العام

الخالدون لا يرحلون

خلد فجر الحادي عشر من يناير، من عام 2020 في ذاكرة العمانيين بحزن عميق، كما خلد يوم الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970 بفرح مبهر.
في يناير، استيقظوا على فجر كئيب، فبكوا كثيرا، صغارهم وكبارهم، رجالا ونساء، لم يخجل الكبار من الدموع وهم يعزون بعضهم بعضا في رحيل أبيهم.. قابوس، والصغار الذين عرفت أرواحهم محبته وهم في نعومة أظافرهم، يتهجّون حروف كلمة «قابوس» ببهجة، ويقبّلون صورته بما لا يمكن أن يفسر كيف يمكن للحب أن يتجذر هكذا..

رؤية:
محمد بن سيف الرحبي

وفي يوليو من عام 1970م كان ذلك الفجر القادر على تبديد ظلمات، رزح تحت ثقلها العمانيون، فتقاسمتهم أوجاع الفقر والتخلف والمهاجر، قريبها وبعيدها.
شعر «أبناء عمان الأوفياء» أن رحيله انكسار مذهل، انكسار قلوب وأرواح، فقد عرفوا، منذ فجر يوليو، ذاك، وعايشوا على امتداد أربعة قرون، كيف يولد وطن جديد على يديه، باني نهضة عمان الحديثة، وطن استعاد هيبته وعزته وكرامته ومجده، وأدركوا ماذا يعني أن يكون الحاكم محبا لوطنه، يسهر على متابعة تفاصيل بنائه، وأن ذلك الفجر الذي وعدهم بإشراقته على عُمان ستكون له آلاف الإشراقات على امتداد نحو خمسة عقود مثلت حلقة عمل وطنية كل يوم ينهض فيها منجز.
استيقظ العمانيون فجر الحادي عشر من يناير على رحيل من حملهم على مشاعل الأمل في 23 من يوليو، وبين الزمنين ما يقارب خمسين عاما من العطاء والجهد والبناء، قدم لهم سلطانهم دروسا في ما لا يحصى من مواقف..
دروسا في البساطة والتواضع حينما كان يجلس على كرسي خشبي يستمع إليهم في مخيم داخل الصحراء، ويطوف بسيارته بين حاراتها، وأيضا دروسا في الأناقة والبروتوكول والفخامة حينما يرونها بتلك الشخصية التي شكلت مثلا أعلى للكثيرين كي يقتدوا بها، بما تمثله من صورة جمالية ناطقة بالشخصية العمانية، دون إخلال بهويتها.. فاجتمعت «البساطة» و «الأناقة» كما عرفناها وعرفنا بها العالم أينما يممنا شطر وجوهنا.. وأفكارنا.
دروسا في الحفاظ على الهوية، فتجنبنا بحكمته الذوبان في القشور الشكلية كما حصل مع شعوب أخرى، يشار إلينا بأننا عمانيون، من هذه الأرض، قادمون من تشكيلة فخمة من البحار والصحاري والجبال، ومن عمق التاريخ..
دروسا في التعامل بالحوار، في الداخل والخارج، كيف نفطن لشظايا الفتن داخليا فكان العفو والتسامح، ومع فتن الخارج فكان منهاجنا النأي بالنفس وعدم التدخل في شؤون الآخرين كي لا يتدخل الآخرون في شؤوننا.
دروسا في العطاء، في أن يبقى بينك وبين خالقك، لا للتباهي والظهور الإعلامي، وكم من مكرمات توزعت على خارطة الأرض تشير إلى السلطان قابوس دون أن يظهر اسمه عليها، فهي «لدفع البلاء» كما سمعت من ينقلها عنه.
دروسا في كيف يمكن للإنسان أن يكون الخير جواز سفره المرافق للجواز الرسمي، فأن تقول إنك من عمان حتى تفتح الشوارع لك، الأبواب، القلوب، الابتسامات، الخدمات التي تقدم إليك برضا، فأنت من بلاد «السلطان قابوس».
دروسا في المحبة، حيث لا نقف على الشوارع ننتظر مرور الموكب بالإكراه، بل نمضي الساعات ترقبا كما يتمنى القلب، ونتبادل الصور فرحا لأن جلالته أشار بيده محييا، وأنه ابتسم، وأن صور «البروفايلات» في حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي تفخر بصور جلالته.. وأعظم الدروس، كيف تنال محبة شعبك، رغم كل التحديات التي يواجهونها في حياتهم، لكنه الإيمان الذي غرسه مؤسس نهضة عمان الحديثة أن الحياة تستحق المواجهة بالصعاب والتحديات.
دروسا في مواجهة التحديات والصعاب، ما حدث مع الأنواء المناخية عام 2007م، حيث رفض استقبال المساعدات، وقال إن أبناء عُمان قادرون على تحمل الشدائد، فكان درسا بليغا لنتعلم منه ما نفعنا في الأنواء اللاحقة.
دروسا في الرؤية الجمالية، للقلوب والمعمار، السكينة والطيبة في قلوبنا، وفي ما حولنا، حيث المدن جمالاً ونظافة وهدوء، كما يليق بقلب وروح تماما، ومن يزور البلاد من خارجها يدرك أكثر قيمة تلك اللوحات الجمالية المزروعة بهاء في أرجاء العاصمة مسقط، أو خارجها، أشبه بمكان تصوير حيث كل شيء موضوع في مكانه، كما وصفه أحد المنتجين السينمائيين الكبار، الجبال التي لم تكن قاسية بل بدت «أنسنتها» واضحة لتعيش بجوارنا كواحدة منا، البحار التي بقيت نظيفة وحالمة، الصحاري التي تكتب لغتها حسنا ورونقا، والشوارع التي يصفها الزوار بالناعمة.
دروسا في الحياة وفي الممات، شيعه أبناء وطنه، حملوه إلى مدفن كالذي يدفن فيه أبناء وطنه، وهو الزعيم الذي عرفته الكرة الأرضية راية سلام ومحبة، ترك بلده بما لا يقارن عمّا يوم أن تولى زمام الحكم فيها، تاركا ما لا يوصف من منجزات، وهذه حالة نادرة خاصة في عالمنا العربي.
فجر الحادي عشر من يناير لم نستيقظ وحدنا، كعمانيين، فيه على الحدث الذي لم نتوقع معايشته ونحن على قيد الحياة، مع إيماننا التام بأن لكل أجل كتابا، وإنما استيقظ كل مقيم على هذه الأرض الطيبة ليشاركنا لحظات البكاء على رحيل مباغت، نعم هو مباغت رغم كل الإشارات الدالة عليه بسبب الحالة الصحية لجلالة السلطان قابوس، رحمة الله عليه ورضوانه، فلم يكن مفاجئا أو غريبا ذلك الحزن الذي لفّ ملايين البشر داخل عُمان وخارجها، ويزيد الألم أكثر مع أولئك الذين عرفوا مناقبه طيب الله ثراه، وما غرسه من شجر طيب، فكان الحصاد طيبا.
بين زمن مجيئك في تلك السيارة المكشوفة إلى القصر، ورحيلك عبرها إلى القبر، زمن من الخير عرفته عُمان، أمانا واستقرارا وحيوية.. لا ينكره إلا جاحد، ولا ينكر ضوء الشمس إلا أعمى..
ذلك الفجر الممتد بشعاع نوره منذ عام 1970م بقي معنا حتى فجر الحادي عشر من يناير عام 2020م، يوم أن أصابنا الشك فيما تراه أعيننا، فالشاشة تكذب حيثما لم نعرف يوما أنها تفعل ذلك، والمذيع يختبر صبرنا فربما ستطلّ بعد قليل لتقول إن ما يحدث كان للأسباب التي تعلمونها، سنرى الهيبة في طلتك رغم قسوة المرض، وسنراقب حركات يديك التي أتعبها بناء عمان، وآثار التعب التي أوجعك بها المرض الذي غدر بنا جميعا يوم أن تسلل إلى جسدك الذي رأينا فيه دوما القوة والهيبة.
لم تكن وحدك الذي يؤلمك المرض، جميعنا كنا معك، نسأل الله أن يشفيك، وأن يبقيك لأجلنا، ولأجل كل شبر في عُمان، لنحتفي معا باليوبيل الذهبي، من عمر نهضتنا المباركة، بعمرنا الذي عشناه معك، حيث كبرنا مع مجد نهضة أسستها على المحبة والتواصل بين القائد وشعبه، وكبرت النهضة معنا، نرى خطواتها البيضاء تجمل الجبال والصحاري.. والسيوح.
لكنها إرادة الله فوق كل إرادة..
الحقيقة التي لا بد منها، الحقيقة المرة التي نتجرعها جميعا، لم تترك عظيما على وجه الأرض..
رحلتَ قابوس عظيما كما عشتَ، عظيما في قلوبنا، رافقتك ملايين الملايين من الأدعية، منذ أن حكمت فعدلت، وحتى مثواك الأخير، وبقيت معك وأنت في قبرك، يقفون بالعشرات يوميا على جدار المقبرة، يصلون ويرفعون أكفهم بالأدعية لتكون في روضة من رياض الجنان، فأياديك البيضاء عرفتها بلادك عُمان، وبلاد أخرى أعطيت فيها من المكرمات، فلم تعرف شمالك ما أنفقت يمينك.
هل رحلت حقا؟!
الخالدون لا يرحلون، وستبقى خالدا بما غرسته أياديك من زرع طيب، وقد جعلنا قلوبنا لك قصورا، فعش ما شئت، فمثلك لا يموت طالما أن مثل هؤلاء الرجال سيحملون راية المسيرة بعدك، وأبناء عمان الأوفياء ماضون على عهدك، جنودا لمن اخترته لعمان وشعبها حاكما، نكمل معه المسيرة والمسار.
وعُمان لم تنتقل بين عهدين في ذلك اليوم، 11 يناير 2020، بل هي في عهد واحد، راية أوصى بها زعيم تسلمها زعيم، وفي لحظة تاريخية يتجدد العهد على أن نبقى صفا واحدا من أجل عُمان وسلطانها، قابوس أو هيثم، فلا تنازل عن مجد شمخ بالبذل والإخلاص والسلام والمحبة، كما أرسلنا رسائله واضحة إلى كل الدنيا، فاحترمتنا به، ولا تراجع عن استمرارية البناء كما يليق بعُمان..
لقد تركت لنا إرثا عظيما، وسنبني عليه، وسيكبر البنيان أكثر وأكثر، كما يليق بالوفاء لك، والامتنان لكل ما قدمته وزرعت بذوره في بلد طيب، لا ينبت إلا طيبا.
واجب علينا أن نرفع رايتك يا بلادي كما هي دوما خفاقة بالمجد، يجمعنا نبض واحد ينطق عُمان، وقلب واحد نستشعر نبضه هو قلب عُمان الجديد جلالة السلطان هيثم بن طارق، حفظه الله وبارك في عمره، وأن نبقى يدا واحدة، حيث الشعب متحد، وحيث البلد عظيم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق