السياحي

هامبورج حيث «طاحونة البن جزء من طفولتها»

جئت إلى هامبورج ومعي دلة القهوة المشعشعة بهيام الندامى وحنَّاء المواقد وحرائق المقلاة وغرغرة الغليان. 
وأينما شممت رائحة القهوة تتبَّعتُ رجولة المكان لأشهد لسعة الرشفة الأولى ولأحضر النهار وهو يتضاحك في بلورات رغوة البن وأنا أردد بيت نزار:
«طاحونة البن جزء من طفولتنا
فكيف أنسى وعطر الهيل فواح».

نبش رماد المواقد 
حمود بن سالم السيابي 

هاهي جارة وادي الألبا والأليستر تشاطر بلادنا عشق الرحيق الأسود  واحتساء المذاق المر وإنْ اختفت من حاراتها السبلات.
وها هي البلدة الغائرة في أوروبيتها تقبل على القهوة التي نعدها مشروبا عربيا بعد أن زرعناها في اليمن منذ القدم وأدخلنا سمرتها ورائحتها سبلاتنا وقصائدنا وأغانينا ومناسباتنا قبل أن نعرف أن الحبشة مصدر الصهباء الحلال.
ولقد صحبت معي في أولى أسفاري إلى هامبورج القهوة والدلة لكي أعاقرها طوال النهار، ولا أغفو إلا على آخر فناجينها قبل أن أعرف هامبورج المجنونة مثلي بهذه الصهباء، والتي تقيم بين مقهى ومقهى مائة تعريشة لنداء الدلال وحداء الفناجين، فالأتراك سبقوني إليها بعشرات السنين، بعد أن جاءوها بدلالهم ومقاليهم وقهوتهم وأراجيلهم ليقتسموا المكان مع الألمان ولينقلوا إلى العاصمة الهاينزية إرث السلاطين.
لقد شكلت إمبراطوريتهم العثمانية الجسر الأخضر الذي عبرته حبيبات القهوة من مزارعها بأثيوبيا إلى مواقد قصور القسطنطينية وصولا إلى بلاط الرايخ الألماني.
وأينما يممت وجهي شطر هامبورج حاصرتني حبيبات هذه الأثيوبية السمراء التي شكلت سلوك العالم وأجبرت الناس لأن يستفتحوا النهارات بالتحلق حول الجمر لتتحرق الأفواه وتتفصَّد الدلال عرقا.
كان الوقت صيفا حين دلفت البلدة لأول مرة، وكانت مقاهي هامبورج قد أخرجت كراسيها وطاولاتها من مخادع الشتاء إلى حيوية الصيف والشباب لتصدق فيها مقولة الشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس «في كل حاسة من الحواس ثمة رائحة لِلَّوز».
وكلما حملت الريح عبق صنف من أصناف القهوة فسَّرته طبقيا لفئة من الفئات.
فإن حملت الريح عبق القهوة السيلانية الصفراء المشعشعة بالهيل قلتُ لعلها قهوة سبلة والي المدينة، وإن خالطها البندق قلت لعل مصدرها بيوت الأثرياء، وإن نثرت الريح احتراقها ومرارتها سارعت بتصنيفها بقهوة العشاق الذين تلسعهم انتظارات المواعيد.
أسأل سجلات شبايشرشتادت عن جذور القهوة مع هامبورج فتجيبني السجلات بأنها تعود إلى منتصف القرن السادس عشر وأنها وصلتها بالتزامن مع فوران دلال هذه السمراء في مواقد القارة الأوروبية.
وأقلب دفاتر بحارة ميناء هامبورج فأقف على أنهم  احتسوا أكواب الرحيق المر وكسروا به دوار البحر وكتبت قهقهاتهم نشوة الوصول لليابسة في أول مقهى افتتح في هامبورج عام ١٦٧٧ وأنه تجاور و لأول مرة في البلدة الموصولة بالبلطيق وبحر الشمال المقهى الذي يؤمه الصفوة من النواخذة والشعراء والفنانين مع الحانة التي تصطخب بمن هبَّ ودبَّ .
ولأن البيوت تؤتى من أبوابها فقد دنوتُ من كارل فريدريتش بيترسن أول عمدة منتخب لهامبورج أسأله عن سبلته وقهوته وأفتش في دفاتر أكثر من قرنين عن أجمل مقاهي المكان.
إلا أن كارل فريدريتش بيترسن ترك مكتبه الدافئ وكرسيه الزوار ليشمخ تحت مطر الشتاء وحر الصيف فوق قاعدة خرسانية ليراه الجميع ويصافحه الجميع.
أقترب من التمثال الذي أقامته البلدية لهذا البرلماني الهامبورجي الدارس للقانون في هايدلبرج والذي أهدى هامبورج ثلاثة محافظين من عائلته بدءا به ومرورا بحفيده كارل وليم بيترسن وانتهاء بحفيده رودلف بيترسن فأبدو قصيرا جدا جدا جدا فخشيت أن تتوه أسئلتي ولا تصلني إجاباته.
أذكر أن الزمن كان صيفا يوم وقفت على يساره وكانت الحروف البرونزية التي رصع بها اسم المحافظ  على القاعدة الخرسانية باردة وكأنها كتبت بالثلج بعد ليلة اضطرب فيها الجو فانتقل فجأة من لهب الصيف إلى رعشة الشتاء لدرجة أن هامبورج سارعت بفتح خزائنها لتستعيد أسمال البرد ما يجعل التساؤل عن فنجان بلسعة الجمر له ما يبرره.
كان العمدة أو الوالي صامتا كالبرونز الذي تعاقب عليه الصدأ والبرد ودخان الحروب فعرفت من حكايات البلدية أنه يشربها في مقهى الراثهاوس في الدور الأرضي من الطرف الشرقي للمبنى كما أنه يتردد على مقهى الدور الثالث لقاعة المآدب بالبلدية في النسخة الأولى للمبنى القديم.
إلا أن السؤال بقي يلح عن أقدم مقهى في المدينة لكي أقترب أكثر من هذه القشرية التي «تفضح بكر المدام وتشنف لي الفناجينا» كما يقول الشيخ السمائلي راشد بن عزيز الخصيبي فوجدت الإجابة في سيرة المحافظ الذي جلس على كرسي العمودية بعد كارل فريدريتش بيترسن فاقترن اسم هذا المحافظ بافتتاح أقدم مقاهى هامبورج والذي ما يزال على حاله، وما تزال هامبورج تحتسي فيه مع الفناجين رحيق أزمنته وتتنفس عطر  نداماه إنه المحافظ يوحنا جورج مونكبارج القادم كسلفه من حقل القانون ومن نفس جامعة هايدلبرج.
أدخل مقهى «مونكبارج برن» الواقع في منتصف شارع منكبييرج أو كما ينطقه الهامبورجيون «منكبيك شتراسيه» ومعي مائة عام من أوشحة المواقد على الدلال وحسيس الجمر على الأكواب.
ما يزال مبنى المقهى كما هو منذ أن انزرع في الشارع الذي يحمل اسم المحافظ الراحل ببنائه الروماني ومسلته الأشبه بالمسلات الفرعونية برسومها ونقوشها الطافحة بمنحوتات  لوجوه رجالات هامبورج وأعلامها.  تنتهي مسلة  «مونكبارج برن» بنحت لوجه المحافظ يوحنا جورج مونكبارج تخليدا له ليبدو أعلى من تمثال سلفه.
وعلى الندامى وهم يدخلون المقهى أوسبلة الأيام الخوالي أن يرفعوا القبعات لمجد المحافظ، بينما وضع مصمم المبنى في نهاية المسلة تمثالا لأسد متوثب.
أما في أسفل المسلة فتتسع القاعدة الخرسانية لتجمع تمثالين يونانيين كبيرين لرجل على يسار المسلة وامرأة على يمينها وقد تحللا من الألبسة.
وينتهي التكوين الحجري بفسقية ماء محاطة بجدول بنصف دائرة ليجلس عليه الناس.
وبين هذا التكوين الهندسي ومرافق المقهى تقع باحة انتشرت فوقها الكراسي والطاولات كتعريشة لقهوة الصيف بينما الحمام يرفرف ليلتقط ما يجود به الندامى من قطع البسكويت ونثار الكعك.
أما المرافق الداخلية للمبنى فتتكون من طابقين، ويحتل المطبخ جزءا من تكوين الطابق الأول بينما خصص الطابق الثاني لندامى القهوة الذين يفضلون شربها بعيدا عن الصخب وهدير مكائن «النبرسو» وغيرها من أجهزة تحضير المشروبات الساخنة والمثلجة.
لقد زحف الأمريكيون على هذا المقهى الحالم ليختطفوا إرث الفايكنج وثقافة النواخذة الألمان وكأنهم لم يكتفوا بدخول دباباتهم المنتصرة شارع منكبيك شتراسيه في خواتيم الحرب العالمية الثانية فتمادوا في إذلالهم للروح الألمانية وداسوا على الكبرياء.
وهاهي «ستاربكس» الأمريكية تكنس دلال وأباريق هامبورج وتكسر كل فناجينها وتطفئ المواقد لتعلق الحورية الدانماركية الخضراء شعار مقاهي ستاربكس بين أعمدة هرقل في هذه الأيقونة الهامبورجية وليكون مونكبارج برن بين ١٦ ألف فرع لستاربكس حول العالم.
أجلس مع الجالسين في الأجواء التي تفرضها سلسلة ستاربكس متلفعا البرودة ومعطفي.
وكما في قصيدة نزار أخرجت من معطفي الجريدة ولكنني لم أتناول مثله السكر من أمام الهائمات في المكان، ولم أذوِّب في الفنجان قطعتين كما ذوَّب، ولم أتابع ما اعترى الجالسات من الشوق كما تابع، بل جئت وحيدا لأستعيد عمر المبنى وتاريخ القهوة، وعند آخر رشفة للثمالات سأحمل المعطف وأهيم وحيدا في الزحام.
ولم تكتف ستاربكس بالسيطرة على أيقونة المقاهي الألمانية بل تمددت لتحتل المقهى الآخر المطل على ميدان «غانس ماركت» لتفرض ثقافتها على مرتادي الميدان، ولتكون خلطتها هي القصيدة التي على الندامى احتساءها مع الفناجين وهم يتابعون الغيمات المسافرة فوق رأس الشاعر الهامبورجي الكبير «غوتهولد أفرايم ليسنغ» ويتنقلون بين الرغوة والثمالات والمطر المتسكب على أناقة «غوتهولد أفرايم ليسنغ».
كما حاصرت «ستاربكس» هامبورج بفرع ثالث ملاصق لمبنى فندق «الفيرمونت». مستفتتحة طريق نيورر الممتد إلى مبنى الكازينو ومحطة ديمتور والحديقة النباتية حيث أغلقت البلدية هذا الشارع عن حركة السيارات ليبقى تعريشة لمقاهي الهواء الطلق وتقيم فيه هامبورج سوقها السنوي من الأنتيكات.
وبين هذه الأفرع الثلاثة لستاربكس هناك العشرات من أفرع السلسلة الأمريكية في نواحي هامبورج مثل «ونتاهود» و»ألتونا» و»السان باولي» و» الشتايندم» و» أبندورف».
وتتيح هامبورج جلسة قهوة حالمة عند نوافير الحديقة النباتية  «بلانتن أون بلومن» حيث ينعكس أطول برج للإتصالات على صفحات الفناجين  فيعطي للقهوة شموخا بينما يصطخب المكان برائحة الدراق وتزاحم الزهر وحفيف الشجر والبط المتعب والنوافير الملونة.
وقبل عام ونصف العام من كتابة هذه السطور أضافت هامبورج شرفة سماوية أخرى لبحيرة أليستر لتنتقل بهامبورج من الشمال الألماني إلى ضفاف بحيرات سويسرا والنمسا حيث نفس الزرقة ونفس الأشرعة البيضاء ونفس العناق مع الماء فخلقت شرفة الفونتينيه مدينة جديدة وبحيرة جديدة وملتقى جديدا للشعراء والعشاق والفنانين ليرقبوا مع فناجين القهوة الشمس الناعسة وهي تسحب شالاتها من أشرعة اليخوت وأبراج الكنائس وهي تتماهى في غلالة المساء والبحيرة وهي تخلع بردة النهار فتتجلبب بعباءة الليل.
ومع كل إطلالة  من الفونتنيه تبدو هامبورج أخرى تنتظر عشاقها  هنا، وتبدو البحيرة الساحرة أكثر اتساعا في كل مرة لتستوعب زفة اليخوت، والشجر في كل مرة  يصلي فينصت عشاق الشرفات لتهجداته التي  تصل إلى حيث يجلسون على الأرائك وتحتهم الماء وهامبورج وأكواب القهوة السمراء وقصاع الأيسكريم وجمال الصيف.
ولقد اختار ملاك الفونتنيه موقعا استراتيجيا في المنطقة  الواقعة بين جامعة هامبورج ومنتزه البحيرة فأقاموا هذا الفندق الباذخ على خط مبنى القنصلية الأمريكية وأندية اليخوت ومقاهي البحيرة .
وشرفة الفونتنيه وإن كانت الإضافة الأحدث إلا أنها ليست الإطلالة الوحيدة على هامبورج من السماء فقبالتها تشمخ شرفة المريديان الزجاجية وهي على صغرها إلا أنها الأعلى وتمتاز بإمكانية مسامرة القهوة طوال فصول السنة لأنها مغلفة بالزجاج على عكس شرفة الفونتنيه المفتوحة التي لا تصلح إلا لأوقات الصحو في الصيف .
وعلى مقربة من الفونتنيه وخلف محطة الدامتور يوفر فندق راديسون ساس في طابقه السادس والعشرين إطلالة أخرى مع رائحة القهوة وهي أعلى بعشرين طابقا من الفونتنيه إلا أنها ليست بجمال زاوية الفونتنيه ولا ببذخ المكان.
ولأن بحيرة أليستر تنقسم إلى بحيرتين فإن البحيرة الكبيرة هي مرتع اليخوت، بينما البحيرة الصغيرة  هي رئة لوسط المدينة، فأضفت النافورة التي تتوسطها وضفافها المزنرة بالشجر جمالا على هامبورج .
وبين مقهى ومقهى بامتداد البحيرتين ومن الضفاف الأربع تمد عشرات المقاهي منصاتها الخشبية إلى الماء كما هو الحال مع مقهى «ألاكس» الأشهر فمقهى السفينة إلى الشرق من البحيرة الصغيرة والتي تم تحويلها إلى مطعم ومقهى تحت اسم «بولندام» ثم مقهى مرسيدس شرق بولندام ويقابلهما في الغرب مقهى نيور جنغفرنستينغ الذي ينزل برواده إلى صفحة الماء لدرجة أن الجالس إذا مد يده سيتبلل وبإمكانه أن يطعم البجعات الخبز والبسكويت وهو يعبر القنطرة الخشبية الموصلة للمقهى إذ تحلو القهوة في الصيف بعد قصعة أيسكريم الفانيللا، فالمقهى يقفل  أبوابه مع الخريف مستبقا الصقيع وعري الشجر ورمادية الماء.
ولا يفصل هذا المقهى عن فندق الفيرمونت الشهير سوى شارع «نيور جنغفرنستينغ» الذي يحمل المقهى اسمه، فلا تكتمل زيارة هامبورج دون احتساء قهوتها على أرائك الفيرمونت حيث رائحة العراقة وبقايا البذخ الألماني.
ويفد إلى هذا الفندق الأمراء والرؤساء والأثرياء والمشاهير.  وفي قاعاته يقيمون حفلاتهم، فكان لا بد للفيرمونت من أن يذيب هذا الإرث في الدلال والفناجين.
ورغم ارتفاع سعره إلا أن رومانسية المكان كما تتجلى في كساء الحيطان بالخشب والستائر الحريرية الحمراء على النوافذ المطلة على البحيرة بالإضافة إلى اللوحات الأصلية الكبيرة كتلك المعلقة في أشهر متاخف العالم تضفي على المكان برجوازيته.
كما وفرت المباني المجاورة للبحيرة الصغيرة إطلالات أخرى لا تقل جمالا مثل إطلالة «مول أليستر هاوس» حيث يخصص هذا المول دوره الرابع للمطاعم والمقاهي ما يتيح جلسة استمتاع  بالقهوة في أرقى مكان بهامبورج وبأرخص الأسعار، وبجوار إطلالة الألستر هاوس تنفتح شرفة على اللسان المائي الممتد من البحيرة الصغيرة باتجاه مبنى البلدية وأجملها مقهى صليبا السوري الذي يقدم التمر المحشو بالجوز إلى جانب الحلوى الطحينية «الرهش» مع فناجبن القهوة التركية.
وتحته مباشرة وأقرب منه للماء مقهى «فلت» بدرجه الإسمنتي المميز كدرجات الحصون.
وبجوار هذه الشرفة هناك إطلالة اليوروباساج حيث مقهى المحيط السابع يتماوج ماؤه في الأكواب والفناجين.
ويلاصق البوروباساج جهة الشرق «مول كاشتاد» الذي يتيح دوره الرابع إطلالة على ساحة مسرح «ثاليا» ففي هذا الدور يقدم كاشتاد القهوة في أحد أجمل مطاعم المدينة.
وعودة إلى البحيرة الكبيرة فإلى جانب إطلالتي فندقي الفونتنيه والمريديان هناك مقاهي فندق الأطلنطك الذي يؤمه المشاهير أيضا إلى جانب سلسلة من المقاهي ومراسي اليخوت مثل مقهى «براكا كافيه  وكازوت كافيه وروزي كافيه» وقبالتها إلى الغرب «رابين تراس كافيه» وهو يجمع بين المطعم والمقهى حيث يحلو الغروب عند مجاديف وأشرعة يخوته.
وإلى شمال شارع الماركات تنتشر سلسلة من مقاهي الهواء الطلق وكذلك على الجسور وعند شرفات القناطر مثل مقهى «فيون» ومقهى «كولمباشر» ومقاهي الماريوت والتوفوتيل وأجنحة فرازر.
وبين أحدث مباني هامبورغ هناك مبنى الأوبرا الذي يضم فندق الوست إند وهو أكثر الشرفات بذخا لعشاق الموانئ بما يتيحه من  بانوراما على البلدة.
ومن ذلك العلو يقدم وست أند في مطعمه ومقهاه أصول الضيافة الهمبورجية في القهوة وكأن الجالس مع فناجين القهوة يمخر عباب النهر عبر سفينة عملاقة .
والوصول إلى مقهى وست أند عبر سلم كهربائي لعله الأطول في العالم.
كما أن طوابق مبنى دير شبيغل كبرى مجلات أوروبا  تمثل شرفات وإطلالات على المدينة من منطقة الميناء.
وأعود إلى منكبيك شتراسيه حيث بارك حيات يحتفي بضيوفه في المقهى المتميز بمدفأته العريقة والطاقم الصيني من الأباريق والأكواب والنكهة الاستثنائية لقهوته.
وفي نفس المبنى سيتاح للزائر دخول مقهى  «رونكاليه» بإكسسواراته الحمراء الدافئة وجوه الكلاسيكي كجزء من مبنى ليفنثهاوس» الذي يتقاسمه فندق بارك حياة و «مول إينكوف».
حيث يوزع «رونكاليه» مقاعده بامتداد «مول إينكوف» فتختال نادلاته بلباسهن العنابي وهن يحملن صواني الأباريق والأكواب من داخل المبنى إلى العطاشى تحت شجر منكبيك شتراسيه ومظلاته.
أما لراغبي الخصوصية فعليهم اجتياز مقاعد الهواء الطلق إلى  الطابق الثاني عبر درج يتعب العيون في نقوش الدكورات الباذخة .
وعلى كراسي «رونكاليه» سفحت الكثير من نهارات الصيف وكرعت العشرات من فناجين القهوة لأكتب بالثمالات مقالاتي للتكوين برائحة المكان وصخبه.
وهنا التقيت بالشيخ زاهر بن حمد الحارثي الذي سرد قصة الهروب والتخفي من الملاحقة الأمنية قبل عام ١٩٧٠ في عمان إلى أن نجح وتنفس الحرية عند آخر رشفة من فنجانه فودعته بعد أن أهديته كتيبي أغاريد لمسقط ومطرح، فلعل سكيك الأغاريد كانت بعض محطات تخفيه وهروبه.
ولأن الميناء رصيف نزول كل شيء فإن القهوة على صدارة مايتم إنزاله، فمن هنا يبدأ النهر الأسود إلى المواقد، ولذلك تقتنص مقاهي أرصفة الميناء القطفة الأولى وهي تقدم قهوتها برائحة البحر والنواخذة وأبواق السفن التي تشطر مياه نهر الألب.
وعلى بعد خطوات يوفر فندق الهافن إطلالة على المبنى القديم للميناء فتكون جلسة القهوة استثنائية والندامى يتفحصون مسارات أدخنة المراكب الداخلة والخارجة.
وإلى جانب حي الميناء تنتشر مقاهي الأسبان والبرتغاليين أسياد البحار الأوروبية فتكون قهوة الحي البرتغالي بطعم ملح البحر ورغواتها رغوة العواصف والزوابع.
ومن أشهر مطاعم الحي البرتغالي مطعم ومقهى لشبونة حيث تكسر فناجينه زفر السمك والقواقع وثمار البحر.
أما عشاق المتنزهات فبإمكانهم تناول القهوة السمراء في «شتاد بارك» حيث تغطس الشمس خلف سنديان وصفصاف الغابة.
كما أن بإمكانهم النزول إلى مقهى «سمر تيراسين كافيه» ليشاركوا المجدفين ليخوتهم بالتجديف بالملاعق المتوترة في ليل الأكواب.
ولم تبتعد كنائس هامبورج عن جنون القهوة فلها مقاهيها المعطرة بالصلوات والتراتيل.
وحتى العيادات الحكومية والخاصة تعزم مرضاها على أكواب من إكسير «النبرسو». أو تدعهم يعتصرون أزرارها لتسيل مطرا أسود.
وأختم من حيث بدأت لأدلف مجددا مقهى مونكبارج برن لأحتسي بقايا الثمالات ومعي نزار المجنون بالقهوة والمقاهي فأسبقه بترديد رائعته كمسك الختام :
جواري اتخذت مقعدها
كوعاء الورد في اطمئنانها
وكتاب ضارع في يدها
يحصد الفضلة من إيمانها
يثب الفنجان من لهفته
في يدي شوقا إلى فنجانها
آه من قبعة الشمس التي
يلهث الصيف على خيطانها
جولة الضوء على ركبتها
زلزلت روحي من أركانها
هي من فنجانها شاربة
وأنا أشرب من أجفانها
قصة العينين تستعبدني
من رأى الأنجم في طوفانها
كلما حدقت فيها ضحكت
وتعرى الثلج في أسنانها
شاركيني قهوة الصبح ..
ولا   تدفني نفسك في أشجانها
إنني جارك يا سيدتي
والربى تسأل عن جيرانها
من أنا .. خلي السؤالات أنا
لوحة تبحث عن ألوانها
موعدا .. سيدتي! وابتسمت
وأشارت لي إلى عنوانها..
وتطلعت فلم ألمح سوى
طبعة الحمرة في فنجانها
————
كتبته بين أكثر من شتاء وأكثر
من صيف فالقهوة صهباء كل الفصول.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق