السياحي

رواندا .. القَصِيـدةُ التيِ عَجَـزَ الشُّعـراءُ عن إتمَامِها

أسبوعانِ فقط بينَ العَودةِ من سَفرٍ بعيدٍ والاستعدادِ لسَفرٍ آخرَ أبْعد .. من أوروبا التطور والمدنية الى افريقيا الناشئة بكل اقتدار، وفي كِلتا القارتينِ يكْدحُ الانسَانُ الى ربهِ كدحًا فمُلاقيه، الحقيبةُ كما هي، مازالت في مكتبي المنزلي، والكتبُ والرواياتُ التي رافقتني الى النمسَا والمانيا بانتظارِ استكمالِ فصولِها، ملصقاتٌ ملونةٌ واشاراتٌ سريعةٌ علىَ نشراتٍ سياحيةٍ كثيرةٍ لجارمش وسالزبورغ ومتحفِ مُوزارت تمتلئ بها حقيبةُ اليدِ الصَّغيرةِ، حتى محفظة البطاقات البنكية لم تسلم من الطلاسم والنقاط التي تحضرني وقتها لمشروع الكتابة.

زارها: سعيد بن خلفان النعماني

زيارةُ رواندا جاءَت عَرَضًا سَريعًا، فكانتْ المناسبةُ افتتاحُ جَامعُ الريَّانِ بالعاصِمةِ كيجالي الذي أوصى ببنائهِ الشيخُ خلفان العيسري – رحمه الله -، وافتتحهُ فضيلةُ الشيخُ كهلان بن نبهان الخروصي مساعدُ مفتيِ عامِ السلطنةِ، فكانت أكثر من فرصة فقد زرت جارتها بروندي عام 2014، وعند مغادرتي لها في مطارِ عاصمتهِا بوجمبورا، همسَ لي احدُ الزملاءِ وقد أتىَ مُسرِعًا من رحلتهِ البريةِ الى رواندا حتى لا تفوتهُ الطائرةُ الاثيوبيةُ المتجهةُ الى مسقطَ، قال: مهما أعجبت ببروندي، فلن تكتملَ الصُّورةُ إلا بزيارةِ جميعِ الدولِ المطلةِ علىَ البحيراتِ العظمىَ، وانصحكَ بزيارةِ رواندا، فهيَ تعيشُ تطورًا سَريعًا بعدَ نكبةِ المليونِ قتيلٍ، وتمرُ الايامُ لتبقىَ دولتانِ فقط وهما ضِمنَ الذاكرةِ لزيارتهِمَا.
تضم البحيرات الافريقية بحيرات فيكتوريا وتنجانيقا ونياسا وتوركانا وألبرت وكيفو، وتشمل المنطقة حاليا دول بوروندي ورواندا وأوغندا والكونغو الديمقراطية وتنزانيا، وتعرضت سابقاً لصراعاتٍ عرقيةٍ قادت إلى مذابحَ رهيبةٍ متبادلةٍ بين أطرافهِا، وهذه الدول أغنى مناطق إفريقيا بالماء، فهي خزانُ ماءٍ ضخمٍ وهي منبع نهر النيل. إضافة إلى ذلك فإن هذه المنطقـة غنيـة باليورانيوم والكوبالت والنحاس والألماس والذهب والأحجار الكريمة، وبها شلالات إنجا التي تكفي لسد احتياجات القارة الأفريقية من الطاقة الكهربائية. والمنطقة على هذا النحو تعتبر من أماكن الجذب قديما وحديثا طمعا في استيطانِها أو الاستئثارِ بخيراتِها.
هدوُءُ الشَّعْبِ .. والحُبُّ مِن أوَّلِ نظرةٍ
ربما يبدأ انطباعُ الزائرِ الىَ أيِّ بلدٍ منذُ ولوجِهِ مَطَارَها او موانئَها الدوليةَ، فابتسَامَةُ موظفيِ المطارِ او تجهُمُهم تعنيِ الشيءَ الكثيرَ للزائرِ، ومَن تطأ قدماهُ كيجالي العَاصِمةَ يلاحظُ الابتهاجَ والسعادةَ على وجوهِ العاملينَ في مطارِها الجميلِ، بل وتفانيهم من أجلِ الخدمةِ للزائرِ دونَ طلبٍ لأيةِ مكافأةٍ، وهكذاَ هيَ المعاملةُ حتى الخروجِ من بوابةِ المطارِ حيثُ يصطفُ موظفو الفنادقِ المستقبلونَ لزوارهِم ببدلاتِهم الانيقةِ وعباراتُ الترحيبِ الراقيةِ، على الرغمِ من ان بلادَهم ليستْ من أبرزِ الدولِ السياحيةِ في العالمِ، كما لا تحتلُّ مرتبةً متقدمةً على الخارطةِ السياحيةِ للقارةِ السمراءِ، ومع ذلك فهي تُشَكلُ أرضَ الحقولِ والبساتينِ، حيث الطبيعةُ النضِرةُ وأحلامُ المزارعينَ البسيطةِ التي تشعُّ أمَلاً وحُباً للحياةِ.
تخيّم على رواندا أجواء تفاؤلية يمكن تلمسها في ابتسامة السكان الدائمةِ وتشبثهم بقوةِ بالأملِ والمستقبلِ الزاهرِ لبلادهم، برغم المآسي التي أفقدت معظم العائلاتِ أفرادًا أعزاء وأصدقاءً مقربين، وفي سبيلِ النهوضِ بالبلادِ وتوفيرِ التعزيةِ للسكانِ، تسعى السلطاتُ في رواندا إلى نشرِ التوعيةِ حولَ النظافةِ ووجوبِ المحافظةِ على المظاهرِ الحضاريةِ للمدنِ، فتم طلاءُ المنازلِ، ووزعت علىَ العائلاتِ حاوياتٌ للمهملات، حفاظاً على نظافةِ الشوارعِ وعلى سلامةِ البيئةِ القليلةِ التلوثِ في رواندا، نظرًا إلى توفرِ أسبابِ العيشِ البدائيةِ والبسيطةِ، دونَ إغفالِ الهدوءِ الظاهرِ في الأزقةِ والأحياءِ، الأمرُ الذي لا يمكنُ العثورُ عليهِ في مدنِ العالمِ الحديثةِ والمتطورةِ.
كيفو… ذراعا الكونغو ورواندا.. المتصافحان كل يوم
عجبٌ أمرُ الجغرافيا وعجبٌ أمرُ السياسةِ.. الكتلةُ الأفريقيةُ في غايةِ الجمالِ وكأنها قارةٌ الاسترخاءِ والدعةِ بعد عمرٍ شاقٍ قُدِّرَ لطاقتهِ أن تهدأَ.. صخبُ المدنِ وحركةُ البشرِ في هذهِ القارةِ الجميلةِ تمتصُّهُ تلالُها المخضَرةُ ووهَادُها السَّحيقةُ التي تتلقفُ أيَّ قطرةِ ماءٍ تنهمرُ من السَّماءِ لتكونَ مخزناً للحياةِ لكلِّ ذيِ روحٍ.
بحيرة كيفو.. وردناهَا وقد بدأَ المساءُ يكتبُ موشحاتِ السكونِ.. خيوطُ الشَّمسِ الذهبيةِ تلتقيِ معَ أمواجِ البحيرةِ الهادئةِ التي انعدمتْ

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق