مقالات

تبيّنَ الخيط الأبيض

حسن المطروشي 

لم أنتبه كثيرا للتغيرات التي يطلقون عليها بيولوجية أو سيكولوجية، التي يمر بها هذا الجسد المنهك عابرا جسور الأبدية ومحطات الرحيل والغياب بانكساراته وحتوفه المتوالية، والتي لا تترك للمرء هنيهة يتأمل فيها تحولاته الخاصة على صعيد الذات والتكوين.

هذا الكرسي الذي أجلس عليه اليوم مطرقا بين يدي الحلاق كشف لي عن كثير من الخيانات والتمردات التي يقودها ضدي مكونات جسدي وأعضائه. لقد هالني منظر الشعر المتساقط، على قطعة القماش التي وضعها الحلاق على صدري. كان الشعر يهمي تحت قعقعة المقص بهوادة وسكينة مخلوطا بنثارة بيضاء كحباة برد تائهة في محيط.

يا إلهي .. كيف لم أنتبه لكل ما يجري داخل رأسي وخارجه؟ .. هل أصدق ما يجري، هل حقا حدث شيء ما أم هي مجرد أضغاث أحلام. إنني أكرهها حتى ولو كانت أضغاث أحلام، تماما كما كان يكرهها ابن سيرين الذي يرى أن رؤيتها في المنام للشاب تعني الفقر!

لن أطلب إخفاءها، ولن أتوسل مواراتها في مركّبات الأصباغ والكريمات التي تملأ رفوف المحال التجارية وإعلانات القنوات الفضائية، ولن ألتمس ذلك في محلات الأعشاب والعطارة، ولن أطلب من الحلاق أن يخفيها مثلما طلب الإمام أبو حنيفة رحمه الله حين قال للحلاق: خذ من هذا الشعر الأبيض؟ فقال الحلاق: إن أخذت منه فسوف يزيد. فتعجب الإمام وقال للحلاق: إذن خذ من الشعر الأسود حتى يزيد!
لن أبحث عن سببها .. حتما لن أبحث عن الأسباب أهي الخلايا بمكوناتها الكيميائية العجيبة، أم هو التيه والتشرد والغياب والحنين، أم هو الخوف والقلق، أم هي العزلة الكثيفة ونوازعها المدمرة، أم هي هواجس الروح وانظفاءات الأحلام، أم هي هذه القصيدة التي حل صيفها مبكرا على حديقة العمر؟
كل ما أتذكره الآن أن ما كان يسقط من شعري عند الحلاقة قبل اليوم كان لونه أسود فقط!

*****

 

أتَحَسَّسُ مقْعدَه فارغاً
داخلَ القلبِ،
صُحْتُ: َلِمَنْ سوف تتركني
حينما وَهَنَ العظمُ مني؟
كأنْ لَمْ تَقُدْني إلى فَلَواتِ القصيدةِ،
ما سِرْتَ بي حافياً للجنونِ
وبعْثَرْتَني في عيونِ الجميلاتِ،
أوْحَيْتَ لي بالتشَرُّدِ في شجرِ المارِقينَ،
وقلتَ ليَ:
اهْبطْ لَهُمْ يا حَسَنْ
يا نبيَّ الغزلْ!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق