السياحي

“المكلا” ليست كأي رحلة

 

رحلتي إلى حضرموت، وبالتحديد إلى عاصمة إقليمها “المكلا” التي حلمت بزيارتها منذ سنوات، العمر يمضي ونور اليمن يخفت، مما زادني اشتياقاً وخوفاً من أن تختفي آمالي. وهنا اليوم تحققت الأحلام وسط أوضاع لربما سمع عنها الكثير، بما تعيشه وتمر به اليمن السعيد من مشاهد قاسية ومحزنة، وكلنا أمل بأن نراها مثل ما هي سعيدة، بعيداً عن كل هذا وذاك. شددت الرحال من بلدتي “فنجاء” ومن معي من الزملاء عابراً في رحلة جوية إلى محطة انطلاق المقصد في “صلالة”، حيث كان التجمع وربط الأحزمة والعدة التي تلازمني في سفري وترحالي، وأقصد هنا رفيقة دربي “آلة التصوير” التي أعدها خير شاهد مما أنقله من مشاهد وقصص وحكايات.  

سيف بن ناصر الرواحي – باحث ومصور ضوئي

في تمام الساعة العاشرة صباحا إذ انطلق بنا الباص عابرا الأجواء الخريفية مروراً بضلكوت وإلى الحدود العمانية اليمنية بمنطقة “صرفيت”، حتى توقفنا لدقائق بسيطة استكمالا لبعض الإجراءات الأمنية المعتادة، ثم دخلنا الأراضي اليمنية، حيث أن الأجواء الخريفية من جمال وخضرة وروعة المكان تلازمنا المسير لساعتين في محافظة “المهرة” إلى أن سلكنا الطريق البحري المتعرج. هنا يتكرر المشهد من خلال مرورنا على قرى ومنازل شُهد بها عراقة التاريخ ومسجد شيد من الحجارة، ومحلات صغيرة تقضي لهم الحوائج اليومية، أطفال يلعبون في الحارة، وبجانبهم كبار السن يتداولون الحديث متحلقين حول بعضهم في دائرة، ومنهم من يلعبون لعبة “الحواليس” الشعبية التي امتاز بها الأهالي القاطنين بمحاذاة البحر، إلا أن عدستي سجلت تلك اللحظات من نافذة الباص الضيقة. اختفت الشمس بيوم المسير الأول والطريق يطول! إلى أن وصلنا مدينة “الغيضة” المعروفة بسوقها الشعبي الجميل، الذي يقصده الكثير من أهالي القرى والمدن المجاورة، توقفنا لمدة نصف ساعة تقريباً لاستبدال السائق بسائق آخر، واستبدال العملة العمانية إلى اليمينة، وفي تلك الدقائق البسيطة اكتفينا بمشاهدة حياة الناس وهم يتجولون ويقضون حوائجهم اليومية في “الغيضة”.

المكلا، سحر وجمال

الباص يتحرك مجددا، اعتراني الفضول لبعض الشيء وأنا أناشد السائق بسؤالي حول المسافة المتبقية، وهو يجيب بكل نشاط: 10 ساعات. عم الهدوء أرجاء المكان، وبداخلنا حب وشوق ل”المكلا”، حيث مررنا عبر طريق ليلي خافت، تداخلت بنا الجبال الشاهقة والأنفاق والممرات الشاقةعم الهدوء أرجاء المكان، وأخذنا قسطا من الراحة، ساعات قليلة، وصباح يوم جديد وصلنا “المكلا”. أقلتنا سيارة الأجرة حيث كانت من نوع كريسيدا موديل 1988م خضراء اللون، حينها دار حديث بيننا مع السائق عن الأوضاع الأمنية في السائدة في المنطقة تلك اللحظة، فبادر هو بالإجابة بكل هدوء “اطمئنوا”. إلى أن وصلنا الفندق لننطلق بعدها في أغوار وأزقة “المكلا” الجميلة وأجزاء حضرموت عامةً.  “حضرموت” مدينة ذات الأبعاد التاريخية المتأصلة منذ القدم، تقع في الجزء الشرقي للجمهورية اليمنية على ساحل البحر العربي، وتبعد عن العاصمة صنعاء بحدود (794) كيلو متراً. وتعد “المكلا” عاصمة إقليمها التي تقع في جزئها الجنوبي، ومركزها السياسي والاقتصادي، وهي ثالث أكبر المدن بعد صنعاء وعدن، مدينة ذات طابع سياحي جميل، تحيط بها مجموعة من الجبال المتوسطة اللإرتفاع بشكل دائري، كما تمر من خلالها عدة أودية تصب في سواحلها، حيث أن الطقس فيها حار صيفا ومعتدل شتاءً، وتهطل الأمطار الشبه الموسمية فيها.  تعد المكلا مدينة حديثة المنشأ، بالرغم مما تلامسه من انتعاش الأسواق، والمقاهي الشعبية المنتشرة في أرجاءها التي ذكرتني في إحدى ليالي “وسط البلد” بالقاهرة، فضلاً عن الزحف العمراني الذي امتد على شكل مدرجات في جبالها المحيطة.

الشاي العدني والشكشوكة

مما شدّني في “المكلا” أكثر وأنا أتجول فيها، هي تلك الأبراج والحصون والأسوار الضخمة المنتشرة في أرجاءها لحمايتها، مما جعلها مدينة حصينة بما تشتهر به من قوة ومكانة في ظل وجود ميناء اقتصادي كانت ترسو به السفن والباخرات لتنزيل وتحميل البضائع مما وجب ذلك حمايته. وعندما نعود إلى التاريخ وبالتحديد في عام 1915م  وحسب المصادر الموثوقة فقد اتخذت السلطنة “القعيطية” عاصمة لها، وكان السلطان حاكماً لها مما زادها مكانة وشهرةً. تمتاز بطابعها العمراني المميز وبهندستها المعمارية المتفردة، حيث أن المآذن بها شامخة وأدوار مبانيها القديمة ذات الألوان المختلفة تعلو حتى خمسة أدوار وأكثر، وتداخلت معها المباني الحديثة التي تشارف البحر في علوها، يفصلها خور ممتد من البحر يبلغ طوله قرابة 2 كيلومتر، وبعرض 400 متر مربع تقريبا، ويقصده الكثير من السياح وزوار المدينة للاستمتاع والاستجمام والترفيه. كانت لي تجربة في صعودي على متن يخت مكشوف مخصص للقطاع السياحي، أخذني في جولة سياحية بين أطراف المدينة لمدة نصف ساعة وبسعر رمزي، مما ساعدني في إلتقاط مجموعة من الصور والذكريات الجميلة. يلاحظ زائر المدينة انتشارا كبيرا للمقاهي والمطاعم الشعبية في مختلف المواقع، مما يدل على سمعة اليمن واشتهارها بالمأكولات الشعبية والتي انتشرت في شتى أرجاء الوطن العربي، حيث تتنوع بين الأرز المندي وباخمري والشاي العدني والشكشوكة المكونة من البيض والطماطم والبصل، التي تعد من المأكولات السريعة التحضير التي تستغرق تحضيرها 5 دقائق كأقصى مدة. ولخبز التنور اليمني قصة أخرى، يتم تقديمه ساخنا، قد تكتفي معه باحتساء الشاي العدني لما يتميز به من لذة المذاق. حرصت على تناول هذه الأطعمة الشهية طوال تواجدي هناك، فضلا عن الفواكه والخضراوات ذات الإنتاج المحلي والمنتشرة في كل مكان.

الناس والسوق والشبوانية

ها نحن في يوم آخر من أيام “المكلا” قصدنا الممشى إلى مدن أخرى مجاورة لها، حيث كانت لنا زيارة لمديرية “غيل باوزير” التي تتبع محافظة حضرموت إداريا، وهي عبارة عن أرض واسعة فيها ينابيع ماء غزيرة جارية، والكثير من أشجار النخيل، وبها مشاهد وذكريات جميلة، حيث عرفت بالمدرسة التاريخية التي تخرّج منها كبار أعلام الدين والسياسة، وتمتاز أيضاً بسوقها الشعبي الذي يعرض فيه الكثير من الاحتياجات الأساسية اليومية، لذا كانت لنا ذكرى جميلة ونحن نتجول بين ساحات وأزقة المدينة، ليرتسم لنا جمال صفاء قلوب سكانها، التي ترفرف بأمل مشرق، حيث عنونتها ب”الناس والسوق”. لفت انتباهنا ذلك التجمع الكبير لكبار السن والشباب وتحديدا بعد فراغهم من صلاة العصر، وذلك في مكان مخصص انتشروا فيه، فمنهم من يشاهد التلفاز، ومنهم من يتبادل أطراف الحديث، ولا تفارقهم الإبتسامة والدعابة. وآخر يتجول ببريق ابتسامته اللامعه التي لا تفارقه يوزع بينهم الشاي العدني، وغيرها من اللحظات السعيدة التي حرصت على توثيقها في ذاكرة آلة التصوير التي حملتها على كتفي رفيقة في رحلتي. وتكرر المشهد في مدينة “الشحر” القريبة من مدينة “غيل باوزير” وقد تميزت زيارتنا بحضور مناسبة زواج أحد أصحاب المدينة، ما زالت مناسبات الأعراس، في حضرموت خاصةً واليمن عامةً، تحافظ على طقوسها القديمة من عادات وتقاليد، حيث الزي اليمني التقليدي، ومشاركة الأهالي والجيران ووليمة الغداء والفنون الشعبية التي تتخللها رقصة “الشبوانية” التي نشرت جمالها في هذه المشاركة.

التاريخ اليمني العريق

مرّت الأيام الجميلة في المكلا سريعاً إلى أن حانت ساعة الوداع، تلك المدينة الحالمة بمستقبل مشرق حاملة في طياتها الكثير من المشاعر النبيلة. وقد قررنا أن نتخذ مسار العودة عبر طريق يتسم بعبق التاريخ اليمني العريق، وهو طريق الوادي الذي يحاذي سلاسل جبلية شامخة، ذات موقع جغرافي رائع، تقبع على طول الطريق مدن تاريخية جميلة تجبرك على التمعن والنظر إلى تلك الحضارة الممتدة لآلاف السنين، وخير مثال على ذلك “مدينة تريم” التي عرفت بمركزها العلمي والديني، واشتهرت باحتوائها على ٣٦٥ مسجداً _بحسب المراجع_ إضافة إلى الأربطة التي يقصدها طلاب العلم من أنحاء العالم، و”درة تريم” يقصد بها مأذنة مسجد المحضار الطينية التي يتجاوز ارتفاعها 55م. ومدينة أخرى لفتت انتباهي وهي “مدينة شبام” المبنيّة من الطين، حيث يصل ارتفاع بعض مبانيها إلى عشرة طوابق، ويزيد عمر بعضها عن 500 سنة، وتعد أولى ناطحات السحاب في العالم، مما وضع “شبام” في قائمة اليونسكو لمحميّات التراث العالمي. والحديث التاريخي التليد يطول في ذلك المسار الممتع رغم طول المسافة لتختفي لنا مئات الحكايات باختفاء معالم المدن اليمنية خلفنا. إلى أن وصلنا بحمد من المولى عزو جل المنفذ الحدودي اليمني – العماني “المزيونة” لنختم تلك الزيارة التي وصفتها بـ ( ليست كأي رحلة) لجمالها وشعبها الكريم والمضياف.

 

تم نشر المادة في العدد 24

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق