النصوص

على شاطىء الذكرى

فتحية الفجري

 

موجا، مبيلي، تاتو، نني،  تانو  سيتا، سابا، ناني، تيسا،  كوم،  وأضيف، خباري مزوري، خباري ياكو، هوجامبو. سيجامبو، توتاونانا، متوتو والكثير.

مفردات سواحيلية ظلت محفورة في داخلي منذ أن كنا في البيت القديم المطل على بحر شديد الزرقة، ذلك البيت المتهالك جزء منه والمتداعية بعض سقوف غرفه المصنوعة من خشب الساج، بسبب الأمطار التي تغزوه بين الفينة والأخرى.

ومن الجدير بالذكر أنه  وفي يوم ٍ شتوي قارس يصفه “الشيَّاب” بقولهم : (ضاَرْبَه شِمال) في ذلك الوقت

 كانت أمواج البحر الزمردية المتلاطمة تجري مسرعة لتدخل إلى الباب الموارب لشدة هيجانها، وقد قِيس دخول مياه البحر للبيت  إلى ٥٠ مترا مُنِعنا بعدها من إعادة البناء فيه.

تفاصيل ماكثة في عمق من سكنوا على الساحل ذكريات ظلت في دواخلنا من فرط وقعها على القلب والروح.

نسيم البحر ورياحه المالحة، أشعة الشمس الكهرمانية الحارقة، وقوارب صيد  قديمة متهالكة صفت بشكل ملفت وكأن إعصار لفظها هناك، انتشاء الطرقات الرملية برائحة المطر، وهي فرصة لتشكيل الحصون والقلاع والبيوت والأسوار  الرملية بالرمل المتضوع بماء المطر.

 كانت الزيارات لاتنقطع بين ذلك الرعيل مهما كانت المسافات،  يقطعونها إكراماً لرفيق وصاحب وأخ وجار.

أحد تلك التفاصيل المدفونة و التي مازالت تلامس جزءا من قلبي من فرطِ لطفِ أصحابها، هي ذكرى لرجل في السبعين من عمره، زاهد عابد، ذي ملامح بدوية مشربة بالحمرة والتي قست عليها الشمس وملوحة البحر والأسفار، ذي عينين لوزيتين تشعان شعاعاً هادئاً من الرحمة والنُبْل، يبتسم لكل من يمر به، يرتدي الثوب العاجي والمصر المصنوع من الصوف ومسبحة طويلة تقلد رقبته.

إنه من الرعيل الذي جاب البحار والمحيطات، بحثا عن لقمة العيش، جيل الشقاء المدقع ، عابري غياهب الظلام وعارفين بأسرار بحور الظلام، ذلك الرعيل الذين سافروا إلى سواحل زنجبار وبمبا والكويت تاركين أهليهم وذويهم، كان يعيش في خيمة (دَكِيْ) المصنوعة من عدة( دُعُونْ)  المستخرجة من شجرة النَخِيل و أمامها (عَرِيْش)  يستظلون تحته في يومِ قَيِّظٍ.

ذلك الرعيل الذي سافروا عندما يَتَّرَبَعْ” الْرُّبَعْ” أي بعد “الجِدَاد ” و “اليَنْزْ ” بحيث يحملون معهم خيرات النخلة لبيعه في سفرهم، مستعينين ب خِشِبَةْ ( وَدْ شِيْلَة)، وخِشِبَة ( ود ناصر) ، والكثير من المراكب والخْشَابْ.

 رجلٌ سبعيني طيب العينين، ماهو إلا “محيط وقار وعلم” ، والملفتُ فيه يتحدث السواحيلية بطلاقه مثيرة للإهتمام، أخذ بعدها يعلمني إياها بِدْأ من الأساسيات من أرقام وحروف، وأسماء، وجمل للمحادثة وكُنْتُ أُدَّوِن تلك الكلمات والجمل في دفتر خاص بها طوال تلك الفترة وأَضَعُهُ في(رُوزَنَة) اَلْمَجْلِسْ المثلثة الشكل، حفاظاً عليها من المطر المتسرب من السقف، إلى أن انتقلنا إلى البيت الجديد فقلت الزيارات وابتعد كلٌ في شؤونه.

رجل ذو وجه بشوش، يفيض رضاً وإخلاصاً، كثيراً ما كان يُطَيَّبُ الجلسة بحديثه عن البشارات والكرامات وأحاديث الأولياء الصالحين والأقطاب، ويردد المَنْظُومَاتْ المُبْهِرَة، كان لا ينطق إلا شكراً وحمداً وذكرا لله في حركاته وسكناته، تميز برفع يديه حين يُسأل عن حاله، بالثناء لله والحمد، بعد وفاة زوجته والبقاء وحيداً بدون رفيقة دربه قَصُرَتْ الزيارات وخَفُت بريقه، كبر أكثر في العمر بعدها مرض، فذهبنا لتفقده قبل فترة من اشتداد مرضه، وكان يسهب في حديثه وشكره وامتنانه كان يظهر حبه العميق بكلامه وأفعاله وإيماءاته كعادته، باثاً الطمأنينة مثلما تبثّ الشمس دفئها في الكون.

رحل رحمه الله مخلفاً وراءه ذكريات عالقة في نفوسنا نحنُ الذين بقينا، أغلب كبار السن قد انفضّوا عنا انفضاضاً، فخوت ديارهم خواءً مخيفاً، فكأنها تموت بموت أصحابها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق