السياحي

لوفان حيث «تنفجر الريح بجلدي وتكفُّ الشمسُ عن طهو النعاسْ»

يسابقني الفرح مع كل مدينة أطأ ترابها وعشبها وأرصفة شوارعها، إلا مدينة لوفان التي جثمت على صدري لتحرمني المشي منتصب القامة كمحمود درويش وتصادر دهشة وصولي الأول للمكان وقد تناثر من كفي قصفة الزيتون ليبقي النعش وحده على كتفي.

وعكس كل المدن التي تغريني بحمل تذكاراتها الصغيرة معي من أكواب موشَّاة بأحرف البلدة إلى قمصان مغزولة ب «I LOVE» إلى مجسمات لأشهر المعالم فمدينة لوفان ترتفع بكنائسها العتيقة فوق رأسي لتنعق الغربان وتتلاطم الأجراس.

  •   زارها ذات حزن.. حمود بن سالم السيابي

إنه الشتاء ولوفان تخلت ككل بلدات أوروبا عن لحاء شجرها فأبقتْ لي الشوك «يتفرَّج على غبارِ الضّوءِ وهو يغزو النّهارَ» كما يقول البلجيكي «كلود دوني».

ها أنا أخترق الشارع الباكي مطرا ودمعا وسديما من بروكسل إلى لوفان وقد غابت اشتهاءات  تتصفح موجات الراديو للتحليق مع صبابات «الهارمونيكا» أو التوقف عند مقطوعة «البلوزيت» للبلجيكي الأشهر «توتس تيليمانز» استعدادا لدخول مدينته الحالمة!!!.

يشير شارع «هيفرلي» إلى الانعطاف نحو اليمين فبلدة لوفان تترصدني هناك عند مدخلها وقد شحذت لي السكاكين وأرهفت السيوف لتغتالني.

يطالعني الجسر المعلق عند ثغر البلدة كتابوت محمول على الأكتاف وتصدمني مزهريات من الحجر على الأرصفة وقد ملأ الربيع بواكيره عليها.

انشغلُ بهاتفي لأتصفح الانطباعات الوردية لزوار لوفان وقد دلق الجرح العماني لونه المتخثر على تلك الانطباعات فتلفعت بالسواد.

تقترب لوفان بمبانيها الزمردية التي سلمت من جور الحروب فيتصاعد الغضب على كل جميل في هذه الجغرافيا الموجعة ما جعلني أتمنى لو أن يوليوس قيصر مرورا بنابليون وكل ملوك الفرنجة بما في ذلك فيلم الأول وآباء الثورة البلجيكية وقادة البرجوازية الفرانكفونية مرورا بموسيليني وروميل وحتى تشرشل وديجول وانتهاء بهتلر قد جنبوا كل الشواهد الحضارية جور القصف والدمار باعتبارها ملكا للإنسانية باستثناء لوفان التي تمنيت لو أنها كانت الساحة الوحيدة لحروب الإخوة الأعداء لتخرج هذه البلدة المؤلمة من الجغرافيا وتغادر صفحات الأطلس وتنسحب من كل التاريخ البلجيكي.

ولعلها ليست مصادفة لأن أجد شاعر فرنسا العظيم بودلير الذي امتحنته بلجيكا قبل قرن ونصف متحاملا أكثر مني على بلجيكا وهو الجار لفرنسا فاختصها بأكثر من عشرين قصيدة فكانت الأقوى عن كل ما أنتجته الصناعة العسكرية الأوروبية من دمار شامل فرمى بلجيكا ومن بها بأبشع الأوصاف معتبرا بلجيكا بلادا موبوءة وأنها تتطهر بالأسمدة وأرصفتها بالصابون الأسود.  وشكك في مخرجات ثقافتها فرأى البلجيكيين في الموسيقى مثلما في النحت والسياسة يظنون أنهم يدركونها.

أقتربُ من ساحة «جروت ماركت» وقلبي يغادرني لينزف أحزان سور مقبرة بوشر، فهذا فندق THE FOURTH الذي تصدرت واجهته أمانينا.

يومها تضرعنا بأن يكون THE FOURTH غيمة بيضاء تتسكب في عطش حقول انتظاراتنا فإذا بالغيمة المعلقة على سماء الأمل تثعب ملحا أجاجا يزيد من عطش الحقول فيجتث النخيل والأمباء وشجر الرمان ويخنق ورود الجبل الأخضر شجر العلعلان ويسيل لبان جبال ظفار دما أسود، ويلاحق الفراشات والفراشات ويغتال الأماني.

هذا هو  THE FOURTH الذي دخلته عُمان رافعة أكف الدعاء لأن يعود سيدها من لوفان معافى فتتغير خارطة العلاج في الخارج، والسماعة البلجيكية التي راكمت أربعة قرون من الخبرات ستعشش في الوجدان العماني.

إلا أن البقاء بالفندق كان متوترا وعُمان المتفائلة تغادره بسرعة وهي تتفصد عرقا وغضبا على الأطباء رغم أنهم بذلوا ما بوسعهم بذله فكانت مشيئة الله أن لا تتكلل اجتهاداتهم بالنجاح فكان ما كان.

ورغم أن فندق «THE FOURTH» لم يدخله سيد عُمان بل كان مجرد محل لإقامة الوفد المرافق إلا أن صورة الفندق هي التي تسيّدت المشهد فكانت أجمل عنوان للانتظار.

وجاء قرار العودة ليحيل نفس الصورة ونفس واجهة الفندق إلى قطعة بلهاء من الجغرافيا تمنينا زوالها، فجمال المباني بما تقترن به من أحداث وهي التي تزينها أو تشينها.

أدخلُ الفندق الذي تعاقبت عليه خمسة قرون منذ أن شيد عام ١٤٧٩ كمبنى متعدد الأغراض فتكرَّسَ في البداية كمقر ملكي للاجتماعات ثم تحول عام ١٨١٧ إلى مسرح للاحتفالات الملكية تصدح فيه الفرق الموسيقية حتى الحرب العالمية الأولى ليتم تأهيله كمقر للبنك المركزي إلى أن استقر في مرحلته النهائية كأحد أجمل فنادق لوفان، وليدخل في الثاني عشر من ديسمبر عام 2019م تقاطعات وجعنا المزمن.

أدلف باب الفندق بخطوات مترددة ليستقبلني الجالس على المدخل بمطوية تحمل تاريخ الفندق المتجذر في زمن البلدة فأعتذر بعينين دامعتين، كون ذات المطوية تداولتها مدامع كل بيت في عمان.

أتكوَّمُ على أحد كراسي الاستقبال أكفكف دمعا حارقا وأسافر عبر الزجاج القاتم للنوافذ نحو سور مقبرة الغبرة لأشارك الشاعر البلجيكي رولاند يوريس تساؤلاته: هل يستطيع امرؤ أن يرسم شظايا أفكاره؟ نعم لقد تشظيت يا رولاند وتشظى في عيني كل شيء سوى التخيُّل بأن سيد عمان لو كان مازال في مستشفى لوفان لكان سيغادره وسيمشي موكبه هذا الدرب، ولكان سيمر عبر ابتسامة هذا الموظف في طريقه إلى أجمل أجنحة الفندق.

إلا أن الله شاء أن تكون لوفان على خواتيم نصف قرن من المجد وأن تشهد الأسبوع الأطول في تاريخ عُمان لتعقبه الأيام الأثقل على العمانيين.

أترك فندق  THE FOURTH الذي أمطرته بسخطي على زمنه ويمّمت شطر البلدة ألملم بعثرتي فتأخذني الخطوات إلى الساحات المثقلة بمبانيها القوطية فأمشي بمحاذاة البيوت التي تشكل حزاما من الأمس البعيد للجامعة الكاثوليكية المصنفة بين أعرق وأرقى جامعات العالم وإحدى الهيئات الممتدة إلى الألفية الثالثة منذ أن تأسست في الربع الأول للقرن الخامس عشر فأصب جام غضبي على هيئتها الأكاديمية التي لم تنضجها القرون ولا أينعت ثمار أبحاثها في قهر المرض الذي يخطف الحياة فيحرم التاريخ من أعظم صناع التاريخ.

هذا حي الطلبة ولربما في خزائن بيوته تنتظر الأرواب البيضاء لأطباء المستقبل ولربما سيجوسون بسماعاتهم خلال الأبدان ليأتي من سيحاسب فشلهم يوما لعدم رضاه على نتائج معالجة مرضاهم.

هذه كاتدرائية القديس بطرس لؤلؤة «جروت ماركت» التي تشد أوروبا إليها الرحال لتتأمل طرازها القوطي وتتطهر بكنوزها الروحية فتتضاءل في عيني إلى أقل من صومعة صغيرة لراهب يجتر بقايا سور الأناجيل.

أخرج من «جروت ماركت» باتجاه «روكتور دي سومربلين» فأتوقف عند نافورة الحكمة وهي عبارة عن تمثال من البرونز لأحد طلاب الجامعة الكاثوليكية وقد حمل بيسراه كتابا بينما يصبُّ بيمناه كأسا من الماء فوق دماغه المفتوح.

ولعل مصمم النافورة قارب الآية الكريمة «وجعلنا من الماء كل شيء حي» فرأى المصمم أن «كل شيء حي» تتسع لتشمل الخلايا المتوقفة للدماغ، وأنه بالماء ستحيا الخلايا من جديد وتنشط لتتمكن من التغلب على معضلة المعادلة الرياضية.

وأقرأ في تاريخ النافورة بأنها تعود للعام ١٩٧٥ وهي مقدمة من عشاق لوفان كهدية لجامعتها الكاثوليكية تخليدا لمرور خمسة قرون ونصف على إنشائها.

أغسل يدي بالمياه الباردة للنافورة، بل أغسل يدي من لوفان وبلجيكا بشكل عام وأنا أردد مع بودلير قصيدته «إن كل ما يبهج قلوبنا الفانية يصدم البلجيكيين».

أزحف باتجاه زاوية أخرى من زوايا المدينة العتيقة لأتوقف عند رائعة «فان فورست» المتمثلة في مجامع مباني البلدية كأحد أجمل مباني البلديات الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي والذي شرع في تنفيذ الجناح الأيمن للمجمع، إلا أن الموت عاجله ليستأنف المهمة بعده مواطنه «جان كلدرسمان» عام ١٤٤٥ فيموت هو الآخر ليواصل التنفيذ «ماثيوس لاينز» عام ١٤٤٨ لتبقى البلدية مزارا تاريخيا، وساحتها الخارجية حضنا للمهرجانات والفعاليات والأسواق.

إن لوفان لكيلا نظلمها هي مدينة ساحرة إلا أن أطباءها الذين تمنينا أن نراهم رسل الفرح رفعوا مشارطهم في وجوهنا وبدأوا حفلة تعذيب سادٍ فكرهونا البلدة وشوهوا بمشارطهم تقاطيعها الجميلة فلا نراها الا عبر الكوميديا السوداء لبودلير وهو يسخر منها بأنها «تظن نفسها مفعمة بالمفاتن لذلك هي تنام، فيواصل سخريته المرَّة «أيها الرحالة لا توقظها»

أعْبرُ شارع «سافوي» فتطالعني الأعمدة الرومانية لواجهة متحفها الذي يحوي آلاف القطع واللقى الأثرية لمدينة تغطس عميقا في الزمن فتحملها عيناي الثائرة من قاعها السحيق لتطفو بها إلى السطح كخشبة نخرة في طشت من الماء فتجردها من التاريخ، لأن كل الحقن والأمصال التي قدمتها لوفان لم ترسم فرحة للوطن ولا عانقت فرحة الأمة لذلك أبقيناها خارج استحقاقات المتاحف، ولو أظهرت العكس لتغيرت النظرة ولخصصنا لها ألف متحف ومتحف، ولتوزعت كنوز هذا المتحف الشامخ بكل عنفوان على متاحف مسقط ولوفان.

أهيم في الشوارع الباردة والناس الذين لم أعد أودّهم يحركون برودة الأرصفة فأبث في كل الزوايا أسئلتي، وتحملني بعثرة المشاوير إلى «بروكسل سترات» حيث تتفرع الدروب باتجاه «ديزيت» و «آرشوت» و «ميشلين» فأدع الأنين وحده الذي يدفع الخطوات لأغادر لوفان وقد تضامن بكاء أجراس كاتدرائية القديس بطرس ونشيج مقبرة بوشر لأردد بلا شعور ترنيمة الشاعر البلجيكي ليونارد نولينس:

عندما أموت سأرفع ذراعي للحظة فهكذا يفعل كل الموتى

وهكذا يفعل كل طفل في أول يوم يتعلم فيه المشي

ولأولئك الذين يرغبون في الكلام مع صورة معقدة بأني كنت هنا

إنسانا يستحضر غيابه.

——————————

لوفان في ٢٩ فبراير ٢٠٢٠م

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق