إصداراتنا

خطوة إلى رواية ( الرّجل الرابع ) للكاتب محمّد بن سيف الرحبي *

محمود حمد

   هل على الذّات أن تتهشّم كثيرا لتعرف المسافة بين الحبّ والفقد؛ أو لتدرك بروح الصّوفي موضوعات الوجود الأكثر حساسية في علاقاتها العاطفيّة، وكأنها تتعمّد ذلك الاستتار بالمحدّدات العقليّة التي كثيرا ما تتقاطع مع الموروثات، أو ما يمكن أنْ يكون ضدّ الحريّة؛ الحرية في الموقف والتفكير والحب والمنحى، إنّه الصّوت الأول للذات الحقيقيّة الإنسان في اعترافه الداخليّ عاطفيّا.

   رواية (الرجل الرابع)؛ هي هذا الاعتراف في عمل تشتغل فنّيته على مباشرة الحدث، مع الاختفاء منها خلف توظيف لغة شعريّة كما يسمح لنا أنْ نسمي اللغة الأدبيّة المختلفة أحيانا، وبين الشاعرة والفيزيائي مساحة يوظّفها الكاتب في مدّ جذور التواصل العاطفيّ بلغتين تحقّقان العلاقة بين الأشياء بمنظور الترابط السّببيّ والعاطفيّ؛ لغتين في قلب واحد، وهما عالمان في روح واحدة، هذه المنطقة الخطرة فينا نحن البشر لا يجرؤ الموجوعون فيها على طرحها أمام ضوء شديد، يفضح حقيقتنا وضعفنا وتناقضنا الذي يرتبط باختبائنا خلف ما يلهينا عن آلام مشاعرنا واغترابنا، وتُنصف الرواية بطليها المتشابكين بتوزيع أدوار الكشف والاعتراف ورسم ملامح الحياة الخاصّة، وإظهار الجانب الحقيقيّ، كما تحدّد المشترك بينهما في الحبّ والفقد والاغتراب والحريّة.

   المشترك في الخوف الصامت من عمق يؤدي إلى الانتصار على العجز أمام صدق المشاعر والقسوة على الذّات، وتقرير المصير؛ “انسحبت اليد من اليد، الدم من قلبك، والخوف من قلبها أيضا، ولو قليلا، ولو مؤقّتا، قالت: “سأتزوّج بعد شهرين “(ص49)، على الرغم من الإيمان بحقّ الروح في الروح؛ وهو ما يصنعه الفارق في هذه الحبّ، والذي يؤكده الاعتراف في قول الحبيبة؛ “بل أحتاجك بشدّة كل حين، لأنك مختلف، لأنك حالة حب خاصّة واستثنائيّة في حياتي”(ص59)، وهو ما يصدمنا كثيرا في لحظة خوفنا من المجهول الذي ينغرس في جزيئيّات علاقة حبّ متأخرة، أو تعالق مع الأشياء التي تحيط بالآخر الذي يحقق لنا الاعتراف بنا حبا وشغفا.

   “ما حاجتي للأرض طالما أنت سمائي”(ص68)، إنه الحقيقيّ الذي يسحقنا بالشعور الجميل إثر صدمة الذات بطبيعة الإيمان التي تولد من القريب البعيد، فتثبت الرواية هذا الجميل المؤلم بعد رحلة البحث أو الهرب من السكون الذي ربّما تنبته أي تجربة؛ “لكنّك موقن أنها ليست كأي أنثى..”(ص174)، ومع ذلك كسرتها؛ و”هربتَ منها.. حين لاذت بكلّها.. إليك..”(ص210)، وهو يُدفع كثيرا في هذه المساحة. وبعد ماذا، بعد الكثير من التضحيات؛ تلك التي ندفعها كثيرا، تلك التّشظيات العاطفيّة والتيه الذي تمارسه الحاجة إلى الحبّ؛ فنبحث بصدق وخداع للاكتفاء والامتلاء؛ فإذا ما كان الحقيقيّ تكسّرت أرواحنا التي أنهكتها المسافات، و”كم تركت من قلبك قِطعا لدى كل حبيبة، حتّى كأن الطبيب لم يُبقَ له ما يراه في قفصك الصّدريّ”(ص11)، وكم آخر نحتاج ليظهر هذا الحقيقيّ لنا، وقد نفشل في حالة ضعف، أو خوف، و”حينما أعرف نفسي سأحدّد قدرتي على الحبّ، ببساطة: تائهة “(ص31)، نعم تكشف الرواية عن هذه الطبيعة في البحث عن الحقيقي الذي قد يعود مزيّفا، وقد يستمر حقيقيّا لكنه قاس على الذات. 

 يشكّل اغتراب الذات بعدين عميقين في الرواية؛ البعد الرّوحي والبعد العاطفيّ، وينقسم الأول إلى الوجوديّ والجغرافيّ، فبطل الرواية يترك العراق ويترك خلفه كثيرا من المُثقلات؛ لينجو بنفسه، لكن الحنين وإنْ لم يصرخ في الرواية؛ لكنه تجسّد في صورة الروابط والترابط القلبيّ والاجتماعيّ؛ إذ تشبه هذه القرية هنا تلك البعيدة في الوطن هنا، وأنت “في غربتك وحزنك تبدو كآخر سارية غطّاها الضّباب”(ص134)، “أيّهذا الموجوع بمرأى القطارات تذهب مغادرة لم يبقَ في المحطّة إلّاك” (ص134)، وبقيت هنا “صادقت وحدتك، لكنها مع مرور الأيّام أنبتتْ أنيابا” (ص136)، وهذا التحديد يفصل بين هذين البعدين؛ فما تحمله الذات قد يثقلها حين تفشل في المحافظة على الحقيقيّ عاطفيّا.

   وتصل الرواية إلى هذا التلاشي؛ فما يصعب الاعتراف به يسهل تملّصه من بين جزيئيّات الذات؛ وقد يكون الصّمت بالمعنى المؤلم عاطفيّا أقسى عليها من التّشظيات. “وكان الطريق للمستشفى يأخذك سريعا، تمسح عيناك الأمكنة بوداعيّة لم تتوقّع حدوثها طوال ثلاثة عقود على هذه الأرض”(ص219)، فكأنّ الزمان والمكان خُدعة يرسمها الحرص على الحياة بالحبّ والاعتراف بالحضور، ويكون الاعتراف كذلك تلاشٍ آخر، أو شكلا آخر للهزيمة أو الخذلان؛ “أصاب جسدي الفزع مما فعلت أيها الرجل، أصبت جسدي برحيلك الذي أخشى أنْ يتحوّل إلى جمر يحرق بقيّة حياتي”(ص229)، لكن الانتصار على قمّة هشّة في ساحة الحبّ يولّد اتّهاما للذات وعقابا بالمقاومة؛ وعلى الحريّة في كلّ شيء قامت صورة أخرى للانتصار لبطلة الرواية؛ حبيبة الرجل الرابع؛ “أخبرتهم في البيت أني لن أعود إلا إلى نفسي”(ص241)، إنه اعتراف؛ ولا يعترف الكثيرون منّا. 

*نشرتها جريدة الوطن في عددها الصادر 30 سبتمبر 2020

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق