العام

“كورونا” التي مسّتنا جميعا

محمد بن سيف الرحبي

ليس جديدا أن يقال ثمة اكتشاف في أجندة هذه الجائحة المسماة “كورونا”، وهو إنها قد تأتي بدون أعراضها المعروفة، فقد أصابتنا في عمق حياتنا قبل أن يتبيّن المختصون ماهي ذلك على وجه الدقة.

نعم، نحن لا نسعل كما يسعل المرضى لندرك أننا مصابون بفيروسها، ولا نعاني من يعانيه الراقدون على أمل أن تفتش مختبرات العالم عن مصل يصلهم قبل وصول الموت.. “هادم اللذات ومفرق الجماعات”، ولعمري إنه فعل في الكرة الأرضية بالأحياء كفعل الموت!.

بسبب فيروس “كورونا” تحصنّا في قلاعنا نخشى أن يلامسنا صديق، فنهرع لتعقيم أيدينا، ونتمنى أن لا يمد قريب يده، فنجزع فورا إلى الماء والصابون (نفرك) أيدينا بقوة، كأنما أصابنا (مسّ) منه نخشى أن يصل إلى عقولنا، فيذهب بها أيما مذهب.

مسّتنا كورونا دون حاجة إلى الإصابة بفيروسها اللعين..

أصابت حياتنا بأعراضها، المعروفة وغير المعروفة، المكتشفة أو تلك التي في طور الاكتشاف، لم نعد إلا وجلين خائفين إن عطسنا أو عطس أحد بجوارنا، وإن سعلنا أو سمعنا سعالا على بعد أمتار منّا، الخوف أكبر الأعراض، نكتم هذه التفاصيل الصغيرة مخافة الظن بنا، ونترقّب بقلق ما تأتي به الشاشات لنرى كيف تتطور الجائحة، وماذا تحمل في خضم سيولها وهي تضرب الدول التي لا خشية على نظامها الصحي، ولا على علو كعب مستشفياتها ومختبراتها وتمدّنها، فكانت (مضرب) المثل.

مسّتنا (كورونا) بقوة فأخرجت أبناءنا من صفوفهم الدراسية ليمكثوا بين جدران البيت، ومنعتنا من لقاء أحبتنا، ومن احتضانهم ومصافحتهم، ومنعتنا من أن نتجول مساء في حدائق مدننا، وأن نسامر الأصحاب، وأن نجالسهم على كوب شاي (كرك) أو قهوة (أمريكية) في مقهى، على الشارع.. أو في مجمع تجاري ضخم..

والأدهى أنها أبقت محاريب المساجد دون أن تستقبل المصلين، يرفع المؤذن صوته بالأذان فيكاد يختنق بالكلمات حيث “حي على الصلاة” تبقى بلا خيوط اتصال مع الساجدين الذين آثروا “الصلاة في رحالهم”.

وهذا الصباح أعطتنا سيئة الذكر درسا آخر في قدرتها على (فرملة) اندفاعنا في طرقات حياتنا، أخذت منّا جريدة الصباح، فعلت ما لم تستطع عليه الأعاصير والأنواء المناخية (وقد خبرناها) وربما ما لم تفعله الحروب والكوارث الطبيعية الأخرى (وقد عرفها غيرنا).

كان الصباح باهتا بدون تلك الصفحات الكبيرة نمدد على أعمدتها أعيننا لتتصفح أخبار الدنيا، والأصابع ماسكة الورق المتكاثر حسب عدد الصفحات التي أنجزنا العبور على ضفافها أو تلك التي ما زالت تنتظر، أخبار محلية، سياسية، اقتصادية، رياضية، ثقافية، ثم تأتي الصفحة الأخيرة خفيفة الظل.

في مدن كثيرة حول العالم تنطلق صفارات الإنذار فلا يخرج أحد من بيته، كأنها أجواء حرب، ويبقى كل ذلك ملامح يومية لتوحّد البشرية في مواجهة عدو واحد، هي المشتتة كما لم يحدث من قبل، تتصارع في حروب خفية، بالمواجهة أو بالوكالة، وبأسلحة شرهة للدمار، تلك المتعارف عليها أو بتحطيم قدرات، سواء أكانت الأصابع على طاولات الحوار بيضاء مكشوفة، أو أنها تدس سوادها لتغتال من تحت الطاولة. 

لم نظن أنه سيحدث في حياتنا أن نتعثر بهكذا صورة، أن يخطف أحد كل هذه الأشياء بخفة متناهية، وبسرعة هائلة لم تكن في الحسبان، لكنه حدث، والفاعل ليس كائنا أسطوريا أو كارثة طبيعية كارتطام الكرة الأرضية بمذنب عملاق أفقدها اتزانها، بل فيروس صغير، حيّر الكرة الأرضية، بما فيها من مليارات البشر، والتقدم العلمي.. فأوقفت المخلوق أمام ضعفه، على تأكيد على عظمة الخالق، ودقائق أسراره، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.. وتحسبونه غير ذلك!.

نتأمل المشهد نغالب أن لا نفقد الأمل، بإيمان من لا يقنط من رحمة ربه، ننتظر أن يقرع جرس المدرسة من جديد ليأنس أبناؤنا بعلومهم، وأن نلبي نداء “حي على الصلاة” مستعيدين تلك الصلاة اليومية مع ولي النعم عز وجل، وأن نتنفس الصحة في كل مكان، لتكون هذه “الكورونا” درسا عابرا، مهما ترك من آثار على مسامات حياتنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق