السياحي

«قلعة موسى» بجبل لبنان شاهدٌ حيٌّ على عظمة الإنسان، وقوّة إرادته

عندما كان المعماري اللبناني موسى عبدالكريم فتيّا أحبّ فتاة غنيّة، وحين صارحها بحبّه، سخرت منه، وقالت «عندما تملك قصرا يصبح بإمكانك أن تتحدث إليّ»، فبنى قلعته بمفرده بعد60 عاما!!
تحتوي على أبراج، ومجسّمات تعكس حياة اللبنانيين، ومجموعة كبيرة من الأسلحة القديمة، يعود أقدمها إلى الدولة العثمانية، والانتداب الفرنسي للبنان، إلى جانب العديد من التحف الفنية النادرة.

جبل لبنان- عبدالرزّاق الربيعي

قد يكسر الإنسان حادث بسيط، يمكن أن يكون عابرا لو مرّ بشخص آخر، وقد يحدث منعطفا في حياته، ويترك أثرا، انطلاقا من المقولة المعروفة «الضربات القوية إذا لم تكسر الظهر تقوّيه»، فالإهانة التي تلقّاها المعماري اللبناني موسى عبد الكريم المعماري المولود عام1931 عندما كان في الرابعة عشرة من العمر، لم تكسر عزيمته، بل قوّتها، وبدأ ببناء حلمه، لا لكي ينال رضى حبيبته، فقد تزوج من امرأة تحبّه، قامت بمساعدته على إكمال حلمه، لكن من أجل أن يثبت لها، أن الفقر لن يحول دون نجاح الإنسان، وبلوغه أعلى المراتب، إذا كان صلب الإرادة،
تلك الحكاية رواها موسى لجريدة «الشرق الأوسط»، قبل رحيله عن عالمنا في فبراير 2018م،قائلا «عندما كنت طالبا في المدرسة عمري 14 سنة، أحببت إحدى زميلاتي وكان اسمها سيدة، وكان والدها ثريا يملك قصرا. وعندما صارحتها بحبي، أنا الفتى الصغير ابن العائلة المستورة، سخرت مني وأجابتني «عندما تملك قصرا يصبح بإمكانك أن تتحدث إليّ»، ووقع الخبر على رأسه كالصاعقة! لذا انقطع عن المدرسة، وساءت حالته النفسية،لكن ذهنه تفتّق عن فكرة مجنونة وهي بناء قلعة شامخة كالقصر!
وكيف يمكنه ذلك، وهو الفتى الفقير الذي لا يملك من حطام الدنيا شيئا!!؟
لكنّ إرادته الصلبة جعلته يدع كل شيء جانبا، ويكرّس كلّ جهوده لتحقيق هذا الحلم، وبالفعل نجح في ذلك بعد ستين سنة، بدءا من عام 1951أي أنفق 21900 يوم، و394200 ساعة من العمل ليبني بمفرده قلعة حملت اسمه هي اليوم مزار سياحيّ حمل اسمه هو (قلعة موسى)، يقع في منطقة الشوف بجبل لبنان، على مسافة 40 كلم عن بيروت، وجاء في سيرته التي حملت عنوان «حلم حياتي» أن ذلك الحادث كان شرارة أشعلت النار، وجعلت حلمه ببناء قصر واقعا، وهو الحلم الذي كان يراوده عندما كان صغيرا، مولعا برسم القصور هذه المعلومة ذكّرتني بصديقي أحمد كامل فارس الذي كان مولعا في درس الرسم، ويجلس في المقعد المجاور لي في الصف الخامس الابتدائي، يرسم الطائرات، فيما نرسم نخيلا، وزهورا، وأشجارا، وعندما أسأله عن ذلك يقول»أريد أن أصبح طيارا عندما أكبر، وهذا ما تحقّق له، حين دخل الكلية الجوية، وأصبح طيارا، ومن المؤسف أنه لقي حتفه في حرب الخليج الأولى!!
ومثل صديقي الراحل الطيار أحمد، رسم المعماري اللبناني موسى حلمه، وسعى لتحقيقه على أرض الواقع، بالإمكانيات المتاحة لشاب فقير لا يملك شيئا سوى إرادته الصلبة!، وكان لنشأته في حارة السرايا الواقعة بالقرب من أسوار قلعة الحصن التاريخية، تأثير على المسار الذي قلب حياته رأسا على عقب بعد ذلك الحادث، الذي جرى مع الفتاة التي أحبّها، وزاد من عزمه سخرية المعلّم، «أنور» معلم الرياضيات، عندما رآه يرسم قصرا، على الورق، فسأله عما يفعل، فأجابه «أرسم قلعة رأيتها في الحلم» فاعتبر جوابه إهانة له، فضربه بقسوة، ومزّق الورقة، والشكل المرسوم عليها، وظلّ مشهده، وهو ينهال عليه ضربا محفورا في ذاكرته، لكنّه لم يحقد عليه، بل اعتبره دافعا إضافيا، حفّزه على إنجاز عمله، لذا خصّص له ركنا في قلعته!! لكن من المؤسف أنّ المعلم توفّي قبل أيام قليلة من افتتاح القلعة، وكم كانت دهشة الفتاة التي أحبّها موسى، ورفضت حبّه لفقره، كبيرة عندما دخلت القلعة لتتجوّل فيها!!
لم تكن الطريق أمامه سالكة، فلكي يحقق حلمه، كان لزاما عليه أن يعمل، فالتحق بعدّة مهن، لكنّ أقربها إلى قلبه، وحلمه، عمله مع عمّه في ترميم قلعة الحصن التاريخية، والمتحف الوطني في بيروت مع فريق من مديرية الآثار، بل التحق مساء بعمل آخر في معمل فولاذ، يقع قرب قصر بيت الدين، قصر أمير جبل لبنان الأمير بشير الثاني الشهابي، وهذه الأعمال رغم أنّها أمدّته بالمال لكنّها ساعدت في جعله قريبا من القلاع، والحصون، والقصور التي كانت تعشعش في حلمه، فاشترى الأرض التي سيبني عليها حلمه، ووضع المخططات اللازمة لذلك، على مدى تسع سنوات، وفي عام 1962، بدأ عمله في بناء قلعته، ولم يكن يملك سوى 15 ألف ليرة لبنانية، كما يؤكّد ولده زياد! باستخدام الطين،والحجارة، بيديه، وبمساعدة زوجته ماري، ثم استعان بعمّال، ساعدوه بشكل محدود، ولكي لا يبخس حقّ من ساعده في بناء القلعة صنع 75 تمثالا من الشمع لأفراد عائلته، والعمّال، مع تخصيص غرفتين لسكن العائلة، وساعده الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون في قرض مصرفي طويل الأمد (60 ألف ليرة)، وزاد على ذلك فمنح ابن طرطوس السورية الجنسية اللبنانية، وكذلك ساعده الزعيم السياسي كمال جنبلاط في الحصول على قرض ثان بقيمة 10 آلاف ليرة، وهذه المساعدات لم تكن كافية، لذا عمل بيديه، وحمل الحجارة الثقيلة على ظهره، وعن ذلك يقول «نقلت 6540 حجرا ضخما إلى موقع القلعة، ما تسبب لي في مرض ترقق العظام الذي أعاني منه حتى اليوم»
وسنة بعد أخرى، بدأ البناء يكبر، حتى اكتمل، فكانت القلعة تحفة فنّية معلّقة على جبل لبنان، وحين زرتها بصحبة المهندس المعماري الشاعر سعيد الصقلاوي، والشاعر إبراهيم السالمي، خلال مشاركتنا في مهرجان بعقلين للشعر العربي، لم أصدّق ما رأت عيناي من جمال قلعة هي أقرب ما تكون إلى قلاع القرون الوسطى، بأبراجها، وصخورها المنحوتة، والنقوش، ومجسّمات تعكس حياة اللبنانيين، ومجموعة كبيرة من الأسلحة القديمة، يبلغ عددها حوالي 16 ألف قطعة سلاح، يعود أقدمها إلى الدولة العثمانية، والانتداب الفرنسي للبنان، إلى جانب التحف الفنية النادرة.
وحين رحل موسى عبد الكريم في فبراير 2018 عن عمر ناهز ال87 عاماً نعاه كبار الساسة اللبنانيون، من بينهم الزعيم السياسي وليد جنبلاط الذي كتب في حسابه ب «تويتر» «فقد لبنان وفقدت منطقة الشوف فناناً معمارياً نادراً ألا وهو موسى المعماري، بنى قلعته وزينها على مدى سنوات طوال وحقق بذلك حلم حياته فكانت مقصداً لجميع اللبنانيين والسياح من كل حدب وصوب».
وقال وزير الثقافة اللبناني غطاس الخوري «موسى المعماري مثل يحتذى لكل إنسان في مواجهة الصعاب مهما كانت لتحقيق ما يؤمن به، رحل تاركا إرثا ثقافيا ومعلما لبنانيا يجب المحافظة عليه».
ولكن،هل توقّف البناء بالقلعة بعد رحيل موسى؟
تجيب عن ذلك عبارة له دوّنت في أحد ممراتها هي «علمتني الحياة أن هذا العالم لن يتوقف عن استمراره بعد موتي، كما أن الأرض لن تحجم عن دورانها، والشمس لن تكف عن شروقها، وغروبها»
وبذلك ستظل هذه القلعة تنمو، وتكبر، باعتبارها شاهدا على صلابة الإنسان، وقوّة إرادته، وهي قيمة مضافة للقلعة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق