العام

محمد عيد العريمي: ما حققته ببساطة هو أني واصلت الحياة بنفس توَّاقة

خاص: التكوين

تجسد تجربة الروائي محمد عيد العريمي قصة إلهام غير عادية لمن يبحث عن قصص المكافحين والمثابرين المتشبثين بالأمل من أجل الانتصار على الظروف وتحديات الحياة بكل أنواعها. في لحظة فارقة وجد الشاب المهندس الصناعي محمد عيد نفسه يرقد على سرير أبيض وقد تعطل الكثير من أعضاء بدنه عن الحركة، إثر حادث سير مروع.
سيرة طويلة من الصراع والصبر والألم والكفاح والثقة وعدم الاستسلام، جعلته أحد أبرز الكتاب الروائيين والمترجمين في السلطنة. في هذا العدد من «التكوين» يسرد محمد عيد العريمي قصته بتفاصيلها الدقيقة…

منعطف الحكاية
يستهل محمد عيد العريمي حديثه قائلا: ركبتُ سيارتي من مدينتي «صور»، في عتمة ليلة لم يظهر فيها ضوء القمر، متوجها إلى مطار «السيب» بالعاصمة مسقط للسفر على متن طائرة شركة تنمية نفط عمان المتوجهة إلى حقول النفط في مرمول بالصحراء العمانية.
كنت قد عُدت قبل سنة ونيف من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن أمضيت هناك نحو خمس سنوات نلت بعدها شهادة بكالوريوس في علوم الهندسة الصناعية. وتلك كانت محطتي الأخيرة في تطواف طويل ومضنٍ سعياً وراء فرص أفضل للتعليم.. بدأتها بتعلم قراءة القرآن الكريم تحت ظل شجرة غاف وارفة، في قرية «وادي المر» بالمنطقة الشرقية من سلطنة عمان، ثم أمضيت عشـر سنوات متنقلا من مدينة إلى أخرى، وبين بلد وآخر في الخليج العربي، وأنهيتها في بلد لم أتوقع يوما معرفته من خلال الكتب ناهيك عن السفر إليه.
وفي الطريق الممتد بين مدينة صور ومسقط، وفي وقت مبكر من الصباح، حين تبدأ خيوط النور بالانتشار رويدا.. إيذانا بانبلاج فجر يوم جديد، اتخذت حياتي منعطفا آخر حينما اعترض جملان طريقي على بعد 20 مترا تقريبا من السيارة. وبسرعة تجاوزت قليلا مائة كيلومتر بالساعة، وفي أقل من ثانية ليس أكثر، كان عليّ اتخاذ القرار المناسب لتلافي الكارثة، فكبحت الفرامل وتضـرعت لله «سبحانه وتعالى» أن تبطئ السيارة سرعتها وتتوقف قبل الاصطدام بكتلتي اللحم الوجلتين وسط الطريق، لكنها واصلت الانزلاق وصدمت أحدهما بقوة رفعته عاليا ليرتطم بسقفها ويهوي بثقله على رأسي.
في مستشفى خولة، أدركت مدى خطورة إصابتي حين وجدت، بعد أن استعدت كامل وعيي، الجزء العلوي من جسدي داخل شرنقة جبس امتدت ما بين أسفل البطن إلى أعلى العنق، والأنابيب تدخل وتخرج من الجزء السفلي.
وفجأة وجدت نفسي وقد فقدت الإحساس بجسدي كله عدا ما فوق الكتفين، واقتصرت قدرتي في الحركة على عيني وفمي وحسب، ولم تكن لي قوة حتى على حك أنفي!»
تردد عليّ الأطباء خلال الأيام التالية، وأُخضعت مرات عدة لفحوصات مختلفة، بيد أنهم لم ينوهوا بإمكانية تحسن حالتي، ولم يذكروا كم سـيطول انتظاري لإعطائي رأياً قاطعا حول وضعي الصحي. ولعل الوقت مازال مبكراً، كما قال بعضهم، لمعرفة النتيجة النهائية التي ستسفر عنها الإصابة.
ورغم أن بعضهم أشار إلى أن الإصابة ربما تكون قد ألحقت ضرراً دائما بالجهاز العصبي، وأثرت بالتالي في قدرتي على الحركة الذاتية والإحساس بدءاً من الصدر ونزولاً إلى أصابع اليدين والقدمين فضلاً عن اختلال معظم وظائف أعضاء الجسد الحيوية أسفل منطقة الإصابة، إلا أن شدة تأثيرها عليّ واحتمالات الشفاء ونسبته كانت مرهونة بدرجة الإحساس الذي سيعود إلى الأجزاء التي فقدتها خلال الأسابيع القليلة القادمة، كما أنهم تحدثوا عن احتمال إجراء عملية جراحية خلال ذلك الأسبوع.
يبدو أن الأطباء توصلوا إلى أن إصابتي لا تستدعي تدخلا جراحيا، واستبدلوها بعملية شد العمود الفقري حيث جرى تثبيت مشبك معدني في جانبي الجمجمة وربطه بخيط يمر على بكرة ثُبتت هي الأخرى في طرف السرير، ويتدلى من طرفه الآخر ثقل يزن أكثر من كيلوجرام!

حيرة وقسوة
ويواصل محمد عيد العريمي رواية المأساة: مرت أيامٌ عدة تدافعت عليَّ خلالها الكوارث والأحزان، وتلاها حشد من التساؤلات، بعد أن أظهر التشخيص الطبي النهائي للإصابة تهتُّك الحبل الشوكي في العمود الفقري بسبب تهشم الفقرة السادسة في الجزء السفلي من العنق: أي بمعنى آخر أصبت بكسر في الرقبة وقَطْع في الحبل الشوكي داخل تلك الفقرة. وأكد الأطباء أن فرص الشفاء في مثل هذه الحالة ضئيلة إن لم تكن معدومة.
أن يجد الإنسان نفسه فجأة في حالة من الذهول تتحول إلى حيرة مثخنة بالألم والقسوة، ويرى جسده قد تهالك وتبعثر إلى أشلاء لا حياة فيها، وأحلامه تهشمت وما بناه قد تهدم.. أن يشهد موته بنفسه.. أن يكون هو الميت وهو المعزَّى في آن، فمن الطبيعي أن تتناسب ردة فعله تجاه هذه الفاجعة المروعة مع حجم الفاجعة نفسها. انقضـى شـهر كامل، ولم يطرأ على وضعي الصحي جديد، وأخذ الإحباط يكبر داخلي أكثر فأكثر: تصاعدت وتيرة اليأس، وهيمنت على نفسي الحيرة، ووقعت فريسة مخاوف لا نهاية لها عن طبيعة حياتي القادمة: شخص غير قادر على المشي أو الكتابة أو الاستحمام.. لا عمل له ولا أمل بغد أفضل.. عجزٌ سيحول دوني وإنجاز أبسط الاحتياجات اليومية للإنسان.. تفكيرٌ أخذ يدفعني إلى حافة الجنون أو يكاد!
بعد مضي أكثر من شهرين ونصف، قرر الأطباء أن السفر لا يشكل خطرا عليّ، شرط أن أسافر بالجبيرة وعلى نقالة. وكانت شـركة تنمية نفط عمان قد رتبت لعلاجي في بريطانيا بمستشفى متخصص في إصابات النخاع الشوكي.
يمكن أن أقول الكثير عن أحاسيسي ومعاناتي بشقَّيها النفـسي والجسدي، وأنا أعيش داخل قشرة صلبة من الجبس تلف الجزء العلوي من جسدي بدءا من أعلى الرقبة حتى أسفل البطن، لكني سأكتفي بالقول إن حياتي كانت طوال شهرين ونصف سلسلة متواصلة من القسوة، وإن الألم وهشاشة الإحساس بقيمة النفس كانت دوما حاضرة بكافة تجلَّياتها.
بيد أن الجبيرة لم تكن السبب الوحيد لمعاناتي وتوجعي حينئذ، وإنما كل شيء آخر في حياتي؛ فقد كان النوم يستعصي عليّ طوال ليال عديدة.. لاسيما الأولى منها، وإذا جاء فإنه يأتي بعواصفه وكوابيسه وشروره.. تفترس النفس وتخلق في الذات حالة من الهلع الشديد يحول دوني والإمساك بلحظات تريح الروح والجسد مرة أخرى. ومثلما فقدت شهية الحياة فقدت شهية الأكل أيضا، بعد أن تحطم كياني البشري وأُصبت في الصميم، وتضاءل كل أمل لي بالشفاء!
وأخيرا جاء الفرج؛ فبعد أن اطَّلع الطبيب على التقرير الذي أحضرته معي أمر بقص الجبيرة. وتحررت من الكماشة التي كانت تمسك بخناقي لأكثر من شهرين ونصف. كانت الأسابيع الخمسة الأولى من فترة تواجدي في مستشفى «بادوكس» هي الأشدَّ معاناة خلال فترة التأهيل التي استمرت الأكثر من تسعة أشهر.
شكّل الجلوس على الكرسي المتحرك واحداً من أصعب المواقف التي واجهتني خلال فترة التأهيل إن لم يكن طوال سنوات حياتي، فقد وجدت نفـسي فجأة في عالم تحكمه قوانين الإعاقة، وأنا مازلت أفكر بعقلية الشخص السليم الجسد القادر على الحركة والفعل.
لا أدري إن كان بوسعي الآن التعبير عن أحاسيسي والهلع الذي أصابني تجاه حقيقة لم أتجاهلها، وإنما اعترفت بها منذ الأيام الأولى للإصابة، ولكني حاولت تأجيل الدخول في عالمها.. عالم جديد له شروطه وقوانينه وسلطته.
كيف لي أن أستسلم لربق الشلل، وأرضى بالعيش بين الجدران المتلاصقة والأبواب المغلقة وأنا الذي فتحت عينيَّ على صفاء السماء وخواء الأرض والسهوب الشاسعة.. تلك التي لا تكاد ترى فيها للنبات ظلاً ولا تسمع للحياة نفساً إلا ما ندر، ويطبق على فيافيها الواسعة الصمت.. لا يقطعه إلا صوت «أزيز» الرياح!

فداحة الخسارة
ونمضي مع محمد عيد العريمي في تفاصيل الحكاية: لا أزعم أن تجربتي خلال التأهيل المهني كانت استثنائية، ولكنها قد تكون ذات فائدة لمن يعانون مما عانيت، أو يمرون بتجارب وتحولات قاسية في الحياة قد لا تكون لدى البعض لها علاقة بالإعاقة حتى! فليس من السهل، ولعل الكلمة تفقد معناها هنا، ولا تكفي للتعبير عن الإحساس بفداحة الخسارة، أن يجد المرء نفسه فجأة وقد فقد كل شيء.. عاجز عن مسك قلم أو ملعقة وسواها من أدوات!
ولعل أشد ما شعرت بخسارته خلال تلك الفترة المبكرة من تجربتي مع الإصابة ومسيرة التأهيل ـ وإن كان لكل نشاط في حياة الإنسان أهمية تتمظهر أكثر أثناء الحاجة له ـ القدرة على تصفح الكتب والجرائد والمجلات. أن يقف المرء عاجزا عن قلب صفحة في جريدة أو كتاب يكون قد أنهى قراءته.. ينتظر من يدخل عليه ليساعده على قلب الصفحة ومتابعة القراءة، لهو إحساس مدمر يصيب المرء في ذاته ويشعره بهشاشة وجوده، ويثير في نفسه سؤالا يظل يتعقَّبه كلما واجه موقفا مشابها، وهي كثيرة: ما قيمة الحياة؟ وأي معنى لها حين يفقد الإنسان القدرة على أداء أبسط احتياجاته اليومية؟
لاشك أن تحويل الإحباط الذي يصاب به المرء نتيجة عجزه عن أداء مهام معينة في حياته إلى طاقة دافعة لمواجهة تحديات تلك المثبطات، يعطي الحياة قيمة إضافية تعزز في روحه المقاومة والإصرار على تجاوز تبعاتها مهما اشتدت، وهذا بحد ذاته إنجاز يعيد للحياة شيئا من معانيها.. بل ورونقها.
لقد أخذ هاجس البحث عن بدائل وتطوير وسائل تعينني على تجاوز بعض المعوقات، بمرور الوقت والممارسة، بعدا اتسم دوما بالتحدي، وأصبح التغلب على التحديات التي تعترض سير حياتي اليومية، على ضآلتها بالنسبة للآخر، يضفي إحساسا بقيمة ذاتي وجدارتها، بل وحقها الكامل وغير المنقوص في الحياة الكريمة.
بعد مضي نحو تسعة أشهر على تواجدي في المستشفى أصبحت في حالة لا يمكن إضافة المزيد عليها في أي جانب من جوانب العلاج.. سواءً الطبي، أو الطبيعي، أو التأهيل المهني؛ ونظراً لولعي بالقراءة استطعت أن أكون حصيلة من المعرفة من خلال قراءة والاطلاع على الكثير من المجلات والدوريات والدراسات المتخصصة بإصابات النخاع الشوكي والأمراض المترتبة عليها.
في حين اعتقدت، بعد مضي ما يربو على تسعة أشهر من العلاج والتأهيل، أنني أصبحت في حال يسمح لي بمواجهة تداعيات الإصابة وتأثيرها على حياتي وكل ما يترتب عليها نتيجة لذلك، إلا أن ذلك الإحساس سرعان ما تهشم عندما أعلن الدكتور «والش» أن فترة علاجي أوشكت على الانتهاء، وأن عليَّ الاستعداد للعودة إلى عُمان.
خالجني شعور متناقض.. راوح بين الفرح والخوف، ولعل إحساسي بالخوف كان أشد: كنت سعيدا لقرب رؤية أهلي، وكنت خائفا من غموض المستقبل الذي ينتظرني، والعبء الثقيل الذي ستفرضه إعاقتي ووضعي الصحي عليهم. وهنا تكمن مصيبتي وتتفاقم حيرتي!
وأنا الذي طالما تفاخرت باستقلاليتي واعتمادي على نفسي منذ وقت مبكر في حياتي، لم يخطر على بالي يوما أني سأجد نفـسي عالة على غيري.. وان كان هذا الغير أهلي!
أمضيت الأيام القليلة قبل سفري ولا شيء كان يشغل تفكيري غير صورتي في عيون أهلي وأصدقائي وأنا جليس الكرسي المتحرك الذي غدا، أحببته أم كرهته، جزءا من جسدي بعد أن فقدت منه ما فقدت، وأصبح بديلا عمليا لرجليَّ المعطوبتين!
كان تفكيري مضطربا، وبانت حيرتي في شرود ذهني، وخشيت أن يصاحب ذلك مظاهر قد توحي للآخرين أن أزمتي أكبر من مجرد مخاوف الانتقال من بيئة المستشفى ومحيط اجتماعي عرفني كما أنا عليه الآن، لا كما كنت عليه قبل إلى بيئة المنزل ومحيط آخر لا أعرف كيف سينظر إليَّ وكيف ستكون علاقتي به، وعلى أي قاعدة ستبنى.
لم تكن الشمس قد أشرقت بعد حين امتدت يد توقظني: إنه يوم عودتي إلى الوطن. كان صباحا لا كغيره من صباحات تلك المنطقة الجميلة من مناطق الريف الإنجليزي.. كان صباحا شديد الغثاثة.. جاء يحمل لي خوف العالم كله وجزعه!
بيد أني لم أحسن الظن! فهـواجسي ومخاوفي كانت في غير موضعها، فقد أثبت أهلي قدرة لا متناهية على التحدي ومواجهة وضعي الصحي الجديد بسائر تداعياته.. بدنيا ونفسيا، وذابت ببساطة تعاملهم ورعايتهم كل ما ترسب بداخلي من أوهام ووساوس.

التلميذ .. المعلم
ويستذكر محمد عيد العريمي الموقف تلو الآخر: كنت تعلمت خلال فترة التأهيل في بريطانيا أن أكون «تلميذاً» يحسن الإصغاء، وتعلمت بعد عودتي إلى عُمان أن أكون «معلماً» يجيد الشرح ويزيل طنين الأسئلة تلك التي تدور داخل رؤوس الأقارب والأغراب، ولكي أساعد أهلي وأصدقائي والناس المحيطين بي على فهم إعاقتي ومن ثم إعادة صياغة مواقفهم من الإعاقة والمعوقين!
أن أصبح غير قادر على الحركة وممارسة حياتي الطبيعية نتيجة لإصابة في العمود الفقري عاجزا حتى عن إطعام نفسي، فذلك أسوء ما حدث لي في حياتي، فلقد أخلت الإعاقة بحياتي على كافة مستوياتها: الصحية، الاجتماعية، الزوجية، والوظيفية. وسواء قبلت وضعي الجديد كمعوق أو رفضته.. نسيته أو تجاهلته.. فلا سبيل أمامي سوى التصالح مع الإعاقة والتكيف مع شروطها والتعايش مع تبعاتها مهما كانت قاسية، وتوظيف هذه الشروط والتبعات لإعادة بناء حياة جديدة على أنقاض أخرى تحطمت، وبناء أحلام أخرى في إطار ما تتيحه الإصابة.
إن الشعور بأهمية الذات والتصالح معها يشكل أساس علاقة المرء بالآخر، فلقد تعلمت بعد الإصابة أن لا أنظر إلى نفسي من خلال عيون الآخرين وردود أفعالهم تجاهي وإنما أنظر إلى نفسي من خلال نفسي، ولم أعد بالتالي مسكونا بهاجس كيف ينظر الآخر إليَّ إذا كان ذلك الآخر يعاني من قصور في ذهنه!
حديثي في سياق ما جئت على ذكره حول «اعتمادي في الحياة على نفـسي» ليس المقصود به متطلبات الحياة اليومية التي اعتمد فيها على الآخرين في إنجاز الكثير منها عدا العمل الذي أؤديه على أكمل وجه ممكن ولله الحمد، وإنما أعني استقلال القرار فيما يخصُّ كل جوانب حياتي. أقول «لا» عندما أظن أنها الرَّدُّ الصحيح، وأقول «نعم» بإرادة لا تنقصها القناعة ولا تفرضها الظروف أو الإحساس بمركب النقص.
ولأن ما تقوم به اليد من نشاطات يعتمد أساسا على الإبهام وإصبع السبابة، فقد كانت القدرات البسيطة مثل: مسك القلم أو الملعقة أمراً لا أقدر عليه؛ وكان تصفُّح كتاب أو مجلة مُهِمَّةً مستحيلة تحتاج ليد أخرى غير يديَّ.. فالإصابة سلبت مني أبسط القدرات الجسدية. وأمام هذه التحديات ومثلها كان عليَّ إيجاد وسائل أو «اختراع» أدوات مناسبة أستطيع بواسطتها إنجاز عملي وتحقيق قدر ولو ضئيل من الاستقلالية.
ويبدو أن خلفيتي الهندسية وجدت لنفسها استخداما في سعيي الدائم من أجل «صنع» ما يمكن أن يسهِّل متطلباتي اليومية.. وهي ضرورة فرضتها في البداية الحاجة ثم أصبحت فيما بعد أشبه بالهواية.
لم يكن من السهل بعد عودتي للشركة العمل في وظيفة لم تخطر لي على بال. فكيف يتحول مهندس صناعي فجأة إلى مترجم؟ وكيف تتحول أدوات العمل وبيئته من أجهزة حفر ومحطات تجميع النفط إلي طاولة وآلة كاتبة وقلم وممحاة وقاموس؟ هذا في جانب، والقدرة على استخدام تلك الأدوات في جانب آخر.
وفي بداية التحاقي بالوظيفة الجديدة كمترجم، كان زملائي في العمل سواء من يراجع عملي أو يطبعه يجدون صعوبة بالغة ويمضون وقتاً طويلاً في تفسير طلاسم خط يدي، بعد أن استخدمت أداة متعدد الأغراض تعينني على الكتابة! وقد ثابرتُ طويلاً فيما بعد لتحسين خط يدي نوعاً وسرعة حتى بلغت مستوى قريباً من السرعة والشكل الذي كان عليه قبل الحادثة.
دخول أجهزة الحاسوب إلى بيئة العمل فيما بعد خلق تحولاً نوعياً كبيراً في طريقة أدائي للعمل أولاً وإثراء حياتي اليومية ثانياً: فتمكنت بفضل استخدام برامج معالجة الكلمات من تحسين أداء عملي نوعاً وكماً، ووفر لي الحرية للعمل بكفاءة ومرونة معقولة، والأهم أنه منحني الفرصة للعمل على قدم المساواة مع زملائي في الشركة.
يبدو أن جهدي لرفع مستوى أدائي الوظيفي أتاح لي امتلاك بعض أدوات الكتابة، فبعد حوالي 20 سنة من عملي كمترجم، كتبتُ «مذاق الصبر» عندما أدركت، بعد أنْ خَبرت الإعاقة وتصالحت معها، أن لدي ما قد يفيدُ آخرين غيري ممن يواجهون الظروفَ نفسَها؛ كتبتُ في «مذاق الصبر» عن الصراع الذي خضته مع الإعاقة لتحقيق توازن ذاتي بين الممكن والمستحيل.. بين ما أقدر عليه وما هو خارج نطاق إرادتي.. وصولا إلى «التصالح أو التعايش معها» .
جئت في جانب من كتاب «مذاق الصبر» على ذكر أني الآن أكثر رضا عن نفسي، وأكثر قبولا لها، وذلك يعزى إلى ما استطعت تحقيقه ـ بعون الله سبحانه وتعالى ـ في حياتي. فما حققته ببساطة هو أني واصلت الحياة بنفس توَّاقة.. روح محبوسة الجسد ـ ربما ـ ولكنها حرة ولا تكف البحث، ولو في دائرتها الضيقة، عن مكان لها تحت الشمس!
من الطبيعي أن أشعر إذ ذاك بثقة أكبر بالنفس. فأنا لا أبكي على اللبن المسكوب، ولستُ مسكوناً بالماضي وشخوصه، فما كنت قبل قد انتهى وولى إلى غير رجعة، وما أنا فيه الآن، على تواضع حياتي، مختلف تماماً باختلاف نظرتي لنفسي وقناعتي أنني حققت شيئاً في حياتي.. قد لا يكون المستحيل، ولكنه أقرب منه على نحو أو آخر بالنسبة لي!
أنا لم أختر بمحض إرادتي أن أكون معوقاً، لكن وعلى غرار معظم الأشياء في الحياة هناك وجه آخر للعملة.. لذا فأنا دائما أبحث عن الوجه الآخر للشيء لعلي أجد فيه ما لم أجده في الوجه الأول. لا شـك أن نجاحي في تجاوز محنتي، ومن ثم الكتابة عنها بشفافية غير معهودة، أضفى على حياتي بعداً لم أحلم به، وعزز من تقدير الآخرين لي.
كان من الطبيعي، بعد الأصداء الإيجابية التي حققها «مذاق الصبر»، أن أعيد التفكير في قدرتى على مواصلة الكتابة ـ بعد أن اعتقدتُ أن «مذاق الصبر» هو عملي الأول وسيكون الأخير.
وهكذا أصبحت الكتابة السردية، التي دخلت دهاليزها متأخراً جدا ومن باب المصادفة، أحد أهم أسلحتي لمقاومة الألم والتصدي لتبعاته.. قد لا تُشفي الجرح وقد لا تُزيلُ وجعه، ولكنها مسكن جيد له، وغدت خط دفاعي الأول لمقاومة الانزواء الذي تدفعني إليه الإعاقة.. سواء سببها داعياتها الصحية أو ما تفرضه البيئة الاجتماعية أو المادية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق