مقالات

العنصري الذي في داخلك!

محمد الحميدي

  أنت جالس خلف شاشتك الصغيرة، مستغرقٌ في متابعة إحدى الألعاب التي تهمك، والمشاركُ فريقُك المفضل فيها، إذا به يحرز هدفا! وإذا بك تنتشي وتصرخ وتطلق أصوات الانتصار! هنا أنت وفريقُك تتوحدان، وتصبحان كياناً واحداً، لا يجوز التفريق بينكما، وكما يحصل في الانتصارات، فكذلك الهزائم.

   حيث في الهزيمة، تجدُ نفسك وأنت مهتاج ومشحون بآلاف الشياطين، ولربما كسرت شاشتك الأثيرة، تلك التي تتابع العالم من خلفها، لتتوحد بفراغك، وعنصريتك، وهيجانك، حينها فقط، ستدرك فداحة ما فعلت، وستندم على تحطيم الشاشة، لأنك ستشتري أخرى، وأخرى، وأخرى، ولن تتوقف أبداً، فالعنصرية لا علاج لها.

   ليس غريباً على الإنسان أن يكون منحازاً لفريق، أو لفئة من الفئات العرقية، أو اللغوية، فالميل للمُشابه أمر يبدو فطرياً، إذ تميل أنت إلى ما يتوافق معك من آراء وأفكار وحالات بشرية، وهي هنا تتمثل في فريقك المفضل، والأثير، أو لاعبك الأوحد والأكمل، لأن الانحياز يُريك المحاسن فقط، أما المعايب فهي وراء ظهرك، ولن تراها.

   لا يخلو إنسان إذن من طبيعة الانحياز، التي تكاد تكون غريزة وفطرة أودعها الخالق في جسده وروحه، وعبرها يستطيع هذا الإنسان أن يحقق اجتماعيته وتفاعله مع الحياة على الأرض، ففي النهاية الإنسان “كائن اجتماعي” ولا يعيش منفرداً، دون رفيق، أو سمير يأنس بصحبته، ويشاركه الأفراح والهموم.

   العرب ليسوا بِدعاً من البشرية، فلهم انحيازهم الخاص إلى لغتهم، وقبيلتهم، وانتمائهم، ولعلهم من أقدم الأمم التي أدركت ذلك، وأودعته في تراثها وأخبارها، ففي إحدى المعارك ولعلها بين العرب والفرس، حين سُئل المقاتل العربي عن أخبار المعركة، أجاب بقوله: “والله لقد رأيت الدم العربي ينماز عن الدم غير العربي”.

   فكأن هذا الدم اختط لنفسه طريقاً مختلفاً وبعيداً عن دم الجندي غير العربي، حيث لا يلتقيان، ولا يمكن أن يمتزجا، ولو دققنا النظر في كلمة “ينماز” لوجدناها قريبة من كلمة “ينحاز” وهو ما يشير إلى تشابه المعنى والدلالة وأنهما يعودان إلى أصل واحد، كما يرى أبو علي الفارسي في معجم “مقاييس اللغة”.

   القضية ليست في العنصرية البشرية، إنما في نتائجها، وما تفرزه من آثار وتبعات، فغالباً بين المتنافسين تحصل مناوشات، وصدامات، ثم تنتهي، ويذهب كل واحد إلى سبيله، دون أن يُصاب بسوء، ولكن هذا ليس القاعدة الدائمة، حيث يمكن رؤية الدماء والإصابات في نهاية الحدث.

   كُرة القدم، والرياضات التنافسية عموماً، تمثل بؤرة فاقعة للعنصرية، إذ أثناء المشاهدة تظهر سلوكيات العنصري، وبلا أي مواربة، عبر الشتائم والانفعالات الحادة، والتأوه لضياع الفرص وفوت الأهداف، أو عبر القفز فرحاً والسعادة البادية على الملامح عند إحراز النصر.

   المباريات بيئة خصبة لصناعة العنصري، فالتنافس الحاد، والميل إلى أحد الفريقين، والانحياز إليه، والدفاع عنه، يولد شعوراً داخلياً بالانتماء العميق لكل ما يمثله هذا الفريق، فالهوية حاضرة هنا، وهي نتاج العنصرية، بل والعنصرية الحادة جداً، بحيث تكون طاغية على ما عداها.

   نتائج الأفعال، والسلوكيات، إنما تتحدد ببداياتها، فإذا كانت العنصرية حاضرة فالمآلُ هو التحطيمُ والتكسير للمنافس وأتباعه، وهنا قد تُشاهَد المعارك الدامية، ونزيف الأنوف والأكف، ولولا خوف النظام والخشية من العقاب لرأينا الحوادث العنصرية لا تتوقف، فما يمنع الناسَ من إظهار عُنصريتهم وانحيازهم، إنما هو الرادع الأمني.

   في نهاية المقال يمكن التأكيد على أن المباريات الرياضية والتنافسية تخفي خلفها الكثير من الرمزيات وعلى رأسها وأهمها رمزية العنف والعنصرية، حيث تُعتبر تمريناً عملياً على الفعل العنصري، وما يتم استخدامه أثناء الرياضة، سيكون من السهل استخدامه أثناء الاختلافات البينية بين الأفراد ضمن مجالات الحياة المختلفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق