العام

مدى قانونية تأجيل البنوك لأقساط القروض .. المسوغ القانوني والاجتماعي (1 ـ 3)

د. خليفة بن محمد بن عبدالله الحضرمي

      نائب رئيس المحكمة العليا

   القرض عقد يتعهد بمقتضاه المقرض ـ البنك ـ أن يسلم عميله المقترض مبلغاً من النقود أو يقيده في حسابه وذلك مقابل التزام هذا الأخير برد هذا المبلغ عند حلول الأجل المتفق عليه بالإضافة إلى الفوائد (1) ،لأنه إذا كان للقرض أجل ، فليس للمقرض استرداده قبل حلول الأجل وأن لم يكن له أجل قدرت المحكمة ميعادا مناسبا للرد (2) .

   ويعتبر القرض المصرفي عملا تجاريا بالنسبة للبنك في جميع الأحوال (3)، لذا فإن قانون التجارة تسرى أحكامه على التجار وعلى جميع الأعمال التجارية التي يقوم بها أي شخص ولو كان غير تاجر ، بل أن الأعمال والخدمات التي تتعلق بالنشاط التجاري للتاجر المقدمة للغير تكون بعوض معين طبقا للعرف.

فالقرض يكون تجاريا إذا ابرمه التاجر لأعمال تتعلق بشئون تجارته أو أن يكون الغرض من القرض استخدامه في أعمال تجارية .

وإذا كان النص في القانون التجاري يعطي الحق للبنك كدائن بعدم قبول استيفاء الدين قبل حلول الأجل المتفق عليه ما لم يقم المدين بدفع العائد عن المدة الباقية ، فذلك قد يعني بمفهوم المخالفة أن على البنك الالتزام مع المدين المقترض بالأجل المحدد للقرض

إن منح القرض من قبل البنك يتوقف على دراسة طلب القرض دراسة وافية مستفيضة تتركز على سمعة المقترض وقدرته المالية على سداد المال المقترض.

لذا فإن البنك في دراسته لطلب القرض ليتسنى له اتخاذ رأي سليم ينأى به عن المسؤولية المدنية العقدية ، عند منح القرض لشخص أضحى زبونا له، بحيث يستطيع استرداد المال المقترض منه كما تترتب المسؤولية المدنية التقصيرية عليه جراء رفضه منح القرض لشخص لا تربطه به رابطة عقدية ، كل ذلك يقوم على أسس من المصداقية لاتخاذ القرار الصائب.

تتمثل هذه الأسس في التزامين أساسيين يتخذ بمقتضاهما البنك قراره وهما : التزام البنك بالاستعلام عن العميل ، ثم التزام البنك بقواعد منح القرض.

والاستعلام عن العميل يتناول : أولاً : واجب التحري عن مدى جدارته أي العميل البنكي ، وثانياً : ضرورة ملائمة القرض لمصلحته أي لمصلحة العميل البنكي.

ولعل السؤال الذي يطرح في هذا الصدد : لماذا التشدد في طلب مثل تلك المعلومات بخصوص جداره الزبون البنكي ؟

أولاً : تكمن خطورة القروض الداخلية في استخدامها لتمويل انفاق جار ، وهو انفاق لا يقابله انتاج مادي أو خدمي وإنما يؤدي إلى زيادة الاستيراد وما يرتبه ذلك من عجز في ميزان المدفوعات وتآكل الاحتياطات الأجنبية .

بل وارتفاع المستوى العام للأسعار ، ومن ثم قد يؤدي ذلك إلى تدهور قيمة العملة الوطنية أو قد يؤدي إلى حدوث الأمرين معا ، لذا فتبدو ثمة علاقة بين المديونية الخارجية والمديونية الداخلية من خلال التأثيرات المتبادلة بينهما(4).

وثانياً : أن انهيار الوضع المالي لأي عميل بنكي قد يؤثر سلبا على دائنيه ، فيلجأ هؤلاء إلى البنك الذي أمده بالقرض للمطالبة بالتعويض إذا منحه القرض دون دراسة مبنية على معلومات دقيقة .

إن كل ذلك يؤكد مدى اهمية ضرورة تشدد البنوك في الحصول على المعلومة الدقيقة عن العميل طالب القرض قبل منح هذا الأخير له .

وتطبيقا لما سبق فإنه يعد خطأ قيام البنك بمنح القرض للعميل دون تحري عن مدى جدارته وبالتالي سيلتزم بالتعويض جراء الضرر الذي أصابه وأصاب الغير الذي قد يمتد إليه هذا الضرر إلا أنه يلزم إثبات ذلك الخطأ في منح القرض غير الملائم .

ومن باب أولى يلاحظ أن التزام المقرض ، لا يقتصر على تقديم المعلومات والبيانات المتعلقة بالائتمان مع ايضاحها للمقترض ، بل يلتزم أيضا بالتحقق من ملائته ، فيكون للمقترض الرجوع إلى مجموع البيانات والمعلومات الكافية التي يحصل عليها من قبل المقترض طالب الائتمان وهي تتعلق ببيان مصدر الدخل الشهري ومقداره (5)، لذا فقد قررت محكمة النقض الفرنسية في أحد قراراتها بمسؤولية البنك عن الضرر الذي لحق الشركة المستفيدة من الائتمان بفعل عدم تقدير البنك المعني بالأمر للخطأ الذي وقع فيه مسيِّروا هذه الشركة الذين طلبوا باسمها ائتمانا بنكيا ، بالرغم من انها توجد في وضعية مالية صعبة لا رجعة فيها ، لا يمكن معها أن يكون الائتمان البنكي مفيداً لها (6).

والتطبيق الذي تمارسه البنوك في السلطنة، أنها تطلب تأمينا صحيا للعميل الذي يتقدم بطلب قرض ما ، يفوق مبلغاً معينا وعندما يعجز عن السداد للوفاة أو العجز الدائم ويلجأ للبنك بحجة أنه مؤمن على القرض، يثير البنك عدم دقة المعلومات الصحيحة التي أدلى بها العميل المقترض أمامه، رغم أنه أي البنك لم يدقق فيها تمام التدقيق!

أما عن ضرورة ملائمة القرض لمصلحة العميل فحذر البنك المترقب يجب أن يكون متناسباً مع اهمية ومقدار الأموال المطلوبة كقرض. فأهمية الائتمان تكمن في اهمية الموضوع المطلوب استثمار الأموال فيه والربح المرتجى منه وبالوقت الذي سيتم استعماله فيه ، فبقدر ما تطول المدة تكبر أهمية الائتمان.

لذا يجب أن يعرف البنك أن هناك مخاطر قد تحصل في عملية الاقراض ، ورغم أنه لا يمكنه التكهن بمنع حصولها بصورة مطلقة، لكنه  يستطيع الحد من آثارها عليه.

إن القرار بمنح القرض لا يمكن أن يكون مرتكزا على مجرد معلومات مجمعة بموجب  الاستعلام حول وضعية العميل والنشاط المطلوب تمويله فذلك لا يكفي لوحده لاتخاذ قرار حول منح القرض.

إذ لابد  من معرفة كيفية تحليل المعلومات المتحصل عليها تمهيدا للاستفادة منها في الاستجابة لطلب القرض أو رفضه ، بحيث يتم هذا التحليل بعقلانية وبصورة تتلاءم والظروف العامة بل والخاصة بالعميل نفسه والعملية المطلوب تمويلها (7).

إن الالتزام بمبدأ ملائمة القرض مع مصلحة العميل بات أمراً يفرضه واقع العمل المصرفي ، فالبنك ملزم بدراسة طلب القرض بقدر عال من الاحتراف والمهنية بهدف حماية مصالحه التي تشكل جزءا لا يتجزأ من المصلحة الاقتصادية العامة بالبلاد (8) .

ولما كان البنك لا يستثنى من تطبيق القواعد العامة في المسؤولية ، فإن الاشكال يكون في كيفية تطبيق تلك المقتضيات على المادة البنكية الحساسة والمختلفة عن مجال المسؤولية البنكية الأخرى (9) ، ولما كان البنك يخضع للمسؤولية جراء منحه ائتمانا لمؤسسة ذات وضعية ميؤوس منها ، فهل يمكن اعتبار مساعدته خطأ من جانبه يوجب مسئوليته العقدية ؟

إن الجميع يكاد يجمع بأن التواطأ متى ما حصل بين البنك والعميل فإنه يخضع البنك للمسؤولية العقدية كما يخضعه للمسؤولية  التقصيرية قبل الدائنين المتضررين ، لكن بات معلوما أيضا أن الاجتهاد القضائي اعتبر المقاولة في حالة توقف عن الدفع حينما تكون بحكم وضعيتها المالية الميؤوس منها نهائيا ، في حالة استحالة تغطية ديونها الحالة بأموالها الذاتية ، ومن ثم فلا يمكنها مواجهة ديونها إلا باستعمال وسائل احتيالية (10)، ومتى ما قام البنك بمساعدة هذه المقاولة على الاستمرار رغم علمه بالوسائل الاحتيالية التي تستعملها ، كخصم كمبيالات مجاملة على سبيل المثال فإنه حتما سيخضع للمساءلة.

والمؤسسات البنكية ملزمة بلفت انتباه عميلها البنكي طالب القرض كلما كانت هناك مخاطر تخص العملية الائتمانية سيما إذا كان القرض لا يتناسب والقدرة المالية للعميل المستفيد ، لذا فواجب النصح المفروض على البنك بهدف ملاءمة الائتمان مع مصلحة العميل لا ينبغي أن يقف عند حدود معينة ، فالبنوك بالسلطنة على سبيل المثال يجب أن تقوم بالتأمين بنفسها لصالح العميل عندما توافق على منحه قرض مصرفيا مقابل استقطاع ذلك منه ، لا أن تقوم بنصحه فقط دونما تحقق من صحة التامين الواجب ، لأن في ذلك حماية لمصالح الطرفين في العملية الائتمانية (11) .


(1) ـ حيث أورد قانون المعاملات المدنية تعريفاً للقرض في المادة (496) أن ” القرض عقد تنتقل بمقتضاه ملكية مال أو شيء مثلي آخر على أن يرد المقترض في عند نهاية القرض مثله مقدارا وصفة ونوعاً ” ، ويتوقف تمام عقد القرض على تسليم المال أو الشيء المقترض ويثبت في ذمة المقترض مثله ( المادة 497) من ذات القانون المشار إليه أعلاه.
 (2)ـ المادة (501) من قانون المعاملات المدنية العماني تنص أنه ” إذا استحق المال أو شيء المقترض ، فلا ضمان على المقرض ، إلا أن يكون قد تعمد إخفاء سبب الاستحقاق ، وفي هذه الحالة تقدر المحكمة للمقترض تعويضاً عادلاً عما اصابه من ضرر “.
(3) ـ أكدت على ذلك المادة (8) من قانون التجارة فقرة (7) سبق الإشارة إليها في المبحث الأول ، كما أن الاقراض بحد ذاته يعتبر عملا تجاريا تبعا لنص المادة(10) الفقرة (3) من ذات القانون التجاري بل أن الاعمال المرتبطة بالمعاملات التجارية  المذكورة في المادتين السابقتين تعد هي. الأخرى أعمالا تجارية كما أوضحته المادة (11) من قانون التجارة بالنص على أنه “تعتبر أعمالا تجارية ، الأعمال المرتبطة بالمعاملات التجارية المذكورة في المواد السابقة أو المسهلة لها وجميع الأعمال التي يقوم بها التاجر لحاجات تجارية “.
 (4)ـ مهيب سعد محمد العدل ، فوائد القروض وتراكم الديون ” الحالة المصرية “، رسالة دكتوراه ، كلية الحقوق ، جامعة المنصورة ، 2009م ، صفحة 10.
وللمزيد حول ذلك ، يراجع : أنور إسماعيل الهواري ، القروض الخارجية ودورها في التنمية الاقتصادية مع دراسة تطبيقية لجمهورية مصر العربية ، رسالة دكتوراه ،كلية الحقوق ، جامعة القاهرة 1974م.
(5) ـ عمر مزيون عطية إسماعيل ، تطور الدين العام وآثاره المالية والاقتصادية، دراسة مقارنة بالشريعة الإسلامية، رسالة دكتوراه ، كلية الحقوق ، جامعة المنوفية ، 2006م ، صفحة 386.
2 إبراهيم محمد يوسف الفار ، دور التمويل الخارجي في تنمية اقتصاديات البلاد المختلفة مع دراسة تطبيقية خاصة على جمهورية مصر العربية ، رسالة دكتوراه ، كلية الحقوق ، جامعة عين شمس ، 1989م.
3-A.Gourio,Le reforme du credit a la Consummation,article ,J.C.P,2010.
 نقلاً عن :
1  د. خالد عطشان ، المرجع السابق ، صفحة 418.
وللمزيد ، يراجع :
ـ محمد حسن قاسم ، التعاقد قد عن بعد ( دراسة تحليلية في التجربة الفرنسية مع الإشارة لقواعد القانون الأوروبي ) ، دار الجامعة الجديدة بالاسكندرية ، طبعة 2005م ، صفحة 24-25.
 (6)Cour de Cassation francaise –Arret commercial- 4 novembre 1977 –Dalloz sirey -1979- p.lll- observations –F.Derrida
نقلاً عن :
– د. محمد لفروجي ، العقود البنكية ، مرجع سابق ، صفحة 416.
(7) ـ أن مفهوم ملائمة القرض لمصلحة العميل كان وليد استنتاج الفقهاء حيث اسماه البعض بموجب اليقظة حينما وصفه آخرون بموجب التمييز .
 حول ذلك ، يراجع :
F.J.CREDOT-Risque Juridique et Credit Bancaire aux Entreprises Revue Banque– No 359,p:30-
(8) ـ د. لبنى مسقاوي ، مسؤولية المصارف في الاعتماد المالي، اتحاد المصارف العربية ،طبعة 2010م ، صفحة 180.
 (9)ـ لم تزل الآثار الوحيدة لخطأ البنك تنحصر في خسارته لجزء من الائتمان جراء تقديره الخاطئ لمدى يسر عميله وملاءة ذمته ، كما تضيع عليه الضمانة البنكية في حالة افلاس العميل إذا ما تم التعاقد معه بفترة الريبة رغم أن الكثير من الدول قطعت شوكاً كبيرا في مجال مساءلة البنك أمام الغير جراء خطأه في منح الائتمان !!
(10) ـ محمد بو طالب ، مسؤولية البنك في منح القروض ، بحث مقدم للندوة الثالثة للعمل القضائي والبنكي ، منشورات المعهد الوطني للدراسات القضائية والمجموعة المهنية لبنوك المغرب ، المملكة المغربية ، وزارة العدل ، 1993م ، صفحة 314.

(11) ـ وهذا لا يدخل فيما قد يعن للبعض أنه تفاوض على العقد ،للمزيد حول ذلك ، يراجع :

– رجب كريم عبد اللاه ، مرجع سابق.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق