مقالات

كبرت فجأة

حمدة الشامسية 

قبيل سنوات كنت أقوم بدفع قيمة مشترياتي في إحد محلات الهايبرماركت، مد المحاسب الشاب الذي بدا لي في منتصف العشرينات من عمره بطاقتي ومعها فاتورة الشراء قائلا: تفضلي الوالدة! التفت خلفي لأتبين (الوالدة) التي يمد لها ذلك الشاب ببطاقتي، ذهلت و أنا أكتشف أن لا أحد غيري هناك، و(الوالدة) التي قصدها ذلك الشاب ليس إلا أنا.
هرعت مذعورة لسيارتي، وتأملت ملامحي في المرآة، بحثا عن الذي أعطى ذلك الشاب الانطباع بأنني يمكن أن أكون في عمر والدته، و كأنني أرى ملامحي للمرة الأولى، وهالني ما رأيت، ولكن كيف؟! و ذكرى امتحانات الثانوية العامة حاضرة بتفاصيلها في ذاكرتي، كانت منذ سنوات قليلة مضت، خمس سنوات ربما أو عشر!! لا يمكن أن تكون أكثر من ذلك.
برودة ماء فلج السنينة الذي كنت أغطس فيه بملابسي اتقاء حر الصيف قبل العودة جريا مع أقراني للبيت، ما زلت أستشعرها و كأنها البارحة، وريحة (العيش البشاور المشخول) الذي كان ينبعث من بيوت الحارة يستقبلني وأنا أقطع سكيك الحارة جريا، ما زلت أشمها، كان ذلك منذ قليل.
متى مرت كل هذه العقود، ومتى كبرت، سيل من الأسئلة انهمر في تلك اللحظة، بعد ذلك أصبحت ألاحظ أكثر أن اسمي كان يستبدل بالوالدة أو (خالتي).
شخصيا ليست لدي مشكلة في التقدم في العمر، أومن بأن كل مرحلة لها جمالها، و يجب أن تعاش بتفاصيلها، كل سنة أضيفت إلى عمري زادتني حكمة، وقد عشت حياة ثرية بكل ما تعني كلمة ثراء من معنى، و بدأت أتأقلم مع (الوالدة) و أستمتع بالمزايا التي تأتي معها، فقد سهلت علي كثيرًا من الأمور، أصبحت أقدم في الطوابير، وحتى الشرطي يتراجع عن مخالفتي ما إن أنزل زجاج السيارة و يلاحظ علامات التقدم في السن.
قبل هذا كثيرا ما كان مشهد المتصابين يثير اهتمامي، أو بالأحرى استنكاري، استغرب كيف لا يعي هؤلاء أنهم تقدموا في السن، خاصة تلك الفئة التي تبالغ بالتمسك بمظاهر الصبا، من ملابس وتصرفات، اليوم و أنا على أعتاب (الشيخوخة) بدأت نظرتي تتحول من الاستنكار للتفهم، فالعمر يركض بنا بشكل جنوني، ويبدو أن سرعته تزداد جنونا بعد الأربعين، وفعلا تشغلنا الحياة عن الانتباه لتلك التجاعيد التي تبدأ بالزحف ببطء على جلودنا، وعلامات أخرى للسن لا نلقي لها بالا لأنها تتسلل ببطء أحيانا، وربما نلاحظها لكن نتعمد تجاهلها لأن الاعتراف بها مؤلم.
و أصبحت أكثر تعاطفا مع المتصابين، فقد أدركت أنهم قد لا يكونون وصلوا للإدراك الذي وصلت له، في المقابل طبعا هناك من يشيب قبل الشيب، و تراه في الأربعين يتصرف وكأنه في السبعين من عمره، يهمل مظهره، و يتوقف طموحه، ويستسلم للروتين، و زحف أمراض العصر على جسده الشاب نتيجة اقتناعه بأن هذه الأمراض حتمية مع التقدم في العمر ربما، و تنطفئ اللمعة من عينيه، رويدا رويدا.
ختامًا رجائي لك في المرة القادمة عندما ترى متصابيا تذكر بأن في داخله قلب طفل صغيرًا لم يشب بعد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق