مقالات

بيت الإمام الخليلي في وادي محرم بين خطأ المقاول وخطيئة “البلدوزر”

حمود بن سالم السيابي 
بكى وادي محرم مرتين ، وكانت الأولى وهو يفجع بنبأ رحيل الإمام الخليلي الذي لن يعود لبيته في الوادي ليرى محراب مسجده والوجوه التي تصطف خلفه لصلاة الفجر.
والثانية عند استيقاظ أهالي الوادي على صوت “البلدوزر” المرعب يقتحم بيت الإمام في “المحضر” فيذره قاعا صفصفا.
وفي الحالة الأولى شرب الوادي دموعه وتدرَّع بالصبر فكل حي ميت.
وفي الثانية كان الجرح غائراً فالشيخ سعود بن علي الخليلي لم يأمر بهدم بيت الإمام بما يمثله من أثر هام للتاريخ وللبلدة وللناس وللشيخ سعود الخليلي نفسه ، بل أراد تسوير بيت الإمام الخليلي ليصونه من عبث العابثين فتترجم العمل النبيل إلى شر وبيل ، فالمقاول الوافد فسَّر الأوامر بتسوير المكان بإزالة ما عليه من أطلال قبل تسويره ، فإذا بالبلدوزر النَّهِم لا يأكل البيت فقط بل يأكل معه التاريخ ويحرق القلوب والأكباد فكان ما كان ، ولات ساعة مندم.
أزور وادي محرم المكلوم أسائل الحصباء عن الأخيار فأتتبع الجرح الثاعب إلى بيت الإمام وأمشي بهدي من خفقان القلب الذي يشير بأن أنعطف يميناً صوب “المحضر” جهة مسجد ازدان بقبته الزرقاء ومئذنته البيضاء الشامخة فأتتبعُ مسار الماء العابر لحلة الحصن ، ثم أصعد ومعي جدران البساتين والنخل والأمباء إلى أن أقتربُ من ساحة تتوسطها أطلال لقصر قديم ومسجد صغير.
تمنيتُ وأنا أطالع أطلال القصر القديم أن تكون الأطلال لبيت الإمام ، إلا أن الباب الحديدي الرديءالذي جلبه المقاول من أقرب ورشة حدادة هو للأسف باب سور البيت الذي يتعرج كأحداثيات تفصل بيت الإمام عن بيوت الجيران.
أهزُّ حِلَقَ الباب فتجيبني الريح ، وأدفعُ الباب الموارب فتستقبلني أخاديد لبقايا غدران نسيها المطر وأجمات تشكلتْ بهبوب الريح.
أين السبلة التي كانت هنا بدلالها التي لا تكف عن الفوران ؟، فيرعبني الصمت والريح التي تصفرْ.
وأين المواقد التي لا يبرد جمرها قبل أن تأكل البلدة ؟، فتتحشرج الأثافي.
أين المجالس التي يتردد فيها صوت القرآن ونهج البردة ؟ فقد تفرق الجمع أيدي سبأ؟.
وأين الجُلَّاس حول كتاب النيل وبيان الشرع ولباب الآثار وكتاب المصنف وجوابات أبي نبهان؟ فيخرسُ المشهد بعد أن طوى المتعلمون “بخشات” كتبهم؟.
هنا .. كان بيت الإمام إذن قبل أن يفعل البلدوزر فعلته.
وهذا هو المسجد الذي اعتاد الإمام أن يصلي فيه الفجر ويلازمُ المحراب إلى طلوع الشمس.
لقد نما الشجرُ حيث كانت الجباه تسجدْ ، وعرَّشتْ النبتاتُ حيث الشفاه تتهجدْ.
وبدلاً من أن أتنقَّلَ بين مرافق البيت ها أنذا أتنقلُ في طبوغرافية الأرض ، وأتتبعُ السور الذي يحاصر أجمات لا تعني شيئا ، ومنخفضات لا مبرر لها في المكان.
أأغلق الباب أم أتركه للريح ؟ سيان أغلقته أم تركته فلن تتطاير الصحائف ولا البروات ولا الجمر ولا الرماد.
أمشي باتجاه ساقية فلج “بوخشاشة” متتبعا الماء إلى حارة الحصن حيث آباء الإمام الخليلي اعتلوا الذرى وأقاموا قصورهم الحجرية بعيدا عن متناول البلدوزر فتسابقني الأمنيات لأردد ليت الإمام أبقى بيته هناك ليجاور النجوم ومسجد “الحوية” وأبا مسلم وغدور النخل وزهر الأمباء .
وبينما الوادي يشْرُقُ بغصص ما حدث من خطأ وخطايا يسارع القاضي الشيخ حمود بن عبدالله الراشدي ليمتشق اليراع فيسابق البلدوزر ويلملم كل الصحائف من وادي محرم إلى سحرا ، ماراً بالقابل فنزوى ، إلى حواضر عمان وبيوتها ومقاماتها وساحات جهادها وحصونها ومعاهدها فلا ينيخ مطاياه إلا في مقبرة الأئمة أو البقيع النزوي مختتما كتابة سيناريو أهم أفلام السيرة الخليلية التي جاءت تحت عنوان “الحديث الندي من سيرة الإمام الخليلي” ، وكأن الشيخ الراشدي أراد بهذا الإنجاز التقليل من آثار حماقة البلدوزر الذي ظن أنه بهدمه بيت وادي محرم  سيطمس الزمن ، فإذا بمداد الشيخ الراشدي يشتعل فيضيئ الزمن الممتد من مهد سحرا إلى لحد الغرقد النزوي ، ليستعيد كل شيء بريقه وعطره وبذخه.
وعلى امتداد ٣٣٨ صفحة يوجه الشيخ الراشدي كاميرته ليضيء ثمانية وسبعين عاما من السيرة الخليلية ومئات المشاهد التي تجتمع لأول مرة بين دفتي كتاب.
وكانت مشاهده منتقاة بعناية فالشيخ الراشدي هو ابن المدرسة الخليلية والعمامة الخليلية والزمن الخليلي.
وكان طرفا في المشاهد التي أضاءها ، أو تحركت بالقرب منه ، أو نقلها عن أقرب المقربين لدائرة الإمام وضمن السلسلة الذهبية للأحاديث الندية.
ولم يتركْ الشيخ حمود الراشدي شاردة ولا واردة إلا وتزاحمتْ في سرده وانتظمتْ في صفوف مروياته لتدخل ضمن مصطلح السبق الصحفي أو ما يعرف بالأخبار العاجلة ، فمعظم ما احتواه سفره الهام كان جديدا على الأسماع.
أتأبَّطُ كتاب الشيخ الراشدي وأنا في محضر وادي محرم أهزُّ حلق باب بيت الإمام أو باب سور بيت الإمام لأستمع هذه المرة إلى الإجابات الكاملة على كافة التساؤلات فالكتاب ثَأْر الشيخ من البلدوزر ، ومواساة الشيخ في الفجيعة ، وإستدعاء الشيخ للمشاهد الغائبة لتحضر بقوة ، وترميم الشيخ الراشدي لجغرافية السيرة الخليلية الشاملة.
وأقلبُ صفحات الكتاب فينهضُ الإمامُ الخليلي من الرقدة بجوار سلفه ناصر بن مرشد ليعود إلى وادي محرم ليصلي بالناس الفجر في مسجده.
ويعود إلى سبلته في سحرا ويعود معه دوي التدارس كدوي النحل.
وتعود الخيل لتصهل والنوق لترغي ، والسيوف لتمتشق والمدافع لتزمجر.
ويعود للمكان الشيخ سليمان بن حمير والرقيشي والشيبة السالمي وشيوخ الحرث وعبرة بن زهران وبنوهناءة والزعيم عبدالله السيابي ومعولة ابن شمس وبنو خروص وكنده وبنو رواحة وبنو جابر والدروع ووهيبة وكل القبائل وكل الكبار.
لقد هدم البلدوزر بيتا واحدا بوادي محرم فأعادالشيخ حمود الراشدي بناء ألف بيت وبيت في جغرافيا السيرة الخليلية ، ولن يكون بمقدور أي بلدوزر نسفها بعد اليوم مهما أوتي من مخالب وأنياب.
وأصلُ إلى الصفحة الأخيرة من “الحديث الندي في سيرة الإمام الخليلي” فأغلق محلاق باب سور البيت لأبدأ طريق العودة لأثر عماني آخر  وصوت والدي يجلجل في الزمن الخليلي :
قد كنتَ والناس بالتقوى قد ادَّرعوا
لصوت داعيك أضحوا مستجيبينا
ملء المساجد بالقرآن كلهم
لم  يعرفوا الغي للقرآن  تالينا
مسقط في العشرين من فبراير ٢٠١٩م.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق