السياحي

حيث «يدق العالم شماسيه» على شاطئ بتايا المفترى عليه

حمود بن سالم السيابي 

لقد حمل نهر «تشاو فرايا» القادم من بانكوك كل هذا الوحل الناتج من لحاء الشجر وإفراغات المسطحات المائية التي تستزرع فيها الأسماك ليلقيه في خليج تايلند وبحر الصين الجنوبي المثقل بعشرات الأنهار الآسيوية ومن مختلف المسارات، والمسببة لهذا الكدر وهذه الكآبة بما تقذفه من ترسبات.
إلا أن تشويهات شاطئ بتايا لا تتمثل في إلقاء قذارات المسار الطويل من  بانكوك بل في إصدار الأحكام المتعجلة التي تستبق المعاينة فتجلده بسياط السمعة السيئة لبتايا كبؤرة من بؤر الآثام.
ومن عتبة فندق «بارك حياة» في «سنترال إمباسي» ببانكوك إلى أول موجة في الشاطئ المفترى عليه في «أنفو بانج لامونج» نهبت السيارة الطريق من بانكوك العاصمة إلى بتايا لؤلؤة الخليج التايلندي مخترقة مسطحات الماء والسهوب الخضراء الموشاة بالشجر والأكمات وبعض الجبال الخضراء طوال ١٦٠ كيلومترا.
سرنا وسط موج من السيارات المجنونة التي ما أن تتبرَّم من التوقف عند بوابات دفع رسوم الطريق حتى تنطلق بأقصى سرعتها لبوابة أخرى استنزفها ما يجعلها تتوتر وتستحث الوصول لمواعيدها  المضروبة مع البحر ورضاب الموج.
وبعد مسير الساعتين كانت رائحة البحر ورطوبته أسبق من «النافيجيتر» في التعريف باقترابنا من بتايا.
وكلما تقدمنا كانت روائح الأسماك المشوية والمحار الذائب في الجمر وتمازج التوابل بالخلطات الشعبية ترجرج كرنفال الروائح التايلندية لتتحدث عن مدينة شاطئية محبة للمرح والحياة.
اقتربنا من شاطئ «بانج لامونج» فتساءلنا ما إذا كان علينا أن نغلق الهواتف ونتوقف عن التصوير خشية أن تستعرض بتايا مفاتنها وجرأتها الخارجة عن الاحتشام فلربما ستصدم الزائر بروحها المتمردة وخلاعتها وفوضويتها؟، أم سنصوِّر الشاطئ بموجه ونارجيله ودراجاته المائية ويخوته وعشاقه الذين سينزفون على الرمل الوجع والشعراء الذين يصنعون من كآبة بحر الصين الجنوبي لوحات تتماوج مع رمادية الموج وسواد الظلال فيحصد الآيفون بتايا كما هي بلا رتوش؟.
وانحزنا للخيار الثاني فكانت المفاجأة أن بتايا في النهار لا تختلف عن مدن العرب التي ترتدي لباس البحر إلا أنها توارت عن الأنظار في المياه الكدرة واحتمت بالشماسي.
ومتى خرجتْ إلى الممشى سترتْ نفسها بالملابس القطنية المزركشة كملابس النساء الإفريقيات.
وحين دخلت لعبة المقارنات بين شاطئ بتايا الذي تلوكه الألسنة وشطآن العرب المسكوت عنها، فوجدت أن ما ينسحب على شطآن العرب من انفلات ينسحب على بتايا، رغم أن الشطآن العربية هي الأوْلى من غيرها في الحياء ومراعاة الإحتشام والتخلق بأخلاق العرب والإسلام.
اقتربتُ من البحر أغسل قدمي بملحه وأتأمل الموج القادم من كمبوديا وفيتنام وأندونيسيا والعابر لمضيق ملقا والمتداخل مع شطآن سنغافورة وماليزيا فكم من تجارة حملها هذا البحر، وكم من موجة ارتطمت بالسفن العملاقة وهي تحمل خيرات الشرق الأقصى إلى بلاد العرب والغرب، وكم من مدمرات جابت مياهه لتتسيد، وكم من غواصات تحسست قيعانه، وكم وكم وكم من دماء سالت على صفحاته احتكاما لانتصار الأقوى؟.
هذا شاطئ تايلند المفترى عليه كما رأيته في النهار، وهذا حصاد الآيفون الذي لم يرصد ما يختلف عن شطآن العرب، فكل نساء الشطآن يطلن الوقوف أمام المرايا ليباهين الحوريات ويضعن الكحل ليغسله البحر .
أما ليل بتايا فيصدق فيه قول الشاعر التايلندي زكريا أماتيا:
“تتفتح زهرة المدينة بالليل”
ولعل في ليلها ما يقال عنه، ولعله أكثر مما يقال عنه.
ما زلنا في السيارة والشاطئ الزمردي يتتابع راسما هلالا من اليابسة وهو يحتضن البحر، بينما اليابسة تصطخب بمهرجان الألوان الذي تفترشه الشماسي والفساتين الفضفاضة كلباس الإفريقيات .
تركنا السيارة التي أقلتنا من بانكوك عند أكثر الأماكن حيوية، وترجلنا لنمشي وقد بلغ الجوع حده والعطش مداه فاتصلتُ بالشيخين جمعه بن سعيد الرقيشي وأحمد بن محمد الرحبي فالأول له خبراته التي غذتها عشرات الزيارات لبتايا فأوصانا بمطعم أبي سعيد والثاني له تجاربه مع الزيارات العائلية فاقترح لنا زهرة الخليج أو تجربة المطبخ الياباني في مطعم بالدور السادس بأفخم مجمعات بتايا فاخترت خبرة الأول لذوقه الشعبي وكان فيصل وأسامة وسالم أنجالي مع نفس الاختيار، وأجّلنا خبرة الثاني للعشاء كونه الأقرب للذوق الشبابي فنفوز بحسنيي الذوقين إن طال بنا المقام.
كان أبو سعيد الليبي صاحب المطعم يرحب بمرتادي مطعمه عند الباب فقادتنا إحدى نادلاته إلى الطابق العلوي المكسو بنسيج السدو البدوي والمزدان بصورة لعمر المختار فأكلنا طعاما مشرقيا بخبرة مغاربية ونحن نتأمل صورة عمر المختار ونستذكر سليمان الباروني ونستدعي الملك إدريس السنوسي ونترحم على القذافي الذي كان ينصب خيمته في عواصم العالم وفي حدائق القصور والمنتجعات والفنادق، إذْ لا يحلو له النوم إلا على رغاء مصيحة وبنت صوغان وعلى ترجيع القصائد التي تنزفها الربابة.
كان الأكل طيبًا والنصيحة الرقيشية في محلها لولا الحزن في عيني أبي سعيد صاحب المطعم على بلد النهر الليبي العظيم التي تذبح بسكاكين حفتر ومن لفَّ لفَّه. وفايز السرَّاج ومن لفَّ لفَّه.
عدنا إلى الشاطئ الحالم في «جومتين» نتأمل بتايا التي تستعد لسويعات الغروب فبحر الصين الجنوبي اشتاق لقرص الشمس الذي سيكسر كدر ألوانه فدخلنا تحت شماسي الشاطئ لتقترب منا صاحبة البلاج التي تؤجر هذه المساحة الهادئة منه فعرضت من «الكول بوكس» حبات نارجيل مدفونة بالثلج فمددنا قصباتنا لنرتشف شهدا كان مزاجه «دهاريزيا».
وبينما أرتشف شهد النارجيل كانت عائلات تايلند مع خمسة ملايين سائح يؤم هذه الشطآن كل عام تتقاطر إلى الشاطئ مع أطفالها مغتنمة عطلة المدارس ما يجعل بتايا مصيفًا عائليًا نظيفًا وآمنًا للعالم.
ورغم حداثة المصيف على خارطة السياحة العالمية إلا أن الحكومة المحلية لبتايا بالتعاون مع الشركات التايلندية والعالمية ضخت المليارات من الدولارات في البنية التحتية والمنتجعات والفنادق والمتنزهات والمطاعم بدءا بمنتزه نونج نوتش الاستوائية الذي يتفنن ببساتين الفاكهة والخضروات إلى عالم المرح مع الدلافين والتعرف على أسماك القرش وكائنات الأعماق وعجائب المرجان الذي تبهر به بتايا زوارها.
مرورا بحديقة الألعاب المائية للأطفال بما توفره من تزلج على الماء إلى منتزه الفيلة التي تأخذ العائلة في جولة مرحة على ظهور الفيلة، إلى قرية النمور الآسيوية بما تظهره من رعب إلى بحيرة التماسيح التي تتيح للزوار امتطاء حرافيشها إلى اللعب مع القردة وإطعامها الموز والفول السوداني في حديقة القرود.
كما أقامت بتايا قريتين  تايلندية  حشدت في الأولى أهم معالم مملكة سيام واصطفت في الثانية مشاهد العالم بين برج إيفل إلى بج بن إلى برج بيزا المائل وغيرها.
تركنا «جومتين بيتش» ومشينا خطوات كتبت على ممشى «أمفو بانج ليمونج» وفوقنا  ذات الشجر الذي يهفهف في «الحافة والقوف وعوقد والحصيلة والدهاريز» ونفس النسيم والرطوبة والملح.
وسفحنا الزمن المتبقي في السوق فدخلنا «مول ترمينال ٢١» الذي  تخرج فيه بتايا من فوضى الرمل ورضاب الموج وفتيت المحار لتمشي على سيراميك لامع كالمرايا.
توقفت طويلا عند اسم المول بما يحمله من رائحة السفر وروح المطارات وتكثف التساؤل مع دلالات مرافق المول بما تحمله من مفردات السفر والترحال.
لقد أقامت الشركة المالكة لـ «مول ترمينال ٢١» أمام المبنى طائرة بحجم البوينح الحقيقية وهي في وضعية التحليق.
ووزعت مرافقه على أسماء أشهر المطارات ومحطات القطارات، فهناك الدرج الكهربائي الذي يرفع عبارة «لندن قاعة المغادرة M» وآخر يرحب بقاعة «الوصول إلى لندن» وثالث يشير إلى «باريس قاعة الوصول G”
كما أجلسوا تمثالا لونيستون تشرشل وفي فمه سيجاره الأشهر وقد بدا بوجهه الأسود وبرنيطته السوداء وبدلته الرمادية الملطخة بالسواد كأحد عمال مناجم الفحم.
وكان زوار بتايا يغزلون طوابق المول الستة تحت ديمة من الموسيقى التايلندية.
احتوانا مقهى «After you» وتلونت قائمة أطباقه بالمعجنات والكيك الياباني المثلج من «ميلو فولكانو» إلى  «كاكيجوري» إلى «ميلي كريب» وانتهاء ب «وارم كليه» .
وختمناها بجلسة في ستاربكس لنكسر بقهوته الأمريكية المرة مرارة الزمن الأمريكي بعض سعرات معجنات «After you» ونستمتع بالواي فاي المجاني.
خرجنا من «مول الترمينال ٢١» وبتايا تتلفع شالات الليل والشجر بدأ في التثاؤب فمخرنا الشوارع التي ينثر فيها «التك تك» الأضواء وتزفها موسيقى العربات الجائلة  واللوحات الراقصة للمطاعم والمقاهي لتنقسم بتايا بين عيون تايلندية تزداد صغرا حين تنعس مع أول الغروب وأخرى تتكحل بما يليق وفساتين السواريه السوداء فللنهار ناسه ولليل ناسه.
وخشية من أن يكون سائق السيارة بين ناس النهار أو من الذين ينعسون مع أوبة الطيور لأعشاشها والسرح لحظائره أسرجنا جمل الليل لنعود إلى بانكوك نجترح الظلام والصمت، وبين آونة وأخرى أفتعل حديثا لا معنى له مع السائق لأتأكد أن عينيه التايلنديتين مفتوحتان على مفاجآت الدرب الطويل.
وكلما رابني صمته دحرجت أسئلتي دون أن أنتظر إجابات مقنعة.
لقد غاب القمر الشاحب الذي رآه الشاعر التايلندي زكريا أماتيا كما جاء في مجموعته الشعرية لا عوانس في القصيدة التي نشرتها مجلة نزوى، وهاهو المشهد الأسود بكافة زواياه يتجلى في طريق العودة إلى بانكوك.
ومعه قصائد زكريا أماتيا :
«النجوم تبتلع الجبال
جبلًا جبلًا فتختفي في الظلام.
الراعي تبدد فجأة
وعصاه مكانها في المرعى.
من سيشعلُ النار صباح الغد؟
ولهذه الليلةُ ثوبٌ أسود،
لكن النور يمرقُ من ثقوبها،
ممسكة بسر العالم» .
وبينما ندخل منطقة «سنترال إمباسي» حيث يشمخ بارك حياة كان النور يمرق بالفعل من مرايا المبنى الخرافي لكنني لم أمسك بسر العالم.
وبينما تسارعت أيام مملكة سيام وجدتني أمام نافذة الطائرة أشم بحرا آخر أجمل من كل البحار وشاطئا آخر أجمل من كل الشطآن إنه بحر عمان فرحت أدندن برائعة نزار :
أحبكِ حتى يتم انطفائي
بعينين مثل اتساع السماء
إلى أن أغيب وريدًا وريدًا
بأعماق منجدلٍ كستنائي
إلى أن أحس بأنكِ بعضي
وبعض ظنوني وبعض دمائي
أحبكِ غيبوبة لا تفيق
أنا عطشٌ يستحيل ارتوائي
أنا جعدة في مطاوي قميصٍ
عَرَفْتُ بِنَفْضَاتِهِ كبريائي
أنا عَفْو عينيكِ أنتِ كِلانا
ربيع الربيع عطاء العطاءِ
أحبكِ لا تسألي أي دعوى
جرحْتُ الشموس أنا بادعائي
إذا ما أحبكِ نفسي أحبُّ
فنحن الغِناءُ ورجْعُ الغِناءِ.
———————————
بتايا ٢٨ أبريل ٢٠١٩م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق