السياحي

أفلاجنا … أكبادنا تجري على الأرض

حمود بن سالم السيابي

 

دخلت مبنى السفارة العمانية في برلين وكان فلج دارس بين الصُّور التي تزدان بها حيطان السفارة.
ورغم أن زرقة نهر “الرَّاين” ما تزال في عيني وأنا أدخل المبنى في “دهلم” وأسطورة حورية النهر “لوريلي” ما تزال تلوِّح بزعانفها محيية ، إلا أن الشوق لعمان جعل من صورة فلج دارس تتضخم ليقْصُرَ في عينيّ “الراين” على طوله ، و “الدانوب” نهر العواصم الأوروبية على اتساعه ، و بقية أنهر القارة العجوز مثل “السالزاك والتيمز والسين و فالتافا والإلبه والأورال والموزيل”.
وكلما نثرتُ بقايا خبز الإفطار على بجعات البحيرات تهفو الروح إلى شقاوات “الصد” الصغير في “السمدي” وإلى “خلالة” خضراء تتلاعب بها مياه فلج الخطمين وإلى انعكاس شجر النارنج على ساقية الميسر وتكسُّرِ ظلال جُدُرِ الطين على صفحة مياه فلج الملكي في إزكي.
وقلَّما تخلو قصيدة عمانية من خرير فلج ، ويندر أن يُكْتَبُ مقالٌ ولا تنشج فيه السواقي.
ولم أستطع تفسير شرود أبي عبدالرحمن الشيخ أحمد بن حمد الحارثي وعيونه السابحة في حفيف نخلة مسجد الإعلام إلا بعد أن تسلمت منه اليوم رائعته “نظام الري في عمان وحضارة الإنسان” لأتصفحه فتجري كل الأفلاج التي اشتقت إليها وتقوم قيامة السواقي.
وجاء تطواف اليراع الحارثي غزيرا كأفلاجنا فأتصفحه لأشرب من نمير الصفحة الأولى ، وأتتبع الفرصاد والعناقيد في الثانية وأدخل “وقبة” الفلج في الصفحة الثالثة وأتوضَّأ من زلال الماء في الصفحة الأخيرة. ورغم أن الشيخ أحمد بن حمد الحارثي لم يحمل في حياته “هيبا” ولا “مسحاة” لوجود الكثيرين من حملة “المساحي والهِيَبَة” الذين “يولِّمون” الأفلاج التي تروي مقاصيرهم في المضيرب إلا إن كتابه قدم وجهاً آخر للشيخ وكأنه أمضى عمره بإزارٍ محبّر ٍبطين الحقول ، وأيادٍ قابضةٍ علي “المجزِّ” لتحزَّ رقاب أعواد الحشائش حتى لا تسبب “غتلا” على الزراعة ولا تحاصص النخلة في السقي.
وبمهارة العوامر الذين أهدوا عمان الأنهار والإخضرار تجذرت سطور شيخنا الحارثي في الأرض فتتبع الأفلاج بين “العدِّية الداوودية” إلى “العينية” إلى “الغيلية”.
ووثق الخطوط التي تلون أطلس الولايات بدءا باشتقاق مفردة الفلج عند القدماء ، إلى المسارات التي تقوم على جداول سواقيها الزرقاء الحضارة ، إلي براعة العماني في ربط جريانها في الحقول بالنجوم وظلال الشمس قبل أن يعرف العالم نظام التموضع العالمي “جي بي أس” إلى الأفلاج التي تجري في ألبوم التراث الإنساني باليونسكو جنبا إلى جنب مع أشهر الأنهار.
وقد تغذت مهارة شيخنا من موقعه كمدير للري بوزارة التنمية وكأمين عام للجنة تثمين وحصر الممتلكات بوزارة البلديات الإقليمية والبيئة وموارد المياه إلى جانب انتمائه لأرفع البيوتات العمانية ، فجاء الكتاب صاخباً ب “الهِيَبَة والمساحي” وبمجاهدة الإنسان مع الطبيعة لينحت من الجبال سواقي ، وينزل بها إلى الأعماق ليبنى المسارات الطويلة والغائرة في العمق لقطرة الماء قبل أن يهتدي الآخرون لتقنية هندسة الأنفاق لتسيير قطاراتهم وبقية وسائل النقل.
كما شكلت الوثائق الهامة والصور الحصرية إضافة هامة يتكامل بها الكتاب.
وعوداً على بدء فإن صورة فلج دارس التي تزدان بها جدران السفارة العمانية في برلين قد قتلتني وأنا أقف طويلا أمامها رغم أن نهر الراين كان على “عقة حصاة” ربما لأن الشوق لرؤية الماء لم يقتلني ، بل الأفلاج التي تتدافع بالماء ، والسواقي التي تتضاحك لتزهر الحقول ويبدأ القيظ.
ورغم أن عيني سبحت في كل الأنهر التي تدفعها ثلوج الألب وتغذيها البحيرات السوداء إلا أن النهر المندفع من رحم الجبل الأخضر كان بكل أنهار القارة العجوز.
وجاء كتاب أبي المقداد ليزيدني اقتناعاً بأن أفلاجنا هي أكبادنا تجري على الأرض فنتنفس عبق العوامر واليعاربة.

مسقط في العاشر من سبتمبر ٢٠١٨م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق