مقالات

“المتنبي” أكبر العنصريين العرب

محمد الحميدي

 

“العنصرية” مصطلح عابر للثقافات، فهو لا يشير إلى أمر محدد، بل إلى صفة متجذرة داخل الوجدان الإنساني، وحين تتكثر لدى الأفراد تصبح سمة اجتماعية لافتة، مثل المغالاة في تقديس اللغة بالنسبة للناطقين بها، ومثل المغالاة في تقديس الصالحين والأقطاب في الطرق الصوفية، ومثل المغالاة في تقديس أديب أو أدب على حساب البقية.

   هي صفة إنسانية لا يخلو منها أحد، وعلاجها الدربة والمران على التواضع والقبول بالآخر، وهو ما يراه البعض صعبا، بل شديد الصعوبة، خصوصا حين تكون البيئة التي نشأ فيها تستدعي العنصرية والعصبية كما هو حال القبيلة العربية قديما وحديثا، حيث تفرض قوانينها بقوة رجالها وسلاحها، فيمتد نفوذها إلى أن يبلغ مداه الأقصى.

   الكاتب، أو المفكر، أو الشاعر، أو القاص، أو الأديب عموماً لا يخلو من هذه العلة، بما أنها متجذرة بداخل الوجدان، وتمتاح من الأعماق الثقافية والاجتماعية، وثمة مخزون هائل يغذيها، ويساهم في إظهارها، والأدب العربي به من الأمثلة الكثير، يمكن رؤيتها وقراءة العنصرية بين طياتها، مثل النظرة إلى بشار بن برد، أو الجاحظ، أو سيبويه.

فبشار تم اتهامه بالشعوبية، وهي تعني العنصرية المضادة؛ إذ كان يعيش بين العرب، ولكنه في ذات الوقت يكن لهم الحقد الكبير، ويراهم أقل شأنا من أجداده الفرس؛ أصحاب الحضارة القديمة، أما الجاحظ فأبرز مثال على العنصرية تجاهه يتمثل في قصة المرأة التي جعلته يسير وراءها إلى دكان صائغ الخواتم، وقالت يشبه هذا، ثم انصرفت، فتعجب الجاحظ وسأل الصائغ فأخبره أن المرأة طلبت منه نقش الشيطان على خاتم، لكنه لم ير شيطانا من قبل، فاحتالت عليك وأحضرتك.

   بالنسبة لسيبويه فرغم إسهامه الكبير في النحو العربي، إلا أن العنصرية لم تتركه، بسبب أصوله الفارسية، حيث زار بغداد وحضر مجلس الرشيد وحدثت بينه وبين الكسائي مناظرة حول قضية نحوية عرفت بالمسألة “الزنبورية”، حيث استعان بمجموعة من الأعراب لتدعيم رأيه، فخرج سيبويه ذليلا من المجلس وعاد إلى فارس، وهناك توفي عن عمر يقارب الثانية والثلاثين.

   الأمثلة الثلاثة ليست إلا فاتحة للكثير غيرها، وهي وإن كانت تشمل أنماطا مختلفة من آداب اللغة العربية كالشعر “بشار” والكتابة الأدبية “الجاحظ” والنحو “سيبويه”، فإنما تشير من طرف خفي إلى تغلغل العنصرية والتعصب تجاه الأعراق والأجناس الأخرى، أو تجاه القريب المخالف، حيث لا فرق بين الاثنين ما دام المعيار هو العنصرية.

   يمكننا تعداد الكثير من الأسماء الأخرى مثل التوحيدي الكاتب المعروف، وابن رشد الفيلسوف، وابن المقفع الأديب والمترجم، وطه حسين عميد الأدب العربي، ونصر حامد أبو زيد المفكر، بل حتى أحمد شوقي لم يسلم من العنصرية والتحامل؛ حيث أشبعه عباس العقاد نقدا لاذعا ووصف إحدى قصائده بـ”كومة رمل”.

   بما أن العنصرية ليست خاصة بشعب أو بأمة، فيمكن رؤيتها في الآداب الأخرى، وخصوصا حاليا بداخل الأدب الأوروبي؛ الذي اعتمد مبدأ المركزية، وأنه الأعلى شأناً، بينما آداب بقية اللغات أقل، ولا تصل لمستواه، ونظرة عامة ستكون كاشفة عما يحتوي عليه من عنصرية، فالجوائز على سبيل المثال مخصصة للمؤلفات المكتوبة باللغات الأوروبية، أو المترجمة إليها، وهذا يعني من ضمن ما يعني التزامها بقواعد تلك الآداب والثقافة التي نتجت عنها.

   اليوم تتبدى العنصرية في أكثر من شكل وبأكثر من وجه، وأحد وجوهها هو الوجه الثقافي الذي بلا شك يعتبر الأخطر من بينها، لما يملك من تأثير على المتلقين واستمرار هذا التأثير لزمن طويل، ولعلنا جميعا لا نخفي إعجابنا بشعر المتنبي وننظر إليه بفخر ونراه أعظم شاعر أنجبته العربية، بينما هو أكبر العنصريين، ليس تجاه العجم فحسب، بل تجاه أبناء جلدته من العرب، وما بيته الشهير إلا كاشف عن هذه العنصرية، إذ يقول:

“ودع كل صوت غير صوتي فإنني        أنا الطائر المحكي والآخر الصدى”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق