حسن المطروشي هذه وثيقة أقيّدُها للتاريخ، ضد السفاح الغاشم المدعو كورونا كوفيد التاسع عشر. هذا القاتل المخاتل المراوغ الجبان، الذي لا يملك الجرأة على المواجهة المكشوفة. ولا يملك الشجاعة الكافية للنزال الحر.. نِدًّا لِنِد .. أو محاربا لمحارب. وإنما يتسلل بلؤمٍ خلسةً في الظلام، ليفتك بضحاياه الأبرياء. لا يفرق بين طفل أو كهل. ولا يفرق بين طيب وشرير. الجميع لديه وقود صالح لحربه الضروس التي يشنها ضد الحياة، دون هوادة. كرجل أشيب يعاني من الأدواء المزمنة، قد أنجو أو لا أنجو من هجمته العبثية، مثل الآلاف ممن هم على شاكلتي، الذي رحلوا دون أن يلقوا على أحبتهم تلويحة وداع. ولكني أسجل شهادتي هذه وأتركها على ذمة التاريخ. فليكتب التاريخ أن ساعة الحياة توقفت، وارتبكت سيرورة الوجود. وأن الناس فقدوا أحبتهم في هذه المجزرة غير المتكافئة. وليكتب التاريخ أن ثمة آلاما كبيرة حدثت على هذه الأرض. وأن هناك الكثير من الخوف والفزع أصاب البشرية جمعاء. وليكتب التاريخ أن الكون بأسره دخل في حالة شلل عظيم، وأن الأرض التي نسكنها تحولت إلى سجن هائل، وأن الهواء الذي نتنفسه بات مصدر ريبة ورعب لنا. ما أقسى أن تخاف من نسمة الهواء. ما أقسى أن لا تحتضن طفلك. ما أقسى أن لا تُقَبِّل جبين أمك أو أبيك. ما أقسى أن تقيس المسافة بينك وبين أخيك بالمترات! ما أقسى أن تبقى حبيسا في سجنك المنزلي، مثل الفئران والسناجب والقنافذ المرعوبة، دون أن يكون لديك أدنى علم بنهاية هذا الكابوس الخفي. وليكتب التاريخ أن العالم توحد في مشهد جنائزي كبير. الداء ينتشر في كل بقاع الدنيا، مثل حرائق الغابات المترامية، التي تضطرم بشراسة متناهية، والموت على إثره يخطف الأرواح على حين غرة. وأن المقابر هي المساحات الوحيدة التي اتسعت وتمددت. وليكتب التاريخ أن الاسم الوحيد الذي بات يتردد: على الفضائيات وشاشات التلفزة، وفي نشرات الأخبار، وأناشيد الأطفال، وأدعية الأمهات، وصحف الصباح. وعلى واجهات المحلات المطفأة، وفي العيون الخائفة، وعلى أسرة المستشفيات، وفي أحاديث العائلات وربات البيوت، وفي دردشات الواتس آب والتويتر والفيس بوك، وفي النكت والإشاعات المتطفلة، وفي الوسوسات الخفية والنجوى والعلن ... هو السيء الذكر: كورونا. وليكتب التاريخ أن أرصفة المدن غادرت بلا عابرين، وأن المحطات فارغة بلا منتظرين، وأن الطرقات بلا عائدين، وأن المطارات بلا مغادرين. فلا باريس تسهر على ضفاف نهرها العظيم. ولا لندن تلتفت للمطر يبلل أثواب فتنتها. ولا روما تصغي لسنابك خيول فرسانها العائدين من الفتوحات. أما الطائرات فهي جاثية في أماكنها كالأشباح تحرس ظلال الأبدية. وحقائبنا باتت مثل زوجاتنا الوادعات، نرمقهن بوجل وحنين عند الدخول والخروج "للضرورة القصوى". وليكتب التاريخ أن دور العبادة لم تعد مكانا للسكينة. فقد بات الأذان يصدح بين الجدران المعتمة، والمؤذن يردد "صلوا في بيوتكم". والكنائس تقرع أجراسها للفراغ والسكون. والمعابد تضيء شموعها للغائبين. سجل أيها التاريخ أن مكة كانت تحتضن بيتها العتيق دون حُجّاجٍ أو معتمرين أو طائفين أو ساعين أو ملبين! وليكتب التاريخ أن صروح العلم قد تعطلت. فقد نسي الطلاب رائحة الكتب وزحام الباصات، وغاب التلاميذ جميعا عن طابور الصباح وتحية العلم. وبقيت كراسي الكليات والجامعات تنفض غبار الفراغ. وليكتب التاريخ أنا مررنا بعصر نعيش فيه "عن بعد". سلامنا عن بعد. كلامنا عن بعد. جلوسنا عن بعد. ننام ونصحو عن بعد. نحلم عن بعد. حتى موتنا ووداعنا .. عن بعد. وليكتب التاريخ أن أبوابنا بقيت مقفلة، مهملة، منسية. لا يطرقها عابر، ولا يمرها زائر ... ليس ثمة سوى صفير الريح ومواء القطط السائبة. وليكتب التاريخ أن رجلا أشْيَباً، مرعوباً، مٌعْتَلًّا، كتب هذه الوثيقة الاحتجاجية، في ساعة متأخرة من الليل، ثم ألقى بها من النافذة .. ونام!