الفني

المسمع الأخير في حياة المخرج الراحل محمد بن ناصر المعولي

أحمد بن سعيد الأزكي

محمد بن ناصر المعولي هذا الاسم الكبير قد ملأَ الأثير العماني وشغلَ الناسَ على مدى أربعةِ عقودٍ ونيف، منذُ أنْ كانتْ(فاغورة) وأعني بها بلا شك الفنانة القديرة فخرية خميس تخطو خطواتها الأولى في دروب الدراما ولاسيما الدراما الإذاعية وهي تفتعلُ المشكلات مع الأستاذ شنجوب وهو الفنان القدير صالح شويرد من خلال ذلك المسلسل الإذاعي الشهير (الأستاذ شنجوب والفك المفترس) الذي كتبه شويرد في سبعينيات القرنِ الماضي وهو ما يمكنُ اعتباره أولَ مسلسلٍ إذاعي محلي، فالمسلسل الذي دخلَ كُلَّ بيتٍ عُماني لم يكنْ ليدخُلَ إلاَّ عبر بوابة المخرج الراحل الأستاذ محمد بن ناصر المعولي رحمه الله الذي أخذَ يؤسسُ علاقةً وطيدةً منذ البداية بينَ المستمعِ العُماني وإذاعته الحبيبة (الإذاعة العمانية) فقدَّمَ ذلك العمل بإخراج سهلٍ سلس خالٍ من التكلُّفِ والإيغال في توظيف أدوات الإخراج الدرامي الإذاعي فبقيَ المسلسل ُ محفوراً في الذاكرة العمانية جيلاً بعدَ جيل..

رحل (أبو جاسم) عن دنيانا الفانية منذُ أيام، تاركاً خلفه ابتسامته الرائعة التي لم تكن تفارقُ مُحياه وطيبة قلبه وأخلاقه الدمثة بالإضافةِ إلى أعماله المتنوعة والتي يشهد لها الكثيرون بالتميز والتألق والإبداع حيثُ تتجلى خلالها خبرته الطويلة عبر الأثير الإذاعي الدرامي والبرامجي على حدٍ سواء، كيف لا وهو أحد أعمدة الدراما الإذاعية الصَّلبة، بلْ هو أحدُ مؤسسيها إلى جانبِ مجموعةٍ أخرى من زملائه، على سبيل المثال لا الحصر الفنان الراحل والكاتب المخرج الإذاعي المرحوم جمعة الخصيبي، والفنان الكاتب الأستاذ صالح شويرد والمخرج الكاتب الأستاذ خليفة الطائي أطال الله في عمرهما وآخرون ممن عاصروا تلك الفترة السبعينية الأولى من جيلِ الروَّاد، فقد قامتْ الدراما الإذاعية خيرَ قيام على كاهلِ أولئِك الفنانين فهم مؤسسوها الحقيقيون حتى وإنْ كان للآخرين قصبُ السبق في تقديم التمثيلية الإذاعية لا المسلسل المتكامل الحلقات..
رحل أبو(ناصر) المعولي بعد أنْ ملأَ الأثير العماني أولاً زخمًا إبداعيًا متميزًا، ومن بعدِه ملأَ الأثيرَ الخليجي فالعربي حيثُ كانتْ أعماله المميزة تعبرُ حدودَ الزمان والمكان ، فتستقرُ في المهرجانات الخليجية والعربية مثل البحرين والقاهرة وتونس وتحصد جوائزَ شتى من تلك المهرجانات، ليس هذا وحسب بلْ أنْ التبادل البرامجي بين إذاعة سلطنة عُمان وغيرها من الإذاعات العربية الأخرى جعل أعمال المخرج الراحل تتقدم تلك المشاركات والمساهمات حتى تغطي أثير إذاعات التبادل الإعلامي، فكيف لا يملأ الأثيرَ هذا الاسمُ الكبيرُ الذي عرفته أجيال متعاقبة منذ سبعينيات القرن الماضي وهو يقدَّم العملَ تِلوَ العمل ويسبك النجاح لكل الأعمال الدرامية التي قدَّمها بذوقه الرفيع وثقافته الكبيرة واطلاعه الدائم ، فهو بكل صدق المخرج المثقف الذي يحبُ الاطلاع والثقافة.
عرفتُ محمد بن ناصر المعولي قبلَ أنْ ألتقيه في الإذاعة ونصبح زميلين في عملٍ واحد ، ثمَّ مسؤولين إداريين نتشارك مسؤولية عددٍ من الموظفين معاً، فقبل التحاقي بالإذاعة في عام 1982 للميلاد كنتُ أعرفُ المعولي من خلال أعماله الفنية، فقد كان اسمُه مدوِّيا عبر (الإذاعة العمانية) فما يكادُ يمرُ يوم من أيام تلك السنين دون أنْ أسمعَ (إخراج محمد ناصر) فأنا من عشَّاقِ الإذاعة حتى من قبل أنْ أعملَ بها وبقيَ هذا العشق للإذاعةِ إلى يومنا هذا، صارحتُ المعولي ذاتَ يومٍ في جلسة مودةٍ بيننا في مكتبه بأني كنتُ أسمعُ اسمَك كثيرا جدًا يترددُ عبر الأثير وحينها ولقلةِ إدراكي كنتُ أعتقدُ أنَّ صاحبَ هذا الاسم هو لقريبٍ من أقاربي اختفى فجأةً من حياتي حيثُ كانَ يحملُ نفس الاسم فكنتُ أظنك هو، فما كانَ من المرحوم المعولي إلاَّ أنِ ابتسمَ ابتسامةً صادقةً دون أيِّ تعليق، لكنَّ علاقة الزمالة أخذتْ تتطور وتكبرُ بيننا حتى إنه قام بإخراج أحد أعمالي الدرامية الإذاعية التاريخية الأدبية «رياض العاشقين» فهو من محبي الأدب أيضاً..
لقد شكَّلَ المعولي مع الكاتب الدرامي المتميِّز أحمد بن درويش الحمداني ثنائياً ناجحاً فقد أخرج المعولي الكثير من المسلسلات والتمثيليات الدرامية التي كتبها أحمد الحمداني فهو مَنْ أخذ بيد الحمداني بدءاً من تمثيليةِ «هاتف الشك»، مروراً بمسلسل المجيحدي، ومسلسل هو وهي في الميزان، وغيرها الكثير، كما كان هنالك تعاون بين المعولي والدكتور طالب عمران من خلال مسلسل الخيال العلمي «عوالم في جوف الأرض»، وبينه وبين الدكتور المرحوم إبراهيم بن أحمد الكندي من خلال عملهِ الجميل «قرةُ عين»، كما استقطب المعولي الفنان العربي الكبير عبد الله غيث لإلقاء الشعر في برنامجه المميز» من دوحة الشعر العماني» الذي كان قد كتبه الكاتب الراحل أبو الوفا القاضي.
لقدْ أسس المعولي مع مجموعة من المسؤولين في الإذاعة برنامج «البث المباشر» وتميَّز أيما تميزٍ في إخراج حلقة الثلاثاء التي كانت تطرح هموم الشارع العماني، فقد كانت بصمته وشخصيته حاضرةً في إخراج تلك الحلقة فتكاد أنْ تكون حلقة الثلاثاء هي الحلقة الأكثر استماعاً ومتابعة من قبل المستمعين ومسؤولي الدولة لتميزها وجرأتها في الطرح.
إنَّ التطواف السريع جداً حولَ أعمال المعولي الدرامية والبرامجية يظلم بطبيعة الحال ما قدمه الفنان الراحل طوال تلك السنين، ولكن الإشارة إلى بعض تلك الأعمال قد تفي بالغرض في هذا المقال الموجز، لأنني لا أُبالغ حينما أقول إنَّ للمخرج الراحل محمد بن ناصر المعولي ركنًا كبيرًا في مكتبة الإذاعة لاسيما من الأعمال الدرامية الإذاعية سواء المسلسلات أو التمثيليات أشهرها «تمثيلية الأربعاء» التي قدمتها الإذاعة لمدة سنواتٍ عديدة أفرزتْ الكثير من الفنانين والكتاب والمخرجين، فكان المعولي أبرزَ مخرجي تمثيلية الأربعاء التي كانتْ تُؤلَّفُ من قبل عددٍ من الكُتَّاب و الفنانين وتدور في موضوعات اجتماعية متعددة.
في ضجيجِ الحياةِ وصخبِها يأتي محمد بن ناصر المعولي هادئًا مبتسمًا حنونًا صادقًا محباً للآخرين ، لمْ يكُنْ يوماً ضدَّ أيِ أحدٍ من الناس، ولمْ يكُنْ يعترضُ طريقَ أحدٍ ممن كانوا يشقون نجاحاتهم في الإذاعة، فكان أكثر ما يكونُ أنه في حاله بعيدًا عن الاعتراضات والمشاكسات والتدخلات، فالصفة الدائمة التي كان يمتازُ بها محمد المعولي هي الهدوء التام وعدم الدخول في نقاشات حادة مع الآخرين، فهو يمثلُ العقل والمنطق والحكمة، فقد كان يمتاز بكريزما خاصة به تجعلُ الآخرين يقتربون منه ليجالسونه ويصاحبونه، وفوق ذلك كانَ مستمعاً جيداً أكثرَ من كونه متحدثاً، فكلماته محدودة معدودة، وقد انعكس ذلك على عمله الإبداعي أيضاً عندما يقومُ بإخراج أيِّ مسلسلٍ أو أي برنامج، فلقد عاصرتُ أثناء تواجدي في الإذاعة لأكثر من ثلاثين عاماً أساليب الكثير من المخرجين الدراميين الإذاعيين فلم أجدْ في الحقيقة أهدأ من محمد بن ناصر المعولي في إخراجه وتعامله مع الفنانين أو المذيعين، بينما الكثير من المخرجين وأنا أحدهم ممن يفقدون السيطرة على أعصابهم أثناء عملهم، فلمْ أرَ المعولي يومًا غاضبًا أو صارخًا في وجه أحدٍ من الممثلين، فقد كان غضبُه لا يتجاوزُ شفتيه، وسرعان ما يتحوَّلُ ذلك الغضبُ إلى ابتسامة.
إنَّ الدراما الإذاعية هي فن الرؤية بالأذن، بل هي فنُّ الصوتِ والتخيُّل، فلا وسيلة للإذاعة غيرِ خاصية الصوت، ولكنَّ المخرج الدرامي الرائع محمد بن ناصر المعولي آثرَ هذه المرة أنْ يكونَ مسمعه الأخير بلا صوت لأنَّ النهاية لا تقبلُ إلاَّ الصمت، فصمتَ إلى الأبد لكنَّ أعماله وأخلاقه ستظلُ تتحدث عنه فليس هنالك ما يسكتها..
رحِمَ الله محمد بن ناصر المعولي المخرج الدرامي الإذاعي الأشهر وأدخله في واسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، فنحن نعزي أنفسنا فيك أيها الراحل، ومع الصمت المطبق ليس لنا أنْ نقولَ إلا وداعًا يا أبا ناصر، نمْ بصمت، فصمتك أبلغ من الكلام ، فهذا هو مسمعك الأخير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق