غير مصنف

السلطان هيثم.. عهد متجدد

  • رؤية: محمد بن سيف الرحبي

فيما كان الحزن هادرا مع إشراقة فجر الحادي عشر من يناير، أول أشهر العام الجديد 2020، مع توارد الخبر الذي أبكى العمانيين، وتمنوه لو أنه إشاعة كالتي عبرتهم كثيرا في الأسابيع الأخيرة، قبل أن تصدمهم الحقيقة الصعبة، برحيل باني نهضتهم المعاصرة، والأب القائد، جلالة السلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، في رحلة لم يكتب لها القدر أن تكمل عامها الخمسين، بينما كانت القلوب تتمنى أن يكون العيد الخمسون احتفالا باليوبيل الذهبي للنهضة الحديثة بحضور قائدها العظيم، وبذلك الشموخ العسكري الذي اعتاد العمانيون أن ينتظروا به طلته..

.. فيما كان الحزن كبيرا، وبكاء القلوب أقوى من أن تخفيه الأعين الدامعة، كان مشهد آخر يحط بردا وسلاما على قلوب العمانيين، مشهد وضع إجابة حاسمة لعشرات الأسئلة التي أطلقت هواجسها حول مستقبل عُمان بعد “السلطان قابوس”، فكانت الساعات القليلة كافية لوضع النقاط على الحروف، فباني نهضة عمان الحديثة عبر خمسين عاما أرادها دولة مستقرة وآمنة كما بناها، ورعاها حق الرعاية، اختار لها سلطانا بعده أجمع عليه العمانيون لسببين: أولهما أنه اختيار جلالة السلطان قابوس، والثاني: أنه أحسن الاختيار لشخصية اتسمت بالسمعة الحسنة والسيرة الطيبة والحضور الدائم في المشهد العماني، بتوليه وزارة التراث والثقافة، والأهم هو أنه مهندس الرؤية المستقبلية لعُمان 2040، بما يعنيه ذلك من تعرفه ومعايشته أبرز التحديات والملفات التنموية التي تحتاج إليها البلاد، تركيزا عليها، خلال العقدين القادمين.

لقد كان تقدير جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه لاختيار السلطان هيثم خلفا له منطلقا من رؤية واضحة “رغبةً منا في ضمان استقرار البلاد”، فجاء الاختيار “بعد التوكل على الله”، وسبب الاختيار “لما توسمنا فيه من صفاتٍ وقدراتٍ تُؤهله لحمل هذه الأمانة”، حيث عدّها السلطان الراحل، غفر الله له، أمانة، يسلّمها إلى خليفة بعده، به من الصفات والقدرات ما يمكّنه من تحملها.

فجاء الخطاب الأول لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم تأكيدا على سمو هذه “الأمانة” ومواصلة بناء عمان كما كان سلفه، مؤكدا “إن عزاءنا الوحيد وخير ما نخلد به إنجازاته هو السير على نهجه القويم والتأسّي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المُستقبل والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه؛ هذا ما نحن عازمون بإذن الله وعونه وتوفيقه على السير فيه والبناء عليه لترقى عمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق” واصفا هذه الأمانة بأنها عظيمة، محددا التكاملية في العمل معا “من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه وأن نسير قدمًا نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل”، مشددا جلالته أنه “لن يتأتى ذلك إلا بمُساندتكم وتعاونكم وتضافر جميع الجهود للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى وأن تقدموا كل ما يسهم في إثراء جهود التطور والتقدم والنماء”.

ومع الإيمان التام بقدر الله، وما كتبه على البشر، إلا أن مسيرة جلالة السلطان قابوس ماضية على نحو متجدد، فالمرحلة الراهنة نهضة أخرى تجدد شباب النهضة التي انطلقت بهمة القائد قابوس بن سعيد ومعه العمانيون الذين التفوا حوله، فرحين مستبشرين، يشدون سواعد العمل والبناء في كل بقعة من بقاع البلاد، وتأتي مرحلة جديدة أخرى من البناء، هي استمرار للعطاء، ولكنها أيضا تحمل حيويتها بمجموعة من المعطيات ترفدها بالقوة والعزيمة.. فالمهمة الأصعب في مسيرة البناء بدأت في بدايات السبعينات واستمرت لتضع معالم البنية الأساسية من مشاريع ومؤسسات امتدت على سائر ربوع عمان، وذلك يعني أن ما تحقق رافد كبير لاستمرارية استقرار الدولة، وتحديد أولويات أخرى من البناء أهمها التنويع الاقتصادي، وذلك سينعكس حتما على التخفيف من معضلة تنامي أعداد الباحثين عن عمل، وهو الملف الأهم في المرحلة الراهنة، ووصولا إلى عام 2040.

إن المتأمل لعُمان التي كانت عام 1970، والتي أصبحت في عام 2020، ليدرك حجم ما تحقق من صروح كبرى، وبنية أساسية على درجة عالية وفي سائر جوانب السلطنة بحيث لا يمكن القول إن هناك ولاية نالت حظا أقل من غيرها في عطاءات التنمية الشاملة، وخلال السنوات الأخيرة اتضحت معالم العديد من المشاريع الضخمة، مع افتتاحها رسميا، خاصة في مجالات المطارات والطرق والمدن الصناعية والموانئ، وأخرى قيد التعمير ضمن مشاريع تنويع الدخل، وأولها الدقم التي يعوّل عليها، مع اكتمال عدد من مراحل مشاريع عدة، في رفد الاقتصاد الوطني بالخير القادر على استمرارية العطاء التنموي، بما يخدم الوطن والمواطن، وقد كان جلالته قد أكد ذلك في ملتقى استشراف المستقبل، ضمن مشروع الرؤية المستقبلية “عُمان 2040” بقوله “إن توجه السلطنة اليوم نحو تحقيق التنويع الاقتصادي بعيدا عن الاعتماد على الموارد النفطية يفرض على القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني أدوارًا جديدة في حجمها ونوعيتها للارتقاء بمكانة البلاد ومنزلتها.”

لقد غرست الخمسون عاما الأولى من مسيرة النهضة العمانية الحديثة مئات الصروح الكبرى، والبناء عليها هو الخيار الوحيد أمام القيادة (الحديثة) ومعها وقفة كل العمانيين الذين خاطبهم جلالة السلطان هيثم في أول كلمة له، بقوله “ينبغي لنا جميعًا أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه وأن نسير قدمًا نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل ولن يتأتى ذلك إلا بمُساندتكم وتعاونكم وتضافر جميع الجهود للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى وأن تقدموا كل ما يسهم في إثراء جهود التطور والتقدم والنماء”.

لقد أكد جلالة السلطان هيثم، حفظه الله وأبقاه، على استمرارية السير على النهج الذي أعطى ثماره الطيبة نحو خمسين عاما، استقرار في الداخل، وعلاقات سلام مع الخارج، وهذه الأوضاع المستقرة تمنح المزيد من الرؤية للنظر في متطلبات المرحلة الحالية، والتخطيط للمستقبل، فجلالته خريج أكسفورد، والمهتم بقضايا على درجة تماس عالية مع المواطن العماني، فهو الدبلوماسي الذي خبر كواليس السياسة خلال عمله أمينا عاما لوزارة الخارجية، والرياضي الذي تولى رئاسة الاتحاد العماني لكرة القدم واللجنة الرئيسة لدورة الألعاب الآسيوية الشاطئية الثانية التي استضافتها السلطنة في الثامن من ديسمبر من عام ٢٠١٠م، والمتابع للقضايا الثقافية والفنية خلال فترة توليه وزارة التراث والثقافة ما يقارب 18 عاما، وكان خلالها حاضرا سائر اجتماعات مجلس الوزراء، مطلعا على أبرز الملفات المحلية والدولية، إضافة إلى قربه من جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه.

لقد قالها جلالة السلطان هيثم المعظم منذ سبع سنوات، ضمن رؤية أشرف على رسم معالمها، وستكون منهجا يعرف أدق تفاصيله، ربط دروب المستقبل بهويتنا وموروثنا، في ذلك “تفردنا وقوتنا”، يقول جلالته: “لقد بات استشراف المستقبل أو صناعة الغد من أساسيات ازدهار المجتمعات وتقدمها، وهو أحد سبل المعرفة والعمل الجاد والتعاون الهادف لبناء مستقبل مشرق إذا أحسنا صناعته بإيجابية دون التخلي أو الحياد عن هويتنا الوطنية وموروثنا الأصيل الذي يعد أحد أسرار تفردنا وقوتنا في زمن التطورات الكبرى المتلاحقة”.

ومع انتهاء فترة الحداد على جلالة السلطان الراحل طيب الله ثراه فإن جلالة السلطان هيثم، حفظه الله، قرأ، عن كثب، ملفات التحديات الموضوعة على جدول أعماله كسلطان، هو العاشر في سلسلة سلاطين أسرة ألبوسعيد، وهي تحديات طبيعية في مرحلة مهمة من البناء تستوجب مواجهتها باقتدار وتوازن، مع ظروف اقتصادية لا تبدو مواتية إن قرأناها من خلال سعر برميل النفط، لكنه من المؤكد أنها ستكون جيدة بما تتمتع به عُمان من إمكانات وثروات بشرية وطبيعية قادرة على أن تعيد برميل النفط إلى زاوية ثانوية حيث إن هناك عشرات الزوايا يمكنها أن ترفد الدخل الوطني، وتجعل من عام 2020 نقطة انطلاق برؤى تناسب الألفية الثالثة، كما كانت انطلاقة عام 1970 برؤى تناسب مرحلة لم تكن فيها عُمان في المكانة التي تستحقها، ذات حضارة وتاريخ، ولم يكن العماني يجد الحياة التي يستحقها، فمرحبا بهذه النهضة المتجددة.. ومعكم سلطاننا هيثم يدًا واحدة، نعمل أينما كانت خدمة عُمان، فهي الواجب والدين، وفاء للراحل العظيم، ولكم بما توسّم فيه “السلف”.. لأنكم خير “خلف”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق