الثقافي

عزيز نيسين.. يمنح وسامًا لحمار.!

زاهر المحروقي

مسألةُ إلهاء الشعوب عن القضايا الرئيسية قديمة، وقد استخدمتها بعض الحكومات منذ زمن بعيد وبأساليب مختلفة. وتختلف طريقة الإلهاء من بلد لآخر،  حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكلِّ بلد. لذا نرى أنّ بعض الدول – قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي – ألهت مواطنيها بكرة القدم وبالفن؛ وأسّست في سبيل ذلك، الكثير من المجلات الفنية وكذلك القنوات الرياضية، وأنشأت العديد من الصحف الرياضية، التي تتناول الشأن الرياضي لفترات طويلة. وكان الهدف من ذلك إلهاء الشعب عن الاهتمام بالقضايا الأساسية؛ كالمطالبة بالمساواة والعدالة والحقوق، وحرية التعبير وإبداء الرأي في القضايا العامة وغيرها من الحقوق المغيّبة.

كان الإعلام – ولا يزال – هو الأداة الرئيسية التي تعتمد عليها الحكومات في مسألة الإلهاء؛ وذلك بإشغال الرأي العام بقضية هامشية لفترة والتركيز عليها، قبل الانتقال إلى قضية أخرى. ويرى المفكّر والفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي في مقال له أنّ هناك عشر استراتيجيات للتحكم بالشعوب. وقد  استند في مقاله ذاك على وثيقة مصنّفة بأنها سرية للغاية، يعود تاريخها إلى عام 1979م ، وتم العثور عليها عام 1986م ، وتحمل عنواناً مثيراً هو “الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة”؛ وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتحكم في البشر  والمجتمعات، ويرجِّح المختصون أنها تعود إلى بعض دوائر النفوذ العالمي، التي عادةً ما تجمع كبار الساسة والرأسماليين والخبراء في مختلف المجالات.

في هذا المقال، سأختار بعض الاستراتيجيات، والتي تتماشى مع فكرة المقال؛ ويأتي في مقدمتها الإلهاء. فتقول هذه الاستراتيجية: “حافظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيدًا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، وألهوه بمسائل تافهة لا أهمية لها. أبقُوا الجمهور مشغولا.. مشغولا.. مشغولا.. دون أن يكون لديه أيُّ وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى”. ويضيف تشومسكي “إنّ عنصرًا أساسيًا في التحكم الاجتماعي هو إلهاء العامة عن الانتباه للقضايا والتغييرات الاجتماعية الهامة التي تحدِّدها النخب السياسية والاقتصادية، من خلال تصدير كَمّ كبير من الإلهاءات والمعلومات التافهة. وتتضمن تلك الاستراتيجية أيضًا منع العامة من الاطلاع والمعرفة الأساسية بمجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس والعلوم البيولوجية”.

أما الاستراتيجية الخامسة بعنوان “خاطِب العامّة كأنهم أطفال”، فتقول: “إذا تمَّ التوجه إلى شخص مّا، كما لو أنّه لم يتجاوز بعد، الثانيةَ عشرة من عمره، فإنه يتم الإيحاء له بأنه فعلا كذلك؛ وبسبب قابليته للتأثر، من المحتمل، إذن، أن تكون إجابته التلقائية أو ردّ فعله مفرغة من أيِّ حس نقدي، كما لو أنه صادر فعلا عن طفل ذي اثنتي عشرة سنة”؛ وهذا مُشَاهَدٌ وواقعٌ في الوطن العربي؛ فدائمًا يتم التعامل مع الشعوب على أنها قاصرة لم تبلغ الحلم بعد، وأنها لا تعرف ما يضرّها وما ينفعها، لذا على الحكومات أن تفكر عن هذه الشعوب وتتخذ القرارات بدلاً منها؛ فهي الأدرى بمصلحتها.

ولكن الأنكى ممّا سبق هي الاستراتيجية السابعة التي جاءت بعنوان “إبقاء العامة في حالة من الجهل والغباء”؛ وهذه الاستراتيجية كفيلة بتدمير أيِّ أمة في الأرض. فلا أخطر على الأمم والشعوب والحكومات بل وعلى الحكّام أنفسهم، من الجهل والغباء. تقول هذه الاستراتيجية: “يجب أن تكون جودة التعليم المقدَّم للطبقات الدّنيا، رديئةً بشكلٍ يعمِّق الفجوة بين تلك الطبقات والطبقات الراقية، التي تمثل صفوة المجتمع، ويصبح من المستحيل على تلك الطبقات الدّنيا معرفة أسرار تلك الفجوة”. وبذلك تصبح الشعوب مثل الأنعام عليها أن تأكل وتنام، لأنها عاجزة عن فهم كلِّ ما يدور حولها؛ وبهذا الجهل والغباء يسهل السيطرة عليها.

نستطيع أن نقول إنّ البلدان العربية، نجحت في العقود الماضية، في تنفيذ  استراتيجيات الإلهاء، قبل أن ينشرها نعوم تشومسكي في مقاله ذلك؛ وقد تمثّل النجاح في تضييق فكر الناس، عبر تشكيل وعيهم وقناعاتهم بما يرمي إلى إخضاعهم لإرادة الحكومات؛ وذلك بالاهتمام بالتوافه من الأمور، دون أن يكون لهم رأيٌ أو إرادةٌ حرّة، حتى وصلوا إلى مرحلة الاهتمام بالأكل والنوم فقط؛ وها هو الأكل بدأ الآن يعزّ على الناس، وبدأت الأوضاع الاقتصادية تنهار حتى في الدول التي تصنّفُ بأنها غنيّة؛ وهي الدول التي بعثرت ملياراتها على التوافه، وعلى شراء أسلحة خيالية لن تُستخدم إلا ضد الشعوب العربية. ومع كلِّ ما أخذ ترامب من بعض الدول العربية، إلا أنه سماه “فتات”.

تم إلهاء الناس بمعارك الحكومات العربية السياسية؛ وكانت الأزمة الخليجية القطرية العنوان الأبرز في ذلك، وكذلك الحرب على اليمن. كما تمّ إشغالهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأوضاع العراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر والسودان؛ وبخوض معارك وهميّة عن الاختلاف الديني والمذهبي. والأغرب من ذلك استدعاء التاريخ وإثارة الحروب بسببه، وغيرها من المعارك، التي ألهت الناس عن الأساسيات.

تنبّه الكاتب التركيّ الراحل عزيز نيسين إلى مسألة الإلهاء هذه، وذلك في قِصّتِه القصيرة بعنوان “وسامٌ للحمار” التي أجد أنه من المناسب سردها.

***

كان في قديم الزمان بلادٌ, أشرقت شمس الحريّة عليها, واخضوضرت شجرة الديمقراطية في تربتها. الخير كثير، والراحة أكثر. سكّانها لا همَّ لهم ولا غم. راحت أيام وجاءت أيام, حلَّ فيها قحط لا يوصف. الذين كانوا يأكلون الكثير واللذيذ، أصبحوا محرومين حتى من كسرة الخبز اليابس. وجد الحاكم أنّ المجاعة ستفتك بالرعية؛ فبحث عن طريق للخلاص. أطلق المنادين في أنحاء البلاد. كان القرار الذي نادى به هكذا: يا أهالي البلد؛ الحاضر يُعلم الغائب، كلّ من قدّم خدمة للمملكة أو نفعًا للوطن, فليسرع إلى القصر ليقدِّم له مولانا الحاكم وسامًا. نسي النّاس جوعهم, حرمانهم, همومهم, ديونهم, مصاريفهم.. وهُرعوا إلى الحاكم هائمين بأوسمته. فلكلٍّ وسامٌ حسب حجم خدماته. وسام المرتبة الأولى مطليّ بالذهب؛ وسام المرتية الثانبة بماء الذهب؛ وسام المرتبة الثالثة بالفضة؛ وسام المرتبة الرابعة بالقصدير؛ والخامس توتياء؛ والسادس تنك؛ وهكذا.. وهكذا فالأوسمةُ أنواع. الذاهب يحصل على وسام، والآيب يحصل على وسام؛ وبقي الحال على هذا حتى أنه من فرط صنع الأوسمة, لم يبق في بلاد الحاكم ذاك، شيءٌ من خردة حديد أو توتياء أو تنك.

سمعتْ بقرةٌ عن الأوسمة التي تقرقع على صدور الناس, وأنّ الحاكم يمنح قاصديه أوسمة. ففكّرت: الوسام في الواقع من حقِّي أنا!. وضعَتْ البقرةُ في ذهنها فكرة الحصول على الوسام. وبالرغم من كون عمودها الفقري وقفصها الصدري ناقبين, وأنها تطب على الأرض كمن يزحف زحفًا, فقد حضرت إلى باب القصر ركضًا. قالت لرئيس البوابين: أخبروا الحاكم بأنّ بقرة تريد مقابلته. أرادوا صرفها، فبدأت تخور: لا أخطو خطوة واحدة من أمام الباب قبل أن أقابل  الحاكم!

أرسلوا للحاكم: مولانا؛ بقرةٌ من رعيّتكم تودّ المثول أمامكم. أجاب الحاكم : لتأتِ لنرى بأية حال هي هذه البقرة! وعندما أُدخِلتْ عليه قال: خوري لنرى ما ستخورين به! قالت: مولاي؛ سمعتُ بأنّك توزِّع أوسمة. أريد وسامًا.

فصرخ الحاكم: بأيِّ حق؟ وماذا قدَّمتِ؟ ما نفعك للوطن حتى نعطيك وسامًا؟!

قالت: إذا لم أعطَ أنا وسامًا فمن يُعطاه؟ تأكلون لحمي وتشربون حليبي وتلبسون جلدي. حتى روثي لا تتركونه؛ بل تستعملونه. من أجل وسام من التنك ماذا عليَّ أن أعمل أكثر من هذا؟!.

وجد الحاكم الحقّ في طلب البقرة، فأعطاها وسامًا من المرتبة الثانية. علقت البقرة الوسام في رقبتها؛ وبينما هي عائدة من القصر, ترقص فرحًا, التقت البغل الذي بادرها بالسلام:

  • مرحبًا يا أختي البقرة.
  • مرحبًا يا أخي البغل
  • ما كلّ هذا الانشراح؟ من أين أنت قادمة؟.

شرحت البقرة كلَّ شيء بالتفصيل؛ وإذ قالت إنها أخذت وسامًا من الحاكم, هاج البغل. وذهب إلى قصر الحاكم: أريد مقابلة مولانا!. قيل له: ممنوع. إلا أنه وبعناده الموروث عن أبيه, حرن وتعاطى على قائميه الخلفيين. أبى التراجع عن باب القصر. نقلوا الصورة إلى الحاكم فقال: البغل أيضًا من رعيّتي, فليأت ونرى.

مثل البغل بين يديه. ألقى سلامًا بغليًا, قبّل اليد والثوب, ثم قال إنه يريد وسامًا. فسأله الحاكم: ما الذي قدّمتَه حتى تحصل على وسام؟. رد البغل: ومن قدَّم أكثر ممّا قدّمتُ أنا؟. ألستُ من يحملُ مدافعكم وبنادقكم على ظهره أيام الحرب؟ ألستُ من يركب أطفالُكم وعيالُكم ظهرَه أيام السلم؟. لولاي ما استطعتم فعل شيء. أصدر الحاكم – إذ رأى البغل على حق – قرارًا:

اعطوا مواطني البغل وسامًا من المرتبة الأولى.

وبينما كان البغل عائدًا من القصر بنعاله الأربعة, وهو في حالة فرح قصوى.  التقى بالحمار. قال الحمار: مرحبًا يا ابن الأخ. قال البغل: مرحبًا أيها العم. من أين أنت قادم وإلى أين أنت ذاهب؟ حكى له البغل حكايته. قال الحمار: ما دام الأمر هكذا؛ سأذهب أنا الآخر إلى حاكمنا وآخذُ وسامًا. وركض بنعله الأربعة إلى القصر. صاح حراس القصر بالحمار، لكنهم لم يستطيعوا صدَّه بشكلٍ من الأشكال. فذهبوا إلى الحاكم: مواطنكم الحمار يريد المثول بين أيديكم. هلا تفضلتم باستقباله؟. استقبل الحاكم مواطنه الحمار وسأله: ماذا تبغي يا مواطننا الحمار؟. فأخبر الحمارُ الحاكمَ برغبته. فقال الحاكم وقد وصلت روحه إلى أنفه: البقرة تنفع الوطن والرعيّة بلحمها وحليبها وجلدها وروثها؛ وإذا قلتَ البغل, فإنه يحمل الأحمال على ظهره في الحرب والسلم, ومن ثم فإنه ينفع وطنه, ماذا قدّمتَ أنتَ؟. فقال الحمار وهو يتصدر مسرورًا: إنّ أعظم الخدمات هي تلك التي تُقدَّم إليكم من رعاياكم الحمير؛ فلو لم يكن الألوف من الحمير مثلي بين رعيتكم, أفكنتم تستطيعون الجلوس على العرش؟. هل كانت استمرت سلطتكم؟ احمد ربَّك على كون رعيتكم حميراً مثلي تمامًا, ومن ثمّ على استمرار حُكمكم!.

أيقن الحاكم أنّ الحمار الذي أمامه لن يرضى بوسام من التنك كغيره. فقال:  يا مُواطني الحمار, ليس عندي وسامٌ يليق بخدماتكم الجليلة؛ لذا آمر بأن يُقدَّم لك عدل من التبن يوميًا في اسطبل القصر. كُلْ.. كُلْ.. كُلْ حتى يستمر حكمي.

***

يرى عزيز نيسين إذن أنّ الشعوب اليوم ارتضت بلقمة العيش الذليلة فقط، وتنازلت عن حقوقها في سبيل أن تأكل وتعيش – حالها كحال الحمير -، دون أن يحقّ لها أن تطالب بالحُريّة والعزة الكرامة، وأنه تم إلهاءُ الناس بأشياء تبدو أنها تكريم، ولكنّ التكريم تمّ بأشياء غير مفيدة، مثل الأوسمة؛ فالناس تتضوّر جوعاً والحاكمُ يعطي النّاس أوسمة من التنك. وكان من نتيجة إلهاء الشعوب أنّ الحكومات رفضت مبدأ النقد، حتى وإن كان بنّاءً يؤدي إلى مصلحة الوطن؛ وفي ذلك ضرر، بل كل الضرر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق