الثقافي

بيرترام توماس أول أوروبي يعبر صحراء الربع الخالي

د. علي عفيفي علي غازي
صحفي وأكاديمي مصري

يُعد الرحالة الإنجليزي بيرترام سيدني توماس Birtram Thomas (1892- 1950) واحدًا من هؤلاء الرواد؛ فهو أول أوروبي يعبر صحراء الربع الخالي المُهلكة، الخالية من كافة أشكال الحياة، لصعوبة ووعورة ظروف الحياة المناخية فيها، والتي تُشكّل واحدة من أقسى صحاري العالم، حيث تمكن من هتك الحجاب المُسدل على هذه المنطقة المليئة بالكثبان الرملية المُحرقة، في وقت كان الدخول إلى الربع الخالي من أصعب المخاطرات، فلم يكن لكل من يعرفونه سوى رمز للعوز والحرمان والموت. ويُسجل توماس تجربته عبر مجاهيله، وينشرها بعنوان : رحلة على ظهر جمل عبـر صحـراء الربـع الخالـي A Camel Journey Across The Rub’al Khali (The Empty Quarter). وقد بدأها من صلالة بظفار في ديسمبر 1930، وانتهى إلى الدوحة بدولة قطر في فبراير 1931، وقدم وصفًا دقيقًا للكُثبان الرملية وآبار المياه، وجمع عينات جيولوجية وحيوانية، وأدوات حجرية من التكوينات الطبيعية سواء من الربع الخالي أو من قطر، ولهذا تُعد معلومات هذا الرحالة مُفيدة في دراسة البيئة القطرية والعمانية.
وُلد بيرترام توماس عام 1892 في نواحي برستول Bristol، جنوب غرب إنجلترا، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة قريته، وتخرج من كلية الثالوث بجامعة كامبريدج، والتحق بالجيش البريطاني فارسًا في الحرس الوطني عام 1908، بوظيفة ضابط سياسي في العراق، خلال الحرب العالمية الأولى، حيث عمل في المكتب السياسي البريطاني في الشرق الأوسط برئاسة السير أرنولد ويلسون، ثم عمل مستشارًا للحكومة العربية في شرق الأردن عام 1922، ومستشارًا ماليًا لسلطنة مسقط عام 1924. وقام برحلته التي عبر فيها صحراء الربع الخالي، ووصف رمالها، وكشف عن أسرارها المجهولة، وعُين وكيلًا سياسيًا في عدن 1932. وبعد تركه الخدمة في الحكومة البريطانية، تفرغ للدراسة والكتابة، حيث عُينَ مُديرًا لمركز الشرق الأوسط للدراسات العربية بلبنان عام 1944.
بدأت رحلة بيرترام توماس لعبور صحراء الربع الخالي بعد أن أنتقل من الأردن إلى مسقط، حيث عملٌ مستشارًا ماليًا ووزيرًا مفوضًا للسلطنة في مجلس وزراء تيمور بن فيصل سلطان عُمان (1913-1932)، الذي كلفه بمهمة سياسية في جزيرة مسندم؛ بهدف تحري «غيوم الحرب». وقد أمن له مركزه عدة فوائد، خاصة بعدما أصبح صديقًا شخصيًا للسلطان. ولما كانت عُمان تقع على الساحل المتاخم للربع الخالي، فهي تصلح لتكون قاعدة للانطلاق، ولما كان هدف توماس الرئيس هو عبوره. فإنه قد وجد ما يكفي من الوقت ليُهيأ ويُعدّ نفسه للرحلة، وساعده على ذلك علاقته بسلطان مسقط، الذي اصطحبه في العديد من رحلاته بالمناطق الساحلية لشرق عُمان، وشملت استعداداته عددًا من الرحلات الاستكشافية الأولية، ففي شتاء 1927- 1928، قام برحلة إلى ظفار على ظهر جمل لمسافة 600 ميل، لسبر أغوار الأماكن الصحراوية، وكانت بمثابة رحلة تجريبية استعدادًا لعبور الربع الخالي، وتصادق مع عرب بيت كثير والرشايد، وعاش معهم كبدوي من البادية. وفي الشتاء التالي (1929) ركب باتجاه الشمال حتى وصل إلى المناطق الواقعة جنوب حافة رمال الربع الخالي؛ بعد أن انخرط في حياة البدو، وتدرب على أساليب المعيشة البدوية، وارتدى الملابس العربية، ويحصل على ثقة رجال القبائل، ويتصرف كأبناء المنطقة، فأطلق لحيته، ولبس لباسهم، وأكل وشرب كما يأكلون ويشربون، وأقلع عن التدخين، وبعد اتصاله بالأشخاص الذين ربما يكونون ذوي عون له، وبعد أن تعرف على الطرق التي يُمكن الاستفادة منها، شرع في وضع التخطيط المُفصل لرحلته.
وصل بيرترام توماس إلى مدينة صلالة في أحد مراكب «البوم»، وأمضي شهرًا في الجبال، قبل أن أطلع زعيم الرشايد، الشيخ صالح بن ياقوت على مشروعه، الذي اعترض عليه مُعللًا: «إن قلب الرمال خالٍ من الحياة». لكنه وافق في النهاية على مرافقته حتى منطقة بني مُرة. وغادر الرحّالة الإنجليزي صلالة، برفقة قافلة مؤلفة من 15 جملًا، مع فريق ضم 30 شخصًا في 10ديسمبر 1930، سار إلى جانبه الشيخ الرشيدي، وإرتدي الملابس العربية، واضطر لأن يعيش كبدوي، وقد سأله أحد الرشايد لماذا يُريد السفر في مثل هذه الصحراء الرهيبة، فأجابه إنه يُحب السفر، وأن «السعي إلى العلم لدى قبيلة الإنجليز كالفروسية لدى الرشايد». وهكذا أخيرًا تحقق حلم توماس بعد أن حصل على دليل يرافقه في تجواله إلى قطر متبعًا الساحل الشرقي للجزيرة العربية. وفي 20 فبراير 1931 وصل الأراضي القطرية، ويقول توماس: «لقد خلفنا وراءنا آخر التلال الرملية، وبعد أن قطعنا الأخدود الذي كان أمامنا شاهدنا وسط السهل الحجري بئر نعيجة Nuaija، حيث تزودنا بالماء للمرة الأخيرة، وبعدها ظهرت أبراج مدينة الدوحة، التي كانت تُلقي بظلالها السوداء على مياه الخليج العربي، وبعد نصف ساعة وصلنا إلى أسوار القلعة، وهكذا انتهينا من عبور الربع الخالي».
استفاد بيرترام توماس من هذه الرحلات في تأليف كتب مُهمة عن الجزيرة العربية، منها مؤلفه عن لهجة قبيلة الشحوح مع ترجمة لمفرداتها (1930)، والعربية السعيدة: رحلة عبر صحراء الربع الخالي 1930-1932 (1932)، والعرب: قضية الناس الذين تركوا الأثر العميق في العالم (1937)، ومقال «اختراق الربع الخالي»، المنشور بمجلة جمعية وسط آسيا الملكية عام 1931، و «قبائل جنوب الجزيرة العربية»، بصحيفة معهد علم السلالات الملكي 1929-1932، و «من لهجات الجزيرة العربية»، بمجلة الجمعية الملكية الأسيوية عام 1930، ومقال عن «قبائل جنوب الجزيرة العربية» نُشر في مجلة معهد علم السلالات الملكي (1929-1931)، و «أسرة البو سعيد في عمان من 1741إلى 1937» ضمن تقارير المجمع البريطاني عام 1938. وهي كتابات استعان بها فيما بعد فيلبي في رحلاته في شبه الجزيرة العربية.
امتاز توماس بأنه يُسجل مشاهداته بأسلوب أدبي بليغ، ينسجه في سرد قصصي شعبي، كالنوع المتداول بين البدو، ويبدو ذلك في احتفائه بسيرة بني هلال، كما يًحاول أن يُقارن بينها وحياة البدو التي شاهدها، ووصفها وعايشها. وقد أثر فيه هذا التراث فنراه يوليه جُل اهتمامه بعد أن يعود إلى أوروبا، فترجم ستة وعشرين من مقامات الحريري نشرها عام 1950، بعدها عاد مرة أخرى إلى البلاد العربية، حيث تولى إدارة مركز الدراسات العربية بلبنان. ويُجمع المؤرخون على أن مساهمة توماس الكبرى تكمن فيما قدمه من معلومات قيمة عن الربع الخالي، وعن الصحراء القطرية، فلا يُضاهيه في التعريف بهذا الجزء من شبه الجزيرة العربية أحد، فقد كانت اهتماماته واسعة، إذ اهتم بالقصص الشعبي المروي بين البدو، واهتم اهتمامًا خاصًا بعلم الحيوان، واهتم كذلك بدراسة الناس القاطنين على حواف الرمال، الذين يعتبرهم من بقايا سكان شبه الجزيرة العربية الأصليين، قبل أن ينزح الساميون إليها، فدرس لهجاتهم، ووصف رقصاتهم الشعبية البدوية. وهو ما يجعله بحق يستحق توصيف روبن بدول له بأنه رحالة «محترف من قمة الرأس إلى أُخمص القدمين».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق