السياحي

ألمانيا والنمسا ثلاثية المطر والحب.. والأقفال

أصبحت الأجواء والآفاق قرى صغيرة.. يعيش فيها البشر على اختلاف الليل والنهار.. أكثر من 600 فرد تنقلهم هذه الطائرة ذات الطابقين في طريقها بهم إلى ميونيخ انطلاقا من دبي .. لو كان هذا الخبر قبل 100 عام لكان ضربا من الخيال. ولعدّ من السحر والشعوذة بمكان، ولكن عندنا يندمج الخيال التاريخي بالواقع الذي نعيشه حيا وآنيا تنتج الدهشة والمزيد من التفكير في التطور المتسارع لوسائل المواصلات التي ربما تخرج عن دائرة المعقول .

زارهما : سعيد بن خلفان النعماني

وانسجام الاسترخاء والحنين والأمل والحب والحياة رحلة أوربا خططنا لها منذ عامٍ كامل برفقة زملاء الرحلات الذين جابوا العالم برفقتي خلال السنوات العشر الماضية بدءا من افريقيا ومرورا بالدولة العثمانية تركيا ودول البلقان وغيرها من الدول، كانت خطتهم زيارة اسبانيا للاطلاع على اطلال حضارة الاندلس التي استمرت ثمانية قرون وسقوط آخر قلاع المسلمين فيها، ولكن لم يتسنّ إكمال إجراءات السفر إليها، لتكون على قائمة السفر كمحطة قادمة .
بيرجت… عزف منفرد في ليلة مقمرة
أنهت العقد الخمسين من عمرها.. كانت هي من استقبلنا بمطار ميونيخ لدى وصولنا ألمانيا وقد أسدل الليل رداء السكون والهدوء على هذه المدينة العريقة.
ظننت أنها من مكتب الشركة لترشدنا إلى الحافلة التي ستقلنا الى مقر إقامتنا في الدولة الجارة النمسا… تقدمت بيرجت إلينا مرحبة.. هاشة باشة.. وأشارت إلينا بأن نتبعها إلى حيث الحافلة.. فتحت مخدع الحقائب وقامت بإيداع حقائبنا بكل أريحية وصفتها صفا محكما حتى لا تتحرك أو تتدحرج أثناء الرحلة الطويلة في ليل دامس إلى دولة أخرى.
ركبنا الحافلة الكبيرة.. وإذا بها تعتلي منصة القيادة وتتحرك صوب بوابة الخروج من المطار.. وسط ذهول من الجميع من هذه المرأة الخمسينية الشابة ذات الشخصية المرحة.. فبعد أن استقر الجميع على مقاعد الحافلة.. التفتت إليهم معرفة بنفسها معبرة عن مدى سعادتها بأنها ستكون السائقة في هذه الرحلة وصولا إلى فندق مافيدا في زيلامسي وبدأت تحدثنا بشكل مقتضب عن هذه المدينة التي سنكون في ضيافتها خمس ليال.. وأنها عبارة عن قرية صغيرة في النمسا، وهي من أروع المنتجعات في العالم حيث تتوفر فيها الطبيعة الخلابة والعديد من الأماكن السياحية الممتعة. يأتي إليها أثرياء العالم لقضاء فصل الصيف فيها حيث يكون الطقس رائعًا ومناسبًا للتنزه في حدائقها أو التزلج على الجبال الثلجية.
(ومشينا فى طريق مقمرٍ .. تثب الفرحةُ فيه قبلنا).. كان الطريق على طوله خاليا من أعمدة الإنارة.. سوى عند مداخل محطات الوقود.. قمر ميونيخ كان لطيفا ومندمجا مع أضواء حافلة بيرجت.. وهي تخترق سهولا وتلالا وقرى متناثرة لا تتضح معالمُها.. كانت الحافلة أشبهُ بالطائرة التي تغادر الأرض لتستقر فوق السحب فلا يرى المسافر أي شيء.. كذلك رحلتنا مع بيرجت.. التواء الطرقات ومهارتها في ضبط سرعة الحافلة..ارتفاعا ونزولا ويمنة ويسرة.. أشبه بالعزف المنفرد الذي لا تقاطعه دندنةُ الحضور أو نقراتُ المعجبين على مقاعد الأوبرا..
لسانُها الانجليزي تهيمن عليه لغتُها النمساوية والألمانية واللهجة المحلية البافارية والالمانية.. ثقافتها العامة واسعة وتعرف الكثير عن مكونات وأعراق شعبها النمساوي وكذلك الألماني.. حدثتنا الكثير مما تعرف.. وحاولت الإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي وجهها زميلنا موسى بلغة انجليزية رصينة.. يغلبُ على اجاباتِها الدعابة والنكتة لتمضي تلك الليلة المقمرةُ بساعاتِها الخمس وحدود النمسا التي عبرناها دون توقف وكأنها دقائق معدودة.
شلالات كريمل
تقع شلالات كريمل في مقاطعة سالزبورغ وتبعد عن زيلامسي مسافة 30 دقيقة بالسيارة. وهي الأعلى في أوروبا والخامسة عُلوّاً في العالم، حيث تنساب مياهُها باتجاه الأسفل من ارتفاع 380 مترًا تسقط بكل قوتها على ثلاث مصاطب. وثبُت علميًا أن وجود الإنسان بالقرب من الشلالات يؤثر إيجابيًا على صحته، إذ إن التركيز العالي للأيونات السالبة للهواء البارد والسديمي ينشط الجهاز المناعي لديه.
وحتى تكتمل الصورة للشلال وما يحيط به من اشجار وغابات هناك طريق مخصص للمشي إلى مسافات طويلة على مقربة من الشلالات، مما يمكن الزائر من الوصول إلى أعلى نقطة فيها، والتمتع بالمناظر الخلابة المزينة للمكان.
لوحاتنا القديمة ..
حقيقة وليست خيالا
فيما مضى.. كنا نعتقد أن هذه اللوحات التي نزين بها بيوتنا مجرد رسم مستوحى من خيال بشري يسعى لإيجاد عالم افتراضي تتداخل فيه ألحان الطبيعة ونقاؤها مع مكوناتها وخيالاتها الواسعة والألوان العجيبة التي قلّ أن تجتمع في لوحة واحدة.. استرخاء المياه بين فضاءات الجبال الخضراء التي تنعكس نصف صورتها على صفحة مائية غاية في النقاء والجمال.
لم أكد أفيق من سطوة صورة شلال كريملر في ريف النمسا على مخيلتي حتى أخذتني لوحة أخرى ببحيرة زيلامسي.. لوحة متداخلة كأنها تموّجات الخيال.. إلى هالشتات وعلو مشاهدها وشمسها التي باتت تزاور ذات اليمين وذات الشمال، وانسياب ضيائها بين بيوت معلقة تزدان بالورود وبين ارتفاعات شاهقة حتى الدوار.. رسمة أخرى ضمن رحلتنا السياحية إلى أرياف ألمانيا والنمسا.
لوحات وجداريات خارج الوصف والتعبير أحاول أن أكون ضمن إطارها.. ولكني فضلت أخيرا ألا أن أكون أمامها وداخلها بعيدا عن تجاوزات ملامح الصورة وطبعتها الأولى في الذاكرة.
كابرون..
تداخل أشعة الشمسِ مع الصقيعِ
تعتبر كابرون من أجمل المناطق السياحية في النمسا وهي تابعة لمحافظة سالزبورغ، تتميز بقربها من قمم جبال الألب الشهيرة حيث تتنوع أماكن السياحة فيها وتشمل كافة فصول السنة ففي الشتاء تشتهر بمنطقة التزلج الجليدية على جبل كيتنشتاين هورين، أما في فصل الصيف فيمكن التجوال في جبال الألب الرائعة وزيارة الأنهر والبحيرات الساحرة.
كابرون ساحرة بجمالها تلتحف فضاءات البياض والاخضرار في آن واحد.. ثلاث مراحل في غاية العجب حتى الارتقاء إلى أعلى قمة كابرون.. تتداخل أضواء الشمس الدافئة مع صقيع الجليد الذي يغطي تلك القمم والجبال القاسية وكأنه طيران إلى بحيرة ماء شديدة البياض.. آن لها أن تفرغ حمولتها في ردهات السفوح التي استوى بعضها بتراكم أطنان الجليد… العربات المعلقة التي تؤوينا برفق لا تسمح للهواء أن يشغلنا عن المنظر المهيب والتداخل الأغرب بين خضرة الجبال التي تتناهى عن قرب لتلج بياض الثلج النقي الذي يتزلج عليه مئات الأشخاص من مختلف أقطار العالم.
قبل تداخل الخضرة في البساط الأبيض هنالك مجموعة من الأغنام والشياه ترعى أعشاب الجبل وتشرب نقاء المياه الذائبة.. فيما تنظر إلى برك المياه المتجمدة في كل مكان.. مما لم يأتِ وقتُها للذوبان والمضي في سواقي الجبال وجداولها السحيقة.
شلالات زغموند ثون
إبداعٌ إلهي عجيبٌ.. قوةُ الماء التي تمردت على قوة الجبل الشاهق .. فشقته شقًا عنيفًا وجعلته سراديب وانفاقا وجوابي عميقة كأنها البراكين في ثوران مياهها .. هديرُ الماء اطبقَ على صمتٍ الجبل وقساوته، وذهب الصوت بعيدا ليستدعى طوابير الزوار للاقتراب منه .. فحفر جداول واخاديد ليغتال الصوتُ صمتَ الصخرِ وسكونه، ولينفعل الفضاءُ المتكونُ بعنادِ الماء كاسرا قانون الشدة معلنا تغاريد جميلة متداخلة الرؤى في غاية الروعة والإبداع.
لم تبقَ طاقاتٌ سلبيةٌ إلا تفرغت من زوار المكان ومريديه، فأعلنت رحيلها بعد اندماج صور جريان الماء وصوته وانفعالاته وتسربه في أماكن حفرها بعناية منذ زمن طويل لم يفصح عنه حتى لمقربيه.
سبحان الخالق.. أيفعلُ الماءُ كلَّ هذا.. أيعقلُ أن تتداخلَ الصُّورُ والأصواتُ والمقاطعُ، وأن ينسجم الاسترخاءُ والحنينُ والأملُ والحبُ والحياةُ في آن واحد.. الهاتف لم يستطع صبرا على تحمل المشاهد التي عجز عن توثيقها.. فواريته جيبَ الحقيبة المثقل بعدة السفر وتذاكر الدخول.. فيكفي أن تسجلَ العينُ وتنفعلَ العاطفةُ ويزدادَ الشوقُ إلى أيِّ شيء.. فهذه الخوانقُ النمساوية فعلت فعلتها في زوار الجبل.. ومحبي اليوجا والاسترخاء النفسي، الذين لم تتمالك أنفسُهم المشهدَ الزائدَ عن الطاقةِ التي يودون استنزافَها أو افراغَها… الطريق الطويل الذي تمضي فيه الخوانق تحبس الأنفاسَ وتزيل شوائبَ الشَّر من نفوسِ البشر بل وتحذف ملايين الصور والمشاهد الحزينة التي اختزنتها النفوس وأصبحت مجهدة بها.. خائفة من استرجاعها في أي لحظة.
تركت الهاتف وتصويره ولقطاته، وفضلت الاستمتاع بهذا المنظر المهيب.. فمهما بلغت التقنيةُ ذروتها فلن تملأ جوع الروحَ إلى مزيد من الجمال .. ولن تسترجع زمنا مضى مهما طالَ انتظاره.. ولن تُشاركَ اللحظةَ مهما كانت دقتها وبساطتها.. تركته في حقيبتي الصغيرة.. فالمكان لا يسع لفكرين مشتتين ولا إلى قلبين ثائرين وذاكرتين مفعمتين لا تستطيعان تحمّل المشهد وإن كان خامدا.
الأشجار الطوال لا أدري كيف استطاعت أن تقتنص المكان لتكون ضمن إطار المشهد وعنفوانه.. اخضرار يلامس بُـنِّيـةِ الجبل المتشقق ليحيل الظلمةَ التي لم تانس للضياء.. وسيقان طويلة جدا.. أبت الا ان تستقي من أُم الجدولِ وساقيتهِ الأولى بعيداً عن الغيوزِ الصغيرة التي تَعُبُّ الماءَ عَباَ وكأنه قطع بلورية صافي يرى باطنها من ظاهرها.
سالزبورغ .. المطر وأقفال الحب
لعلها ليست المرة الأولى أن يستقبلنا المطر بنقائه ويودعنا بشفافيته المطلقة.. فالوشاح الأخضر المشرب بالبياض يرافق الحافلة المتجهة الى سالزبورغ ثم الى ميونيخ حيث ختام الرحلة، السحب البيضاء المعلقة بين سفوح الجبال وسهولها المنبسطة.. تنتظر الأمر لافراغ حمولتها الزلال على المراعي الممتدة على مد البصر.. ولتأتِ سُحبٌ أخرى في قائمةِ الانتظار رَيًّا لمساحاتٍ أخرى شاسعة.
أشجارُ الصنوبر والمطاط والاحراج الكثيفة تسمح بما يكفي ظلا وضياء لحقول الزُّراعِ وبساتينهم الواسعة، والبساط الاخضر الذي يسدل ستاره على أُبهةِ المكان لا يعي كم شرح صُدورًا وافاقَ افكاراً من غفوتِها، وصلنا سالزبورغ وما زال المطرُ مرافقا لنا ولآلاف الحافلات والمركبات منذ انطلاقتنا من زيلامسي حتى مشارف سالزبورغ، هذه المدينة العريقة التي تختلط فيها موسيقى موزارت بقصص الحب وأقفال العشاق على نهر السالس.
على بعد امتارٍ من جسر نهر السالس وقريبا من متحف موزارت تقعد اليزابيث في دكانها الصغير متوارية عن الجميع لتبيع أقفالا ملونة وأقلاما للكتابة عليها، يهرع الزوار عند وصولهم إلى شراء الأقفال ووصدها بإحكام على جانبي السياج الحديدي الممتد على طول النهر وصولا الى حديقة الميرابل وميدانها الكبير ومئات المحلات والمطاعم.
أكثر الزوار يحاولون خوض التجربة للتعبير عن شغفهم بقصة الحب التي يعيشونها، بل أن الجسر يحمل الكثير من الحروف والسماء العربية التي أصرّ أصحابها على وضع بصمتهم بين اقفال المحبين، بسام الاسماعيلي – مرشد الرحلة – حكى قصةً جميلة، حيث يُعتقد أن للقصة جذورًا في الثقافة الشعبية الأوروبية، تخلد قصة حب شبيهة كتلك التي عاشها روميو وجولييت، بل ان رواية (ثلاثة أمتار فوق السماء) للروائي فريدريكو موكيا، وهي روايةٌ إيطاليةٌ شائعةٌ بعد تحويلها إلى فيلم سينمائي، تخلد مشهدًا غرامياً حيث يضع بَطَلاَ الرواية قفلاً من أجل تخليد حبهما وينقشان عليه اسميهما ويلقيان بالمفتاح في النهر، ويروي البعضُ قصة حب وقعت في قرية بانجكا الصربية أوائل القرن العشرين، عن غرام معلمة اسمها نادا بجندي صربي اسمه ريلغا. كانا يلتقيان على أحد الجسور، وبعد فترة سافر الجندي ليشارك في مهمة للجيش في اليونان وهناك أحب امرأة يونانية، ما أدى إلى وفاة حبيبته جراء صدمتها. ومنذ ذلك الوقت بدأت فتيات القرية يطلبن من شركائهن وضع أقفال الحب على الجسر حيث كان يلتقي نادا وريلغا، إحياء لذكراهما.
سيمفونيات موزارت ..
هادئة بطبعها
المطر لم يتوقف لساعات طوال، وعلى اليمين كان متحف موزارت الذي كان ضمن جدول زيارتي لسالزبورج، فلا تكتمل زيارة هذه المدينة من دون زيارة متحف موزارت، الموسيقي الذي شغل دنيا الفن ولا يزال. بعد أكثر من 250 سنة على وفاته، يفرض موزارت ظله على المدينة كما يفعل على تاريخ الموسيقى.
يقع المتحف في قلب المدينة القديمة، وبالتحديد في شارع غيتريدغاس، أكثر شوارع المدينة سحرًا، ليس فقط بسبب طابعه المعماري الفريد، إذ وضعت المنطقة بأكملها ضمن قائمة منظمة اليونيسكو للتراث المعماري الفريد اعتبارًا من عام 1997، ولكن بسبب المحال التجارية التي تسبب ازدحاماً لافتاً وتستقطب الآلاف من السياح على نحو يكسر الإيقاع الهادئ للمدينة.
بدأت في الصعود الى بيت موزارت المكوّن من ثلاثة طوابق، تواضع تام كبقية بيوت عامة الشعب آنذاك، وبدأت في التقاط الصور إلا أن موظفة جاءتني بكل هدوء لتهمس في اذني بأن التصوير ممنوع واشارت الى لوحة ارشادية كتبت بالالمانية تفيد هذا المعنى، قلت لها إني صحفي، والصحفي يحتاج للصورة كاحتياجه للحرف المكتوب، تفهمت قصدي وتبعتها الى مديرة المتحف التي اعتذرت مني وقالت تحتاج إلى موعد مسبق للتصوير ويجب ان تخاطبنا بالايميل حتى نستعد لاستقبالك ونوفر لك كل ما تريد من صور ومعلومات .
أسلوب راق في التعامل، جعلني أتفهم نظام المتحف وأكتفي بما تراه عيني.. والكتيب الصغير الذي كتب فيه الكثير عن موزارت وبيته الذي اتجول فيه ملامسا الجدران التي لامستها الأصابع التي غيرت تاريخ الموسيقى.
وتبدو القاعة التي تضم اللوحات التي رسمت لموزارت خلال حياته، أكثر قاعات العرض ثراء وحيوية، خصوصًا حين تظهر اللوحة الزيتية التي لم تكتمل (موزارت على البيانو)، والتي رسمها لموزارت صهره جوزيف لانغ عام 1789. كما تضم المعروضات الشهيرة وبينها كمان موزارت خلال الطفولة، موترة المفاتيح، وبيانات قيثارته، وكذلك آلة الكمان التي استعيدت لاحقًا وهي في حال جيدة وصالحة للعزف. وكان بيترو أنطونيو صنعها خصيصًا للفنان عام 1764، وحصلت عليها موزارتيوم كهدية إلى المؤسسة من شركة (دتسينغر) المتخصصة في تصنيع الآلات الموسيقية، ووضعت إلى جانب آلتي البيانو والكمان المتوسطة الحجم .
وخلال جولة في أروقة المتحف، يتابع الزوار قصصًا لعائلة موزارت مع المنازل التي سكنتها، وتُظهر وثائق أخرى الفقر الذي عانته العائلة، كما تظهر الجانب المرح من شخصية موزارت عبر رسائل تؤرخ جولاته في المدن الأوروبية التي زارها، وتخصص الطبقة الثانية من البيت لموضوع «موزارت في مسرح»، ويعرض بانوراما تظهر تواريخ استقبال أوبرات موزارت في مختلف مسارح العالم وحولها اسكتشات للمناظر المسرحية وملابس أبطال أوبريتاته، ونماذج المرحلة من القرن الـ18 إلى أواخر القرن العشرين، ويشمل البيت مركزاً توثيقياً يضم وثائق وأرشيفات لغالبية القضايا التي تخص موزارت، خصوصًا ظروف وفاته، أو بالأحرى حسم أسبابها.
وفي نهاية الزيارة يمكن الزائر الوقوف بين خيارين: إما تناول الطعام والقهوة في مطعم ملحق بالمبنى يحمل اسم موزارت، أو التجوال في قسم مخصص لهدايا تذكارية تحمل كلها صور موزارت وإشارات إلى أعماله، ومنها قبّعات وأغطية رأس وبطاقات للعب الورق وكؤوس وعلب شوكولا وحقائب ومظلات واقية من المطر وأسطوانات مدمجة تحمل أعماله الموسيقية الكاملة.
زيارة هذا المتحف كانت مهمة جدا بالنسبة لي، رفدتني بأفكار كثيرة تتعلق بإدارة المتاحف وأجهزة الارشاد الآلي وكذلك المرافق الاخرى الضرورية للزائر كالمقهى ومحلات بيع التحف.
الولوج الى عالم سالزبورج الجميل يحتاج لعدة أيام، ومتحف موزارت يحتاج ليوم كامل ووقفة خاصة.. حتى لا تضيع الثلاثية الرائعة المطر والحب والاقفال، التي عشتها ضمن أجمل رحلاتي، فالبشر يهتمون بكل ماهو طريف وغريب وإن خالف معتقداتهم، والعالم أصبح منذ زمن طويل حارة واحدة بتقاسيم مختلفة لوجوه البشر واتجاهاتهم .
جارمش بارتن كيرخن
بدت ميونيخ الألمانية مشمسة في أولى صباحات رحلتنا في أعماقها بعد ليلة ماطرة حتى الصباح.. شوارعها جميلة والسائقون يتمتعون بالهدوء والسكينة على غير عادة الكثير من المدن الصاخبة..
شمس ميونيخ ليست حارقة.. فهي تبعث الدفء والضياء على أرجاء المدينة والشوارع والحقول الخضراء التي ترافق قاطني المدينة وزوارها أينما حلوا وسكنوا.
تقلنا الحافلة إلى مدينة جارمش بارتن كيرخن العريقة التي تقع في ولاية بافاريا بالقرب من الحدود النمساوية التي ودعنا جبالها وانهارها وخوانقها قبل أيام.. فهي في منتصف المسافة بين انسبروك وميونيخ تقريبا.
تعتبر جارمش عروس الجنوب الالماني، وتتميز بريف جميل وساحر وطبيعة خلابة تجد فيها الطبيعة الساحرة من الريف المميز والانهار والشلالات والقمر، وبطبيعتها الخلابة.. فإن جبل تسوغ شبيسته يرتفع 3000 مترا تقريبا.. كأعلى جبل في ألمانيا.. حيث يمكن لزوار الجبل الاستمتاع بمناظره البانورامية الرائعة وبرامجه الترفيهية المثيرة.
تمتاز الثقافة البافارية بالجمع بين الصبغة التقليدية وانفتاحها وحيويتها في نفس الوقت.. فسكان بافاريا يعتبرون من أكثر الألمان تمسكا بالعادات والتقاليد القديمة.. حيث تختلف الملابس البافارية من منطقة إلى أخرى.. فجارمش وبارتن كيرخن كانتا قريتين مستقلتين.
بحيرة ايبسي تمتد طولا لتلتف على عدد من الجبال الخضراء التي يعلوها بياض الجليد سادلا رداءه العريض على أمكنة متفرقة حتى تذوب بعض طبقاته لتجري الأنهار حيث البحيرة الواسعة التي تمخرها القوارب .
جزر ترابية صغيرة تتوزع في أرجاء البحيرة لتكون استراحات للقوارب ولهواة التجديف الذين يجدونها فرصة سانحة لممارسة هذه الرياضات.. وكذلك المشي الطويل بين ازقتها وحاراتها واسواقها ذات الطابع القديم.
جارمش مدينة راقية وعريقة وهادئة.. وعلى تعرجات طرقها يمكن تأمل البيوت والاكواخ ذات الطابع القديم.. فيما يرافق الاخضرار والجمال كل الزوار والسكان حيثما كانت حركتهم.
اليوم الأخير:
ميونيخ.. التراث والثقافة والفن
مضت رحلتنا وآن لها أن تنقضي في التوأمتين النمسا وألمانيا على وقع الجمال وتناهي الفكر إلى عمق الهبة الربانية والإبداع الإلهي لهذه الأماكن الجميلة من العالم.. الماء والحرارة المعتدلة والأمطار الوفيرة والأنهار الجارية أثرت بشكل كبير في اخضرار هذه البلدان ونمو الزراعة والصناعات القائمة عليها.. بل ونمو القطاع السياحي بشكل لافت استفادة من كل هذه المعطيات.. فالحضارات تقوم على مصادر الحياة.. وأكبر مصدر هو المياه.
رحلتنا الأخيرة كانت في أرجاء ميونيخ بما تضمه من إرث معرفي وثقافة قديمة وطراز عمراني فريد.. ركبنا الحافلة السياحية.. ذات الطابقين.. وفضلنا الطابق الأعلى المفتوح حتى نزداد متعة ونتمكن من التصوير ومشاهدة المعالم السياحية عن قرب.
فهذه المدينة تعتبر عاصمة لولاية بافاريا وثالث أكبر مدينة في ألمانيا، تقع على نهر إيزار على هامش جبال الألب البافارية، تأسست في عام 1158 وتفتخر اليوم بعدد كبير من المباني القديمة والحدائق ولا سيما الحديقة الإنجليزية التي تعد أكبر حديقة عامة في المناطق الحضرية في العالم، فضلا عن المتاحف والمعارض التي تحتاج إلى بضعة أيام لاستكشافها.
وعن هذه المعالم أقدم نبذة قصيرة نقلا من الكتيبات التعريفية التي حصلت عليها من تلك المواقع :
– الحديقة الإنجليزية
تقع على مساحة 3.7 كيلومتر أي ما يعادل 373 فدان، وتعتبر إحدى الحدائق الرائعة والشعبية في ميونخ حيث تحتوي على عدة معالم هامة منها معبد يوناني ومعبد صيني ومقهى رائع يقدم الشاي الياباني اللذيذ، مما جعل من الحديقة مكانا مميزا يجذب العديد من الزوار.
– قصر ريزيدينز بالاس
افتتح قصر ريزيدينز الكبير أو متحف الإقامة عام 1920، ويعد من أرقى متاحف أوروبا، تم تفجيره بشكل كبير في الحرب العالمية الثانية، ثم بدأت عمليات إعادة ترميمه في عام 1945 وأعيدت الأعمال الفنية قدر الإمكان إلى مواقعها الأصلية.
– قصر نيمفينبورج
يقع في غرب ميونيخ بمنطقة نويهاوزن نيمفينبورج، وتحيط به حديقة واسعة وعدة أكشاك ملكية صغيرة، يُعتبر أحد أكبر القصور في أوروبا كان المقر الصيفي السابق لعائلة ويتيلزباخ لفترة طويلة.
ميدان مارين بلاتس
ظلت هذه الساحة مركزا للمدينة منذ 1158 حيث كانت الأسواق والبطولات تقام هنا، سميت بهذا الاسم بعد تدشين المارين زولي Mariensäule، وهو النصب الذي شيد في مركزها عام 1638 للاحتفال بانتهاء الاحتلال السويدي. وكان لزملاء الرحلة زيارات يومية لهذا الميدان.. فهو أشبه بمحطة التقاء وتسوق.. بالإضافة إلى إقامة الكثير من الفعاليات الثقافية لاسيما صباح الأحد من كل أسبوع.
– المتحف الألماني
متحف متخصص في التقنية والعلوم، تم تأسيسه في صيف 1903 من قبل اتحاد المهندسين الألمان في عهد القيصر فيلهلم الثاني وافتتح في شهر نوفمبر عام 1906، هو ليس فقط أول المتاحف التقنية في وقته ولكنه أيضا الأكثر زيارة والأكبر مساحة إذ يقع على مساحة تبلغ أكثر من 50 ألف متر مربع، وتعرض فيه النماذج بحجمها الطبيعي، مثل السفن، المولدات الذريه، المطاحن الهوائية، المضخات الصناعية، المحركات العملاقة وحتى الطائرات.
– الحديقة الأولمبية
تأسست الحديقة الأولمبية الواقعة شمال ميونيخ والممتدة على مساحة قدرها 3 كم مربع لإقامة الألعاب الأولمبية الصيفية عام 1972، فالملعب المغطى على شكل خيمة واسعة وعريضة وكذا البرج الذي يبلغ ارتفاعه 290 مترا يعتبران معلمين تتميز بهما المدينة منذ ذلك الوقت إضافة إلى الملعب الأولمبي والقاعة الأولمبية.
ملعب أليانز أرينا
هو ملعب كرة القدم الرئيسي في مدينة ميونخ، أنشئ خصيصاً لاحتضان مباريات كأس العالم 2006 بألمانيا، وتم افتتاحه في 31 مايو 2005، يعتبر من أجمل ملاعب العالم وأكثرها استيعابا للجماهير حيث تصل طاقته الاستيعابية إلى 80,074 متفرج، وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى شركة التأمينات الألمانية أليانز بعد قيامها بتمويل المشروع، وسيحمل الملعب اسم الشركة لمدة 30 سنة.
عالم و متحف بي إم دبليو
هو مقر بي ام دبليو في ميونيخ وهو بمثابة المقر العالمي لمدراء السيارات في بافاريا منذ أكثر من 30 عاما، تم تدشين المبنى التاريخي في عام 1999، ويعرض في المتحف كل شيء أنتجته بي إم دبليو من سيارة الديكسي Dixie من أيام ما قبل الحرب وسيارة الإزيتا Isetta الفقاعية وسيارات السبق، إضافة إلى تشكيلة هائلة من المحركات والآلات الهوائية والدراجات النارية والسيارات من كل الأنواع، وأكثر من 400 نوع وتصميم لمحبي التعمق في تاريخ الهندسة والإنتاج.
– متحف ألت بيناكوثيك
متحف فني يقع في منطقة كونستاريل، وهو واحد من أقدم المعارض في العالم، يضم واحدة من المجموعات الأكثر شهرة من اللوحات القديمة، الاسم بيناكوثيك بمعنى قديم ويشير إلى الفترة الزمنية الفنية التي يغطيها المتحف وهي الفترة التي تسبق القرن التاسع عشر.
مبنى دار البلدية الجديد
تأسس على الطراز القوطي في عام 1908، ويمتاز بأجراسه الكثيرة التي تدق خلال اليوم فتجذب انتباه المارة، كما تتخلله مجموعة كبيرة من التماثيل رائعة الصنع.
11- حديقة حيوانات هيلابرون
أنشئت عام 1911 على مساحة 36 هكتارًا، وتعد أقدم حديقة حيوانات في العالم، عاصرت في تاريخها الطويل مجموعة من التحديات التاريخية والاجتماعية،، وتحتوي على قرابة 17 ألف حيوان تتوزع على 700 من الأنواع النادرة، ويرجع عمر أشجار الحديقة إلى ما قبل بداية الإنشاء في 1911.
كنيسة آسام
بنيت في منتصف عام 1746 على يد الأخوين كوزماس وكورين، وتعتبر من أهم المباني والكنائس في جنوب ألمانيا، حيث تمتاز بروعة هندستها المعمارية والإتقان في بناء واجهتها لتكون تحفة فنية تجذب السياح باستمرار.
– البرج الأولمبي
يقع في الحديقة الأولمبية ويبلغ ارتفاعه 290 مترًا، يوجد في الأعلى مطعم دوار يوفر إطلالة بانورامية على الحديقة الأولمبية ومدينة ميونخ وجبال الألب، كما يتوفر عند مدخله متجر لبيع الهدايا التذكارية.
– متحف بافاريا القومي
يحتوي على قطع أثرية تعود إلى عدة عصور كالعصر القوطي وعصر الباروك والروكوكو وعصر النهضة، كما يضم العديد من التحف والأعمال الفنية المصنوعة من العاج، وتضم المقتنيات المتنوعة بالمتحف مشغولات فنية يدوية وتراثية وأعمالا فنية من خارج ولاية بافاريا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق