مبارك العامري. 

هكذا بصمت يشيح بوجهه للعالم المنشغل بأزماته وكوارثه ويخط طريقه بنفسه. وكما اتخذ الصمت مملكته الاثيرة ، يرحل في صمت مدوي .. بينما العالم كله ييمم صوب كورونا ويشحذ كل أسلحته لمواجهته، يفضل مبارك العامري أن ينسل خفيفا كالنسمة الصباحية وكزهرة يانعة ستظل مزهرة للأبد.  وهو الذي استشرق رحيله في هذه السنة في ( العام الجديد ) وكان يدرك بأن سفينة أيامه على وشك الوصول إلى ساحلها .. كما لو كان عقد اتفاق مع العام الجديد، لكنه كما قال لا يدرك أين ستأخذه سفينة العام الجديد، إلى أي بر أو شاطئ ستنتهي رحلته. 

لا أدري إلى 

أي شاطئ

 ستجنح بي

 سفينة العام 

الجديد .. 

 

وهكذا رحل …

كأنه ذهب برهة ويعود .. كما يعودنا دائما لا يغيب إلا ليعود .. لا يختفي إلا ويظهر … 

عندما تراه جالس في مكانا ما .. مقهى أو معرض أو ندوة أو مهرجان.. تراه محاطا بدفئ وحميمية من الأصدقاء والمحبين ومن عشاق الكلمة. ينصح هذا ويدل هذا ويربت على كتف كاتب شاب ويشجعه .. لا تسأله عن كتاب إلا ويبحر في صفحاته شارحا متحدثا عنه .. متحفزا وفرحا وسعيدا عندما يسمع بأن عمل أدبي صدر لأحد الكتاب العمانيين وخصوصا الشباب من الجيل الحديد. 

ظل لسنوات يعاني المرض والألم والحسرة ، ربما تصل به بعض الأحيان إلى الشعور بالأهمام والجحود. أعرف بأننا معا طرقنا عدة أبواب نلتمس العلاج، كانت الوعود كبيرة والأمل يزدهر، لكن وعود كلها تذهب أدراج الرياح .. بمرارة كان ينتظر يد حانية تأتي إليه وتنتشله من براثن المرض والعوز. كانت نفسه كريمة وعزيزة. لما ألح عليه أن نفعل شيء أو نكلم جهة معينة لتتكفل بعلاجه.. كان يلوذ بصمت ويشوح وجهه عني ويلوذ في صمت كأنه يشاهد في البعيد شيء لا يريد أن يقوله.  فقط.. أسمعه يهمس بكلمات خفيفة وكأنه يحدث نفسه، ولا يريد أن يسمعه أحدا.. يردد ( هم يعرفوني جيدا ويشاهدوني .. إذا أرادوا … ) لكن رغم تلك المعاناة والتوجع كان محب الحياة شغوفا بها، يسيطر عليه التفاؤل والأمل، ومن حلكة تلك الليالي يخرج أكثر قوة. 

كانت ليلة شاقة

حقاً

لكني خرجت

من عتباتها

أكثر شغفاً

بالحياة

والحب

والجمال ..

في المغرب حيث تقاطعت طرقنا ودروبنا ، عرفته عاشقا للحياة والفرح لا تهدى نفسه ولا تستكين ، بشغف ولهفة جمعتنا مسالك وحكايات. فكتب عن شارع في الرباط وعن المدن الجميلة التي يعشق. .. نتحدث عن المدن التي يحب ،، عن الرباط ومراكش وطنجة وبيروت وبغداد والقاهرة، ويتذكر دمشق بحنين وشوق. وفي مقهى فندق الشام ومقهى دمشق العتيقة يتذكر جلاسه ، الماغوط وغيره من الكتاب، وفي الرباط يحدثك عن محمد شكري ونزواته. شخصيات كثيرة جالس.  

أذكر مرة جمعتني مع الراحل مبارك العامري، أعتقد كان ذلك في الثمانينات، والسبب قصاصة ورق لا أدري كيف أوصلتها له، قرأها ومباشرة اتصلت بي ومنها دام واستمر تواصلنا إلى آخر يوم في حياته. وقبل ذلك كنت أقرأ له في مجلة الغدير وبعض الصحف والمجلات. 

من مجلة العقيدة حيث شكلت بداياته حيث شق طريقه نحو الحرف والكلمة بشغف المحب العاشق ، فكانت له اسهامات كثيرة في الصحافة لا تذكر الصحافة والأدب في عُمان إلا وكان أسمه حاضرا وبقوة. أتى إلى مجلة العين الساهرة. وهناك التقيت به وجمعتنا الكثير من الجلسات واللقاءات. ساهم كعادته في تطوير العمل الإعلامي والصحفي في شرطة عُمان السلطانية، وكان مبارك العامري المعادلة التي يقف أمامها كل عمل خطابي أو لغوي أو إعلامي. كان بحق مدرسة كبيرة نهل منها الكثير وله الفضل في بروز الكثير من الأسماء على المستوى الوطني. لا يبخل بمعلومة ولا يكل ولا يمل، أتذكره عندما اقتراب صدور مجلة (العين الساهرة) كان يقضي يومه في المطبعة إلى ساعات متأخرة من الليل، وعندما تصدر المجلة، يكون غاية في الفرح والسرور، لدرجة أنه يكافئ نفسه بخرجة مسائية واحتفالية نتجمع كلنا مع مجموعة من الأصدقاء. أتذكره عندما يشعر بثقل العمل وشدة الإرهاق يتصل بي -حيث مكتبي قريب منه ولا يقول إلا كلمة واحدة ( خرجنا ) فأرد عليه .. يالله خرجنا.  

صاحب مبدأ وكلمه، أتذكره رفض الكثير من الاغراءات والامتيازات فقط لأن ذلك يخالف ما آمن به، وظل وفياً لقيمه ومبادئه وروحه النقية.  

 يتوجع آلما عندما يسمع عن تلك الكوارث التي تداهم الوطن العربي وتتربص به من كل صوب .. كان بالفعل يتألم، وكان ألمه يتسع لكل الكون والإنسانية ومحبيه، لدرجة أنه ينسى همومه وآلمه ، لكنه لا ينسى تلك الهموم والاوجاع حتى وهو على فراش المرض. كتب مرة وهو راقدا بقسم الطوارئ بالمستشفى السلطاني:

أتألم لأجل الإنسانية 

لأجل وطني 

لأجل من أحببنا 

ونحب

أكثر من تألمي 

لألمي .. 

وعُمان الوطن ظلت المعادلة الصعبة في نفس مبارك العامري… دون أن يشعروا به. كان يشبه عُمان .. جبالها وسهولها شواطئها وصحراءها قلاعها وحصونها رياحها وعواصفها مطرها وأوديتها عيونها الجارية وفضاءها مكنونها ومعدنها الأصيل ، عُمان في قلبه الكبير وفرحه وسروره .. في عزلته ومعاناته وألمه وفي صمته وكبرياءه، في كرمه وعزته وشموخه .. في حياده وطيبته وحنينه. كان يحن لوطنه بشكل عجيب .. يحب عُمان الوطن الذي يراه بشكل آخر ويتمنى له كل الخير .. يقول في قصيدة له ..

اسمها عُمان

وهذا يكفي

لا تقلدها وساماً 

على الصدر ..

تأخذنا الجغرافيا 

إلى أبعد نقطه فيها 

نجد في حضنك الوثير

مأوي لالتباساتنا 

ومهداً آمناً

لطفولتنا المتشظية ..

عُمان أمانة في أعناقكم 

أيها الحقيقيون 

فلا تتركوها لقمة سايغةً

في أيدي الطارئين 

مبارك العامري المتصالح مع نفسه ومع ذاته ومع إنسانيته، المتصالح مع نصه وكتابته حتى أنك لا تستطيع قراءة نص له إلا وتراه بين حروفه ، وجزء منه .. سيبقى مبارك العامري أيقونة الادب العماني والعربي بكل تجلياته عصي عن الغياب والنسيان .. ستظل روحك ترفرف علينا من فوق ….. 

في يوم كئيب حزين يخيم على مسقط وعلى العالم. في ساعات المساء الأولى من يوم الأحد العاشر من شعبان 1414 ه. الموافق الخامس من أبريل 2020م. رحل العزيز جدا مبارك العامري عن عالمنا إلى جوار ربه، وظل وفياً مخلصا نقيا أبيض السريرة .. أسلم روحه في إغفاءة أبدية .. كأنه سيغفو على حلم، كما قال :

سأغفو على حلم 

محتضناً عُمان ..

وهناك حيث تشتهي وحيث تؤرق نفسك بالحب والسرور ستكون حيث تريد بعيدا عن هذا العالم الكارثي المليء بالأوجاع والفقد .. في تلك المدن التي يعمها الفرح والسعادة ويلفها الحب ستكون، هناك حيث قلت يوما :

خُذوني إلى ساحات المدن البهية

حيث مشاتل الحرية 

خضراء خضراء 

وأعراس الحب 

يافعة ندية كأزهار فجر جديد ..

خذوني لأسترد أملي المفقود 

ضوء أناي 

الغافي في الأعماق 

وصوتي المرهون 

لسلالات الاسلاف 

ونخب عافيتي ..

مبارك العامري أيها الراحل العظيم .. الرحمة والمغفرة لك، نم بهدوء ولروحك السكينة والخلود. لا نقول لك وداعا.. فأنت كما عرفناك عصي على الرحيل وعصي عن الغياب، ستظل حاضرا خالدا فينا.  

 

بدر الشيدي 

مسقط

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق