الثقافي

الشواعر وقصيدة النثر .. بين الخيار الروحي والاستسهال

فتحت قصيدة النثر أفقا جماليا جديدا في التعبير الشعري، وقدمت  نموذجا إبداعيا مغايرا لما درجت عليه الذائقة العربية، وفق طقوسها الشعرية المتوارثة، ممثلة في قصيدة البيت أو القصيدة المقفاة التي مازالت تتمسك بوجودها، لاسيما بعد التجديد الذي شهدته مؤخرا وجذبت إليها طائفة كبيرة من الشعراء الشباب. ولعل أوضح ملامح التجديد في القصيدة المقفاة برزت لدى عدد من كبار التجارب الشعرية مثل عبدالله البردوني ونزار قباني ومحمود درويش ومحمد علي شمس الدين.

خاص (التكوين)

اللافت أن قصيدة النثر استهوت الشواعر العربيات، اللاتي وجدن فيها مستعا خاصا للبوح الأنثوي نظرا لطبيعتها الروحية التي تقترح أن تكون موسيقى الشعر نبعة من الداخل الجواني للقصيدة بعيدا عن القصيدة التقليدية الصوتية.

لعل هذا أحد الأسباب في انحياز السواد الأعظم من الشاعرات لقصيدة النثر، إلا أن هناك أسبابا أخرى نستكشفها مع نخبة من الأكاديميين والشاعرات والشعراء.

أنوثة القصيدة

يقول الناقد والأكاديمي الأردني الدكتور جمال مقابلة: مملكة الشعر في ثقافتنا بناء باذخ معمور بالمرأة وحافل بالنساء اللواتي يأتي بهنّ الرجال الشعراء ليكنّ نجومًا مشعّات، وأقمارًا تتلألأ في صور القصائد وكناياتها وبلاغاتها، فتنشر ضياءها في عتمات الشهوة، وتنثر بذورها في البض من أجساد النصوص، في منحنيات الجمل ومنعطفاتها المراوغة، وصياغات اللغة اللذائذيّة ودهاليزها المتفتّقة بشهد القول المنساب من شفتي ملك ضلّيل أو فتًى أبيقوري قتيل أو فحل قحٍّ أصيل، يتيه بصنعته الشعريّة المحكمة وزنًا وقافية على ما حوله من إبل حقاق.

ويضيف الدكتور جمال مقابلة موضحا: لذلك لم تستطع المرأة العربيّة أن تلج بابَ الشعر شاعرةً ـ إِلّا إذا أرادت بكاء الأخ ورثاء الابن مثل الخنساء وليلى بنت طريف والسلكة أمّ السليك، وربّما جرؤت ورثت الحبيب مثل ليلى الأخيليّة ـ فكيف السبيل لأن تكون فحلة في هذا الميدان، وهي التي كانت سكنته بأنوثتها التامّة موضوعًا رئيسًا بامتياز؟!

وما زال هذا هو حضورها الشعري حتّى وصلنا إلى منعطف الشعر الحر أو الشعر الحديث، لنجد المرأة مُمثّلة بنازك الملائكة تنازع السيّاب الرجل في رفع لواء الثورة على الشعر العمودي الذي كان ميدان الفحولة حيث لا سبيل للحقاق من أن يتربعن على عرشه المكين. فهل اهتبلت المرأة الفرصة لتكون شاعرة حين تقلقل عرش الشعر بزحزحة وزنه قليلًا، وتلاشي نظام القافية فيه؟ فغدت شاعرة وناقدة ومنظّرة للحداثة الشعريّة، وقاسمت الرجل الشاعر حكم هذه المملكة الجديدة وهي تتلمّس طريقها لتحضر بقوّة في عالم الشعر بعد أن اقتحم هذا الرجل عليها عالم الحكاية والرواية والقص والسرد وبدأ برفع أعلام الفحولة على ما كان لها من مملكة على هامش مملكته الرصينة؟

لذا فإنه ليس مصادفة في نظر الدكتور جمال مقابلة أن تكون سوزان برنار المرأة الفرنسيّة هي الناقدة المنظّرة الأولى لقصيدة النثر التي تعدّ ثورة على الثورة السالفة على شعر العمود لتعلن أنوثة القصيدة النثريّة عالميًّا وهي القصيدة التي قضت على ما تبقّى من معالم الوزن وأودت بالقافية لتفسح المجال لسرديّة كانت تنعم بها المرأة خالصة لها فزاحمها الرجل بها، فلم يكن من هذه المرأة القسيمة للرجل في عصر نهضتها وفِي زمن يقظتها إِلّا أن تستردّ قصّتها وأن تعيد سرد حكايتها بتكثيف واختصار وانفعال فنّيّ متقن فتؤكّد أنوثة الشعر، فترسي قواعد الشعر المنثور، أو تحتفي بقصيدة النثر فتجعلها علامتها المميزة، وسمتها الفارقة، ومجال إبداعها الجميل. فهل يمكن بهذا الرأي تسويغ التوجّه الظاهر والكبير بتزاحم النساء الشاعرات وتهافتهن على قصيدة النثر، حتّى اجتمعت الناثرات والشاعرات وكاتبات الخاطرة والقصيدة الومضة والساردات والحكّاءات القديرات وغير القديرات كلّهنّ معًا في صعيد واحد فجلبن انتباه المعنيين بهذا الشأن حتّى طلبوا إلينا ما طلبوا من إفصاح عن رأي للوقوف على حقيقة هذه الظاهرة؟!

السِّحْرُ الخفيُّ

الشاعرة فتحية الصقرية تعود بالذاكرة إلى الوراء باكرا لتكشف بدايات تعلقها بقصيدة النثر، لتصبح هذه القصيدة فيما بعد خيارها في الكتابة. تقول فتحية الصقرية: كنتُ على الدوامِ أحمِلُ قلبَ طفلةٍ مشاكسةٍ، كثيرةِ التنقُّلِ والبحثِ في محيطٍ ضيِّق،  بالكادِ تجدُ فيه فتحةً للتهوية، المنفَذُ الوحيدُ للقراءةِ كان من خلالِ المجلّاتِ والصحفِ المحليةِ والخليجيةِ التي تصلُ إلى بيتِ العائلة. لا أذكرُ اليومَ والتاريخَ بالضبطِ الذي حصلتُ فيه على نسخةٍ من (كتاب في جريدة )، لكنَّه كانَ يومًا مهمًّا، إذ كانَ بدايةَ الانطلاقِ إلى عالمٍ مختلفٍ تمامًا، أشبهَ بالحلمِ، تعرَّفتُ من خلاله، لأوَّلِ مرَّةٍ، على (الحالمِ الممتزجِ بالهواء) للشاعرِ جورج شحادة  الذي أخذَني في رحلةٍ روحيةٍ عميقةٍ، لم أستطعِ التراجُعَ بعدَها أبدًا.

وتضيف فتحية الصقرية: عشتُ حُبًّا كبيرًا مع قصائدِه،  ليس يومًا، أو أسبوعًا، أو شهرًا، أو عامًا، بل حتى  الآن، لا تزالُ  ومضاتُه الشِّعريةُ تبعثُ ذاتَ الاندهاشِ في نفسي، وذاتَ الارتعاشةِ، كان هذا السِّحْرُ الخفيُّ حبيبي وصديقي، وكلَّ ما أبحثُ عنه، في وقتٍ كنتُ فيه تائهةً وعلى وشكِ الضياعِ،  فعلا.

لقد أحدثَ هزّةً هائلةً في روحي، تغيَّرتْ معاني الأشياءِ والكلماتِ، من حولي، سلكتُ  طريقًا آخرَ، طريقًا مختلفًا تمامًا، تغيَّر كلُّ شيءٍ، وِجهتي، نظرتي، التفاتتي، صوتي، طريقةُ بحثي عن النور، السعادة، الحياة، الحرية، حتى مِشيتي السريعةُ تغيَّرتْ، صرتُ أمشي ببطء، ببطءٍ وخفَّة، أَلمسُ العصافيرَ والأزهارَ والأشجارَ والنوافذَ والسماءَ والهواءَ بقلبِ «الحالم الممتزج بالهواء».

وهكذا حسمت فتحية الصقرية مسارها باتجاه قصيدة النثر مؤكدة: عملتُ، منذ ذلك الوقتِ، على إعادةِ علاقتي بالعالمِ وكائناتِه، أصابتني تلك النَّغْمةُ الحرَّةُ التي سقطتْ في قلبي، بفكرةِ الطيَرانِ والقفزِ واللعبِ في الحقولِ الشاسعة.

حائط صغير

من جهته يرى الشاعر العراقي الدكتور عارف الساعدي أن ميل الشواعر لكتابة قصيدة النثر هو ميل ثقافي مرتبط بالنسق الثقافي العربي ذي النزعة الفحولية التي تردد سابقا بأن الدجاحة إذا صاحت صياح الديك فاذبحوها.

هذا النسق الثقافي منح من يكتب بالوزن صوتا فحوليا عاليا وحتى الشواعر اللواتي كتبن بالوزن فهن في أغلبهن شعراء صوتا وأداء ولم يكن شاعرات فنازك الملائكة أقرب للشاعر من الشاعرة. قصيدة النثر هي الملجأ الذي سمح بدخول الصوت الأنثوي له دون اشتراطات المرزوقي وعموده الشعري.

ويستطرد الدكتور عارف الساعدي مستشهدا بقول سامي مهدي بأن قصيدة النثر حائط صغير يغري بتسلقه كل ذي رجلين. نستطيع أن نأخذ هذه الزاوية التي تفتح الباب للدخول من أفق الخواطر البسيطة التي تتحول فيما بعد إلى نصوص. وهذا الكلام ليس تقليلا من شأن الشاعرات اللواتي يكتبن نصوصا ناضجة من قصيدة النثر وهن قلة نادرة أخشى أن تنقرض بسبب مواقع التواصل الاجتماعي التي تبيح وتتيح للجميع النشر دون ضوابط.

السكن في الظل

ويتفق الشاعر البحريني أحمد العجمي مع الدكتور جمال مقابلة والدكتور عارف الساعدي، فهو يرى أن من ينظر إلى مشهد الشعر العربي اليوم سيلتفت إلى المساحة التي تشغلها الشاعرة فيه وخاصة في حقل قصيدة النثر؛ فالمرأة الشاعرة نشطة جداً في اختيارها وإنتاجها لقصيدة النثر كمجال إبداعي. وقدّمت بإنتجاتها مساهمات عميقة وواسعة أغنت هذه التجربة الشعرية الجديدة. ولعل هذا الاستنتاج يحملنا إلى التساؤل لماذا توجّهت المرأة إلى قصيدة النثر وما الذي يغريها لهذا التوجّه؟

ويرى أحمد العجمي أن تجربة الشعر العمودي هي تجربة رجولية في الشخصية وفي الصوت وفي رسالتها؛ حيث إن القصيدة العمودية في صيرورتها وسيرورتها، وحسب ما استلمناه من الماضي وما يكرره المعاصرون، هي صوت جلي ومرتفع للرجولة الممثلة لمجتمعات الرعي والزراعة متمثلاً في وظائف ورسائل الفروسية والمدح والهجاء والتحشيد….إلخ. وربما كان للمرأة صوت خافت في الرثاء والحب ولم يصلنا. وإذا كانت كل الوظائف والرسائل التي ملأها الشعر العمودي هي قصائد للجماعة ولابد لها أن تنتشر، وبالتالي من الضروري احتياجها إلى غنائية فاقعة وحنجرة صاخبة في الإنشاد الذي ينظم الأنا الجماعية ويشحنها. وهذه من خصائص المجتمع الذكوري والثقافة الشفوية. وممكن النظر للرثاء والحب على أنهما لا يحتاجان إلى الأنا الجمعية، وإنما يتوهجان في العزلة والليل أمام الذات ومعها، ومن هنا كان للمرأة إسهامٌ فيهما.

وفي سياق آخر يوضح الشاعر أحمد العجمي أن البعد الآخر في الثقافة والوعي في مجتمعاتنا هو أن المرأة يتوجب عليها السكن في الظل وأن تكون لا مرئية ولا مسموعة، وخاصة ما تكرس مع الثقافة التي حجبت صورة المرأة وصوتها عن المجتمع العام. ونحن نعرف أن القصيدة العمودية تحتاج إلى مكان عام للانشاد وإلى أغراض تحشيدية أو افتخارية، وإلى لسان جهوري صاخب، وهذا لا يتوافر للمرأة في الثقافة العربية.من هنا رأت المرأة في قصيدة التفعيلة وبالأخص في قصيدة النثر مجالاً يناسبها من حيث إنّه لم يكن مقدساً في تجربة الأنوثة، فالكثيرون يُعدِّون قصيدة العمود مقدساً ثقافياً لا يمس لذكوريته. ولا تحتاج المرأة إلى حنجرة إنشادية تحفيزية، فصوتها كذات يتلاءم مع القراءة والكتابة والعزلة والنظر في الأشياء الدقيقة المهملة واليومية وما يمس الذات الأنا وليس الذات الكلية.

إيصال الغيب بالشهادة

وتعبر الشاعرة المغربية زكية المرموق عن رأيها موضحة أن الشعر عموما يمثل منفذا إلى الواقع وما وراء الواقع بحيث يستشرف العدم ليوجد الحياة ينقلنا من الغيب إلى الشهاد، ولا يتماهى مع هذه الفاعلية النشطة والحمولة الإيجابية إلا النثر الذي يحمل ثراء غير محدود وفيضا جُوَّانِياً ينطلق من النفس الإنسانية لينسحب على الواقع بكل تلاوينه، ثراء ينطلق من اللغة وفي اللغة عبر سبر الطاقة الكامنة في الذات الشاعرة وإضاءة الجوانب الخفية فيها وبسط تجربتها وإثارة ما لا يمكن إثارته بشكل آخر من الخطاب، هو تماه في اللغة، فاللغة تعمل في الشاعر والشاعر يعمل في اللغة وكلاهما (الشاعر واللغة) في طلب حثيث لصاحبه، ليس طلب إجهاز على الآخر ولا إجهاض كينونته بل هو طلب حلول وفناء وتَجَلٍّ، وسفر محفوف عبر الدهاليز الخفية لكليهما هذا مرئي والآخر غير مرئي يصل المحسوس باللامحسوس والممكن بغير الممكن وتبقى الصور والإيحاءات والرموز أشكالا ووسيلة لإيصال الغيب بالشهادة. لكن يبقى الوحي الشعري من جهة والروح الشاعرة هما المحددان للشاعرية وهما عنصران يمتزجان ويتداخلان في تكامل حد الانصهار ولا غُنْيَةَ لأحدهما عن الآخر.

وإزاء قصيدة النثر تجزم الشاعرة زكية المرموق أن النثر يعطينا تلك المساحة التي أقل ما يقال عنها إنها غير محدودة لتتجوى النفس وتحترق وتتشظى وتشطح وتهذي بكلام قريب من النبوءة إن لم تكن نبوءة فعلا، كلام يوحد الأضداد ويجعل اتساقها ممكنا في صور شعرية مدهشة وأخاذة. النثر ابتكار للمعنى وتمرد عليه وعدم رضا عنه هو خُلق ثائرا من أول يوم لأنه حركية دائمة وفوران لامُنتهٍ وتساؤل كبير وحضور وغياب وانطلاق نحو المجهول نحو القداسة نحو التعبير عن مشاكل الواقع انطلاقا من الانغماس في سراديب النفس وخروجا إلى بلورة الواقع في خطاب له معنى…ولا يهم كيف يقترف الشاعر حسنة النثر أو كيف يفنى المهم أن يشعر بعدم اكتمال تجربته فهو في بحث دائم واكتشاف عميق هذا هو النثر.

وتستطرد زكية المرموق للحديث عن تشابك قصيدة النثر بالواقع في عصر تداخلت فيه الفنون بشكل مذهل لتعبر عن الحياة المتحركة المتغيرة بسرعة كبيرة وحيث ان الثيمات الادبية والفنية والاجتماعية اصبحت هاجسا مشتركا بين انواع الفنون والاجناس الأدبية صار لزاما على الادب بجانبيه السردي والشعري ان يزيحا الثقنيات الخاصة المحددة لحركة النص وتوغله اللغوي والثيمي وصار لزاما للوصول الى القارئ وهذا ضروري التقرب الى اللغة اليومية المتحركة الاقرب الى لغة السينما والفن التشكيلي اختيار قصيدة النثر اذا جاء لانها تنسجم مع طبيعة الواقع الذي يتسم بالسريالية والعبثية فصار لزاما تغيير الثيمات واللغة بما تتطلبه المرحلة لم تعد القصيدة مجرد ارتجال تعبيرا عن فرح او حزن على الشاعر ان يدرك ما حوله ان يملك معرفة وثقافة ليتمكن من الغوص عميقا في القضايا الفكرية والوجودية.

وتؤكد زكية المرموق في ختام حديثها أن قصيدة النثر تعيد تشكيل العالم من جديد عالم اللغة وعالم المعنى وعلاقة الانسان بكل الموجودات على اللغة أن تحمل أبعادا فلسفية كما يسميه الريحاني الشعر الطليق فلم تعد القصيدة العمودية قادرة أن تحمل على كاهلها كل هذا العبث.

أعتقد أن هذه العوامل مع ذوبان الحدود الفاصلة بين السرد والنثر ومع بزوغ قصيدة النثر وما انبتته من جدارة بالديمومة ومواكبة للحياة في تدفقاتها ومشاكلها دفعت بهذه التجربة نحو المزيد من التغيير والتجديد لكن ما آلت اليه قصيدة النثر من استسهال واستنساخ حتى جعل البعض منها هشا اقرب الى الخاطرة خاليا من التكثيف الجمالي يجعلنا نتساءل ماهي شروط قصيدة النثر؟ أنحاز الى قصيدة النثر لانها تشكل اللحظة الثورية الحقيقية للشعر القادرة على الخروج من المستهلك الجاهز على استنبات رؤى وأشكال جديدة ومغارية الابداع حرية ومن الاجحاف حصر القصيدة في قالب معين فهي توفر هامشا أكبر للتأمل… للحركية… للتحليق، ذلك أن الشعر في معناه في لغته وليس في تقنياته، الشعر نهر أوسع من أن تحده قافية.

كثرة متنامية

الشاعرة الجزائرية عفراء قمير طالبي قالت: قبل الحديث عن رواج قصيدة النثر بين كتابها، ومن الشواعر خاصة بوصفها «ظاهرة» دعني أذكر  أولا بأنّ قصيدة النثر قد اختارت منذ بداياتها أن تتّخذ لها مسلكا بتضاريس ناتئة لا يتطابق مع الاستقامات المفروضة على نمط الكتابة الشعرية السائدة، ولذا لم تكن المواجهة مع أوزان الخليل فحسب ولكن بصورة أعمق مع «العمود» عمود الثقافة العربية، هو نوع من المواجهة مع مركزية القضيب في حضوره المرمزن شعريا وثقافيا واجتماعيا، كانت بمثابة الأنثى في مجابهة الهندسة الذكورية «العقليّة والروحية» على اعتبار اللغة الشعرية الموروثة مما قبل الخليل هي الحاوية الوحيدة لكل البناءات السوسيوثقافية وهي الموجهة الوحيدة أيضا والقادرة على نقل الإيديولوجيات والسياسات كأشكال خطاب، كان المسعى الأول لقصيدة النثر هو تقويض مركزية النّظام الشمولي الذي تبناه الشعر العمودي، حتى من قبل اختراع الأوزان، وحين أتحدث عن توتاليتارية النّظام فإنّني أقصد كل تلك المحمولات في القصيدة العمودية من لغة ترنسندنتالية وأنماط اجتماعية وتعابير ثقافية و مرجعيات دينية وتوجهات سياسية.

وترى عفراء طالبي أنه ربما كان قدر قصيدة النثر أن تحمل مطرقة بدورها وتحطم ذلك التصنيم التاريخي لإعلان ميلاد إرادة شعرية أخرى لها من القوة ما يكفي لصناعة نموذجها الأمثل أو بشكل تعبيري أكثر تمردّا وإيلاما: حملت على عاتقتها مسؤولية قتل الأب والتحرر بذلك من سلطة الطّوطم الشعري وزنا وقافية.

وتؤكد عفراء طالبي أن قصيدة النثر نجحت في أن تقفز متجازوة الشعر كبراديغم، نوع من التجازو للنظام الكلامي الذي ظلّ مهيمنا على الشعرية في الثقافة العربية وبالتالي كان فعل القصيدة النثرية انقلابيا ثوريا وتوليديا لإمكانات أخرى لغوية شعرية وثقافية، من هنا لا يبدو الانهمام بقصيدة النثر ظاهرة بقدر ما هو – توجّه قصديّ – أو يفترض أن يكون كذلك – له دوافعه السابقة الذّكر وله سطحه الخاص وطريقته الجذمورية في الانتشار، وهذا ما جعل قطيعا برمّته يلتفّ حول عشب النصّ ومرعى الطريقة المفتوح. وربما كان الإشكال في هذه الكثرة المتنامية خاصة لدى المشتغلات بهذا النمط إبداعا، ولست هنا بصدد القياس على نموذج معين لأنّ الوفرة الحاصلة لا تعني بالضرورة أنّ ثمة شعرا جيدا ولعلّ الاستسهال الحاصل أو ما يعتقد بأنّه حين انفلات القصيدة من سطوة الوزن والقافية ستمنح الحرية لكتابة بلا معايير، كتابة شعثاء تنقصها المعرفة الخالصة بأصول الجَدْل الفنيّ والجماليّ.

لكم كان محقّا أندريه بريتون – الحليف الغائب الحاضر- حين قال بأّنه ما من شيء أصعب /هذه الأيام/ من أن تكون شاعر(ة) قصيدة نثر! وأضيف ومن أن تكون شاعرا(ة) بالأساس بعيدا عن عقال الشّكل وصراع الأجناس!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق