الفني

“الأرض بستان ألوان”

عبدالرزّاق الربيعي

« فن الأوبرا لا جنسية، ولا وطن له، إنه كوني»
هذه الجملة قالها الشاعر أحمد الدوسري بعد عرض أوبرا «ابن سينا» للمخرج الإيطالي الشهير اتيلو كولونيللو، وقدمتها مؤسسة قطر للتربية والعلوم والثقافة على مسرح قلعة الشقب في أكتوبر 2003 في الدوحة، وظلّت ترنّ برأسي طويلا، فكلّنا نعرف أن فنّ الأوبرا نتاج ثقافة غربيّة، منذ ظهوره في ايطاليا في القرن السادس عشر، وظلّ العاملون به يتبعون أساليب الأداء الأوبرالي التي ظلّت وفيّة لبيئتها، ولم تغادرها، فكيف يمكن تقديم عربي أوبرالي عربي؟ هذا السؤال جعلني أحرص على التوجّه للدوحة لحضور عرض «ابن سينا»، الذي شارك في تقديمه رضا الوكيل، ورشا رزق وجورج ونيس، ولبانة قنطار، وحنان الجندي، وهم فنانون عرب متخصصون في الغناء الاوبرالي، ورغم أن المخرج ايطالي إلا أن النص لشاعر عربي، والرقصات قدّمتها فرقة كركلا، بقيادة أليسار كركلا، والمكان والانتاج عربي،والحكاية تدورحول الطبيب الفيلسوف «ابن سينا»، لذا اعتبرنا ذلك العرض الأوبرالي عربيّا، وظلّت تلك المحاولة يتيمة، أخيرًا تذكرت هذا العرض، وأنا أتوجّه لدار الأوبرا السلطانية مسقط لمشاهدة عرض «عنتر وعبلة» الذي اختتمت به الدار موسمها(2018-2019)، وقدّمته فرقة دار أوبرا لبنان، واعتبره مخرجه، ومصمم رقصاته، ومناظره الفنان وليد عوني «أول عرض أوبرا من انتاج، وتقديم فريق عمل عربي بالكامل، لتمنح جماهير العالم العربي فرصة الاستمتاع بعروض الأوبرا الحقيقية، وتذوق جمالها، وعذوبتها، بلغتهم العربية في إطار سياق شامل من الغناء الراقي، والأحداث الدرامية الفنية»، ولكي نعرف الذي أسفرت عنه تلك الفرصة من متعة، علينا أن نتوقّف عند النصّ الذي عمد مؤلفه إلى العزف على وتر التراث العربي، فاستوحى مادته من قصة «عنتر وعبلة» المعروفة لدى الجميع، والتي قدّمت كثيرا في السينما، والتلفزيون، وكان الإطار العام لها هو الحب الذي لم يتكلّل بالزواج بسبب لون بشرة عنتر الموروث عن أمّه الأثيوبية بنت سيّد قومها التي وقعت أسيرة لدى قبيلة بني عبس، وأصبحت جارية لدى سيّدها شدّاد، وحين ولد (عنتر) تنكّر لأبوّته له، لكنّ شجاعة (عنتر) أجبرت القبيلة الاستعانة به كلما حدث نزال بينها، وبين قبيلة طيء، المناوئة لها، غيرها أن (عنتر) يفقد شعوره بالأهميّة أيام السلم، ليعود لمعاناته، وحالة الإقصاء، فلا يُلتفت إليه، وقد عبّر عن هذا الشعور بمرارة عندما قال:
ينادونني في السلم يابن زبيبة
وعند صدام الخيل يا ابن الأطايب
ولولا الهوى ما ذلّ مثلي لمثلهم
ولا خضعت أسد الفلا للثعالب
ستذكرني قومي إذا الخيل أصبحت
تجول بها الفرسان بين المضارب
فإن هم نسوني فالصوارم والقنا
تذكرهم فعلي ووقع مضاربي
فيا ليت أن الدهر يدني أحبتي
إليّ كما يدني إلىّ مصائبي
وبالمقابل كانت (عبلة) مغرمة بفروسية (عنتر)، وشجاعته، لذا أحبّته، ولايوجد سبب يحول بينها وبينه سوى سواد لونه، وتنكّر عمّها لنسب حبيبها إليه، حكاية فيها الكثير من الخصوبة لبناء نص درامي، خصوصا أن العرض الذي أنتجته أوبرا لبنان، وقدّمته على خشبة مسرح دار الأوبرا السلطانية، ساهم به أكثر من 100 مشارك بين راقص، ومطرب، وعازف، بينهم أطفال عمانيون، في عرض أنتج، وقدّم للمرّة الأولى على مسرح «كازينو لبنان» ببيروت عام 2016 م، وقد وضع موسيقاه مارون الراعي الذي له جهود في فن الأوبرا، وله أعمال أوبرالية من بينها «كارمن»، و»إكسير الحب»،وقد وضع مع السبرانو اللبنانية يولا يونس منهجا دراسيا لغناء الأوبرا العربية، وقام بقيادة الأوركسترا الموسيقي المصري ناير ناجي، وقد جسّد أدوار العرض وديع أبي رعد الذي قام بدور «عنتر»، والسبرانو لارا جوخدار، ومكسيم الشامي الذي أدى دور «مارد طي» ،والتينور بيار سميا الذي قام بدور «شيبوب»، والسبرانو منى حلاب بدور سلمى ورالف جدعون بدور شداد وشربل عقيقي بدور «عمارة عبس»
فكيف تعاطى كاتب النص (انطوان معلوف) مع المادة الأصلية للعرض، المبنية على أحداث وقعت قبل ظهور الإسلام؟وهل تمكّن من صياغة مادة جديدة تصلح لعرض أوبرالي يجري تقديمه عام 2019؟
لقد جعل المؤلف الصراع بين قبيلتي بني عبس، وطيء خلفية تنطلق منها الأحداث، وخلافا لمسرحية «روميو وجوليت» التراجيديا الشكسبيرية، نجد في هذا العرض أن المتحابين من قبيلة واحدة، وليس من قبيلتين متصارعتين، كما رأينا في (روميو وجوليت)، لكن الصراع بين القبيلتين يبقى نوعا من التصعيد الدرامي وضعه المؤلّف مرتكزا، ليوفّر حلّا خارجيا لمحنة (عنتر) ذي البشرة السوداء، والنسب الذي يتعمد والده نكرانه، فيعاني من التمييز، والاقصاء في قبيلته، وكلّما تصاعدت وتيرة الصراع الخارجي، ترتفع أسهم (عنتر) لأنه يكون لصالحه، ويصبّ بمصلحته، فتلجأ قبيلة (بني عبس) إليه كلما تشتدّ وتيرته، بالوقت نفسه، يبحث (عنتر) عن سبيل ليصل إلى (عبلة)، ليتمكن من الزواج منها، ولم يجد سوى تلبية حاجة القبيلة له، لتكون تلك الحاجة جسرا يوصله إلى ما يريد، لكنّ القبيلة تتنكر له مثلما تنكر والده، ويُنفى خارجها، ويتغيّر مسار الأحداث عند ظهور فارس جبار من قبيلة طيء، يعمل تاجر سلاح، ليكون منافسا له على عبلة، التي ترفض عرضه، لأن قلبها مغرم بعنتر، لذا يدعوه للمبارزة، وحين يعلم الأخير بذلك يسارع للعودة من المنفى للدفاع عن شرفه، وشرف قبيلته، ويخوض المبارزة بروح باسلة، ليخرج منها منتصرا.
لقد أراد المؤلّف للصراع بين القبيلتين أن ينتهي عند هذه النقطة، ليعمّ السلام، والهدوء، والطمأنينة الصحراء التي جرت فيها الأحداث، كما أشارت الجمل الوعظيّة التي جاءت على لسان أطفال القبيلة، رمز المستقبل، وهم ينشدون» الأرض بستان ألوان»، ويشاركهم جميع من على الخشبة في نهاية سعيدة باهتة، لعرض ركّز على مشكلة التمييز العنصري على أساس اللون، في عصر يعاني فيه الناس من الكثير من المشكلات السياسية، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة المعقّدة عبر سياقات تفتقر للإقناع، وهذا أهمّ عنصر يحرص على مراعاته المشتغلون بالدراما !
لقد كتب(انطوان معلوف) النص بلغة سردية توصيلية مباشرة تخلو من روح الشعر، وتفتقر للصور الفنية، والبلاغة، والخيال، بل بلغت في أحد المشاهد درجة مضحكة عندما تقول (عبلة) حين تريد أن تعبّر عن شدّة حبّها لعنترة، وتعلّقها به» صرت أنا عنترة، وعنترة صار عبلة»! وتتكرّر العبارة على لسان عنترة في مشهد آخر، لتكون «صرت أن عبلة، وصارت هي عنترة»!!، لذا حاول أن يرفع إيقاع لغة العرض من خلال الاستعانة بأبيات لعنترة.
وعموما أرى أنّ اللغة المكتوب بها النص من أبرز عيوب العرض، وجاءت الحوارات، كأنّها مترجمة، مع الحفاظ على السجع، فلم تنتمِ تلك الحوارات للشعرالموزون، ولا لقصيدة النثر، بل كتبت بلغة جافّة، لا ماء فيها، ولأنّ النص لم يسعف الملحن، فافتقرت الألحان إلى التلوين في الأداء، والتنويع، أما من ناحية السينوغرافيا، فلم يستثمر المصمّم الإمكانات الهائلة التي تتيحها خشبة الأوبرا للمشتغلين عليها، ويبدو انه صمّمه للعرض على خشبة مسرح عادية، فجاءت المناظر جامدة، واعتمد على حركة المجاميع التي ملأت الخشبة، وكنت أتمنى إعطاء تلك الخشبة أبعادا جمالية أعلى، بحيث تتماهى الايقاعات الشرقية، والاستعراضات الراقصة،مع البناء الكلي للعرض لنشعر أننا أمام منطلقات جديدة في عرض قادر على إبهارنا، ويصبح بالإمكان شدّنا لفن جديد على ذائقة الجمهور العربي، فلم تتمكّن الاستعراضات من رفع إيقاع العرض الذي جاء على مدى 70 دقيقة تخلو من الشدّ، والجذب، ويبقى صوت السبرانو لارا جوخدار التي أدّت دور(عبلة) هو الأقوى على الخشبة، في عرض يمكن أن يكون تجربة أولى في مجال بقي بابه مغلقا على طارقيه في المسرح العربي ،ولم تتجاوز المحاولات فن» الأوبريت» الذي عرفه المسرح العربي مع بدايات القرن العشرين، فهل سيبدأ مع «عنتر وعبلة»عصر فن الأوبرا العربي؟
هذا ما ستجيب عنه التجارب القادمة.  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق