الثقافي

زوينة سالم: الكتابة نوع من المشاكسة

تنحاز للكتابة باعتبارها خيارا جماليا معادلا للوجود وملاذا روحيا في قسوة العالم وجحيمه وجبروته، بكل ويلاته وحروبه ولهاثه المدمر وهشاشته أيضا. تثير الأسئلة وتبتكر الأحلام وتقترح الفرح عبر فعل الكتابة الجارح. لديها الكثير لتقوله كتابة وصمتا وتوقا. تكتب للإنسان وتنحاز لخيار الطفولة والحياة ورهانات الجمال.
إنها الكاتبة زوينة سالم .. تمارس الكتابة على أكثر من صعيد، إذ ولجت باب الرواية، وكتبت النص السردي والمفتوح عبر لغة الشعر العالية، وهمست للطفولة عبر أكثر من إصدار تربوي وتوعوي.

حوار: حسن المطروشي

في مجال الأدب صدرت لها رواية بعنوان (إرم ذات حب)، ومجموعة قصصية بعنوان (أنوثة حذاء)، ونصوص ومذكرات بعنوان (جنية الليل وضوء)، وكتاب نصوص بعنوان (أحلام سمكة الزينة نصوص). أما في مجال أدب الأطفال فقد صدر لها (قصة البحث عن الكنز الحقيقي). وفي مجال تعليم الأطفال صدر لها كتاب (لغتي حياتي) وهو منهج من ثلاثة أجزاء لتعليم اللغة العربية لمرحلة رياض الأطفال، وكتاب (الطريق إلى المدرسة) لتهيئة طالب الصف الأول، و(كتاب الطريق إلى المدرسة 2) لتهيئة طفل الروضة للحضور للمدرسة، وكتاب (طريق السلامة) وهو دليل استخدام الحافلات المدرسية بشكل آمن، وكتاب (مستعد لصعود الحافلة) وهو دليل للطلبة لاستخدام حافلة المدرسة، وكتاب (اللمسة الحسنة واللمسة السيئة) ويشتمل على دروس وأنشطة لوقاية الأطفال من مخاطر التحرش.
في الحوار التالي تقترب «التكوين» من عوالم الكاتبة زوينة سالم عبر سجال إبداعي ومكاشفات عميقة تبوح بها عن سابق إصرار ومحبة …
اللحظات التي لا تحدث
صدر لك حديثا كتاب (أحلام سمكة الزينة) الذي يشتمل على نصوص إبداعية مفتوحة.. ما الذي تودين قوله عبر هذا الإصدار المشاكس؟
كلمة مشاكس تجعلني أبتسم طويلا في سري، ربما لأنني أعتقد بإن الكتابة بحذافيرها هي نوع من أنواع المشاكسة، والكاتب الذي يكتنفه الصمت معظم الأحيان، إنما هو ثرثار ومشاكس شقي ولكنه يشاكس بطريقته الخاصة والبريئة جدا.
«أحلام سمكة الزينة» هي اختصارات حادة جدا لقصص بطول حيوات كثيرة، فهي تروي ما نسيته الأيام في جيوبها المهترئة، تلك الأمور والمواقف والعواطف واللحظات التي لا تحدث ولا تكتمل، تبقى دائما المادة الشهية للكتابة، مشاغبة الورق، لأنها تترك الفراغ الذي يجب أن تملأه الكلمات ـ ومساحة شاسعة لتخيل قصة أخرى، ولتبدو مشاكسا قليلا.
درستِ الفلسفة والقيادة التربوية، وتكتبين الرواية والقصة والنص المفتوح إلى جانب الكتابة للطفل.. ما الذي يجمع بين ذلك كله في تجربة واحدة؟
الحب يجمع كل ذلك، فالحب هو قوة جذب الأشياء المتنافرة إلى بعضها، وهو ما يجعل الأمور تبدو متسقة رغم كل التناقضات. حب الحياة، حب المعرفة، حب الآخرين، فالحب فقط يمكنه أن يجمع شتات إنسان وانقسامه، ليس الحب الذي أتمناه بل الحب الذي أحمله في قلبي، فأنا عندما أكتب أكون في قمة الحب، وعندما أمارس أدواري الأخرى أمارسها أيضا بمنتهى الحب.
وفي هذه الحياة أعيش بطريقتين، مرة كمدينة للحياة وعلي أن أدفع بعض ديوني، بتقديم ما لدي طوعا، ومرة كإنسان مستحق لمكافأة لأنه يتحمل مشكلة وجوده في هذا العالم بصدر رحب. والمكافأة أن أكتب كما يشاء قلمي وليس كما يشاء أحد. فأنا ذلك الإنسان الذي يعيش في عمر واحد حيوات عدة ويتحدى تآكل الحياة وهشاشتها بقلب مفعم بالحب والمزيد من الكلمات التي لم تُرْوَ بعد.
نصك يبدو نسيجا منك، وهو يعكس عالما مشوبا بالأسئلة والحزن والطفولة معا.. هل لنا أن ندلف معا إلى فضائك الإبداعي الخاص؟
أفترض أن الكتابة الشيء الوحيد الذي يشكل لي الفارق بين أن أكون أو لا أكون، مرتفع وهمي يسمح لي أن أرى مكاني المفقود من هذا العالم الغريب، طريقة للتعويض عن غيابي، فهي طريقة سرية لأن تعيش كل شيء وأنت في مكانك فهذا العالم رغم اتساعه إلا أنه لا يمنح أي إنسان زمنا كافيا ليعيش كل شيء.
الحزن يشوب كل شيء لأننا مسكنون بالبحث عن معنى والحياة تبدو بلا معنى معظم الأحيان، ووجودنا فيها يكتنفه الغموض، فبين حب الحياة لدرجة التشبث بها ونبذ الموت وكأنه ليس جزءاً من ذات الحياة، وبين كراهيتها لدرجة الاحتجاج على وجودنا فيها، هذا يجعلني أتشبث بأي فعل يمكن أن يوجد المعنى، معنى الإنسان، هل يوجد كلمة لا معنى لها، كل الكلمات الصحيحة لها معنى، ولكن الإنسان بكل حسن تقويمه قد لا يكون له معنى يمكنه أن يعرف به نفسه والسر الحقيقي لوجوده. لهذا أصمت عن كثير واكتب الكثير، فالكتابة عندي تساوي إيجاد معنى للإنسان، لوجوده، لقصته، للحياة التي عاشها والحياة التي لم يعشها أيضا.

ما يشبه القطيعة
مجتمعاتنا الشرقية عموما والخليجية خصوصا هي مجتمعات ذكورية تقليدية تحكمها العادات والتقاليد الصارمة. ما هي التبعات التي تتحملينها ككاتبة في هذا المحيط؟
ككاتبة في مجتمع بينه وبين الأدب ما يشبه القطيعة بالتأكيد فأنا لست أكثر من امرأة لا تخجل من قول ما لا يقال، رغم كونها مطالبة دائما بلبس قبعة أخرى غير قبعة الأدب، ولكن هذا أمر لم يعد يشكل أي أهمية بالنسبة لي، أقصد ما يفكر فيه الآخرين حول كوني كاتبة وحول ما أكتبه .
تبدين جريئة في بعض نصوصك، في كسر القيود والقفز على حواجز التابو الاجتماعي .. ما سبب ذلك؟ وكيف تصفين موقف المجتمع تجاه هذا النوع من الكتابة؟
النصوص التي تكتبها النساء تعامل وكأنها ورقة اعتراف أو طلب تعارف، وليست مساحة إبداع يجب أن تحترم بكل ما يعنيه الإبداع من وقت اشتغال وفكر ملهم. وقد تلاحق بعض النصوص التي قد توصف بالجريئة أو الشفافة بالفضول أكثر من الإعجاب، وخصوصا إذا تجاوزت الخطوط التي يتوقع الآخرون أن تقف عندها، ولكن سأقول شيئا هنا: إذا لم يكتب الكاتب كل ذلك الذي يدور في أرواح الناس مهما كان محرجا وصعبا فمن سيقوله؟ بالتأكيد لا أحد. أعتقد أن فرض القيود والأحكام على الكتابة بشكل عام والكتابة النسائية بشكل خاص هو نوع من التسلط الاجتماعي الذي يمارسه أفراده ضد بعض فقط، وليس كما يدعي البعض من باب الخوف على أفراد المجتمع من الكتابات الجريئة.
لغتك تنحو إلى التكثيف والاختزال وكسر المتوقع .. حدثينا عن تعاملك مع اللغة وتشكيل فضاء النص لديك؟
أنا أعتقد بإن العلاقات غير المرئية التي تربط الأشياء ببعضها هي سر الكتابة الذي لا يعرفه إلا الكاتب. هذه العلاقات تشبه عند البعض التوهم وهي عند الكاتب سره الصغير. فالإنسان الذي لا يكتب قد لا يشاهد أي علاقة بين قطة تحتضر وحيدة وسط الشارع السريع وبين رجل يسوق وهو مقفل نوافذ سيارته وصوت المذياع يحجب عنه صوت العالم خارج النافذة. فقد لا يشاهد أن للأمر أي معني، ولكن الكاتب يشاهد العلاقة، ويمنح معاني إضافية للأمور التي تبدو أنها بلا معنى. فالكاتب يستطيع أن يجمع المشهدين ويصوغ رؤيته الخاصة للعالم، وهذا بالنسبة لي ليس كافيا أبدا. فكل كلمة يجب أن تعبر أيضا من بوابة الجمال، فعندما أكتب لا أكتفي بتشكيل الكلمات، ولكنني أفتش في نسيج اللغة عن الجمال أيضا، فأنا لا أميل كثيرا إلى النصوص الخالية من الجمال نثر وشعرا.
أعتقد بأن النص يبدأ عندي شعرا ثم يتحول الى نثر، وكأنني أشاهد العالم كمية هائلة من العلامات اللغوية، كلمة، فاصلة، نقطة آخر السطر، وكلمات كثيرة.
لك تجربة روائية من خلال إصدارك (إرم ذات حب) كيف تصفين هذه التجربة؟ وهل ستكررينها؟
إرم بالنسبة لي تشبه الحفلة الكتابية، مغامرة صغيرة في متاهات الحب، الحب كفكرة، الحب كحالة روحية، الحب كشطحة من شطحات العقل، كمحاولة الإنسان الأبدية للعودة إلى الجنة، الجنة التي لا يعرف كنهها أو وصفها وليس لدية خارطة الطريق إليها. إرم كتجربة روائية أشبهها بالحفلة لأنني كتبتها بمتعة كبيرة، وبالمغامرة لأنني لم أكن أبدا واثقة أين ستأخذني مسارات القصة وشخوصها. ورغم كونها رواية إلا أنها لم تخلُ من الشعر، هذا الخلط بين لطافة الشعر وجدية السرد جعلني أحيانا أحتار في الطريقة التي يمكن أن أصف بها.
بالتأكيد كتبت روايات أخرى بعد إرم ولم تكتمل لأنني حساسة جدا عندما أكتب وأضيع وقتا طويلا في أمور صغيرة .

فكرة الإنسان
بالرغم من أننا لا نؤمن بالفصل بين أدب ذكوري وآخر نسائي، إلإ أن المتابع لكتاباتك يشعر أنها تشع بحضور الأنثى.. هل ثمة ما يمكن أن نسميه خطابا أنثويا في كتاباتك؟
نوعا ما، ولكن هناك نصوص كثيرة كتبتها بنفس ذكوري أيضا، أذكر منها سيجارة أو البطل الأخير، ومانيكان، ولكن التعبير عن الشخصيات الاستثنائية أعتبره جزءاً مما أطمح إليه. فأنا لا أميل كثيرا إلى فكرة الأنثى والذكر بل إلى فكرة الإنسان، وتحديدا الإنسان الذي قد لا يشعر به أحد. فمثلا قدمت في مانيكان شخصية الرجل الذي يعيش مع امرأة مستقوية، وفي البطل الأخير عن الرجل الذي يعيش في أمنياته القديمة. وفي سيجارة الموظف الذي فقد اهتمامه بالحياة، وفي مصعد قدمت قصة الفتاة السمينة التي لا يشاهد قلبها الرقيق أحد حتى الرجل الذي تحبه.
يرى البعض أن الكتابة للطفولة في عالمنا العربي ما زالت متأخرة وتدور في قصص الغابة والبطة والأرنب، في حين أصبح الطفل يفكر بطريقة أكثر تطورا ووعيا من هذا الخطاب .. ما رأيك في ذلك؟
في تقديري ميل عالمنا العربي للوصاية والوعظ حَوّلَ كتب الأطفال إلى كتب توعوية حتى القصص منها، فهي دائما تدور حول الدرس، وما الدرس المستفاد من القصة، وليس هل استمتعت بالقصة، وهل ألهمتك شيئا، هل حملتك في خيالها بعيدا قليلا عن هنا. أعتقد إن قلة الأعمال الأدبية الممتعة للأطفال مشكلة نواجهها وهي ربما السبب وراء عزوف بعض الأطفال عن الكتب، طبعا بالإضافة إلى تحديات الزمن الرقمي الذي يواجهها الكتاب.
ما هي مشاريعك الكتابية والإبداعية الجديدة.
لدي الكثير من الأعمال التي تسير ببطء شديد، والسبب في السابق هي تلك الحساسية المفرطة تجاه الكتابة، ولكنني أحاول أن أنتهي من عمل روائي بدأت شخصياته في إثارة ضجيج عالٍ في رأسي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق